مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش) : بين الجامعة والكلية الحربية وقاسم الخليل
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
قرأت خبراً يذكر حوران فتذكرت موقف أحد رجالاته في حادثة قررت مصيري.
أنهيت المرحـــــــلة الإعدادية والثانوية في ثانوية ابن خــــــــلدون (الفرير سابقاً) بدمشق، ونلت منها الشهادة الثانوية (البكالوريا الموحدة) سنة 1951. تقدمت بموجبها إلى امتحاني انتساب إلى كل من الكلية الحربية في حمص، وإلى المعهد العالي للمعلمين (ما يقابل كلية التربية اليوم) في كلية الآداب في الجامعة السورية (جامعة دمشق اليوم) باختصاص جغرافية. فكنت الأول من بين الناجحين في المعهد، والثاني من بين المتقدمين إلى الكلية الحربية.
وكان الحماس للانتساب إلى الجيش في ذلك العهد في أوجه، كما كانت رتبة مـــــــــلازم في الجيش والتبختر في طريق الصالحية الدمشقي مطمح أغلب الشباب وحلمهم. وكانت رغباتي متفقة مع ذلك الاتجاه، لكن مجلساً عائلياً حضّرت له المرحومة والدتي حسم الأمر بين الخيارين لصالح الانتساب إلى الجامعة، وكان العسكريون في الأسرة أكثرهم تشدداً في هذا الخيار وتشجيعي على اتخاذ قرار انتسابي إلى الجامعة، من منطلق (فليخرج من الأسرة ومن الشركس فرد لا يعتمد فم البندقية لكسب قوت يومه- ليأكل خبز منها). وهكذا كان، وانتسبت إلى الجامعة السورية سنة 1951، طالباً نظامياً في المعهد العالي للمعلمين في اختصاص علم الجغرافية. وكان طلاب المعهد المذكور يتقاضون مرتباً يزيد على المائة ليرة سورية شهرياً، وهو مبلغ جيد في ذلك الحين.
لكن هذا القرار سبب لي مشكلة لم تكن في الحسبان. إذ أصر آمر موقع دمشق للجيش السوري والذراع الأيمن لأديب الشيشكلي رئيس الجمهورية، المقدم قاسم الخليل، وهو ضابط حوراني شهم شهد حرب 1948 وكاد أن يستشهد فيها، أصرعلى أن يصبح الناجح الثاني على كافة المتقدمين للكلية الحربية في سورية، ضابطاً في الجيش، وليس خريج جامعة. ودعم إصراره بالفعل، بإرساله دورية من الشرطة العسكرية مدججة برشيشات من طراز (تومي جَن) إلى دارنا في المهاجرين، لإيصالي إلى الكلية العسكرية بحمص مخفوراً. وفي مكتبه في البرامكة، عنفني وأمرني بالالتحاق بالكلية فوراً.
وكان مما قاله لي (انتو الشركس خلقتوا للسلك العسكري)، بل وشتمني لتخلفي عن الالتحاق بالكلية، فساءني ذلك، لكني لم أظهر استيائي، بل طلبت منه إمهالي يومين، فوافق بكفالة ضابط شركسي كان في مكتبه، وهو الملازم بيبرس أنجوق الذي كان عارفاً بالمجلس المذكور. خرجت من المكتب وهربت فوراً إلى مرج السلطان حيث اختبأت حتى انقضت مدة الالتحاق بالكلية العسكرية.
وهنا قد يتساءل المرء عن تصرف المرحوم قاسم الخليل غير المألوف هذا. والذي استغربته أيضاً. لكنني علمت فيما بعد أن هذا الرجل كان معجباً بالعسكريين الشراكسة، وكان يسعى إلى شحن الجيش السوري بهم، لأنه يدين لهم ببقائه حياً في معركة سمخ التي نشبت بين الجيش السوري والإسرائيليين في عام 1948. ففي تلك المعركة أصيب الخليل في عنقه وفي جسمه، وتراجع جنوده وهرب رفاقه، تاركين إياه ينزف في أرض المعركة. وبوصول المنسحبين منها إلى موقع كتيبة المغاوير الشركس في الجيش السوري (كان من أحد مهام الكتيبة المذكورة إطلاق النار على أرجل الهاربين من أرض المعارك)، سألهم الشركس عن قائدهم قاسم الخليل، فأجابهم البعض أنه قُتل، وقال آخرون أنه جُرح ولم يتمكنوا من حمله لكثافة نيران العدو فتركوه هناك.
فما كان من المغاوير الشركس إلا أن أرسلوا ثلاثة من خيرة رجالهم إلى أرض المعركة، حيث وجدوه ينزف وهو في الرمق الأخير. حمله أحدهم وحمى الآخران تراجعهم، حتى أوصلوه إلى بر الأمان ومنه إلى المستشفى العسكري في المزة بدمشق. توفي المرحوم في أواخر ستينات القرن العشرين، ولسانه يلهج ، وبصوت خافت شبه مبحوح سببته إصابته في عنقه، بشكر الشركس والثناء عليهم.
وهكذا رسم القلم وليست البندقية مسار حياتي.
عادل عبدالسلام (لاش)
13 – 3 – 2019