You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

د. عادل عبدالسلام (لاش) : في ذكرى محمد صفي الدين أبو العز

د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر

في يوم الجمعة الـ 27 من شهرشباط/ فبراير سنة 2015 فقدت الجغرافيا العربية علماً من أعلامها بوفاة الأستاذ الكبير الدكتور محمد صفي الدين أبو العز رئيس الجمعية الجغرافية المصرية ووزير الشباب ومدير معهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم الأسبق.

لم أحظ سوى بلقاء واحد مع هذا الكبير ولمدة بضع سويعات فقط…..كانت كافية لدعم ما جمعته عنه من خلال مراسلاتنا وروايات طلابه وزملائه، ومن خلال مؤلفاته التي لم تفارقني طوال ميسرتي الجغرافية – الجيمومورفولوجية. ففي ربيع سنة 1975 وكنت حينها معاراً من جامعة دمشق للعمل في جامعة الكويت، وصلتني رسالة من الأستاذ الدكتور صفي الدين أبو العز، كانت فاتحة لنشاط علمي وانجازات جغرافية مهمة في مسيرتي العلمية والأكاديمية، أكسبتني مكانة عالية على مستوى العالم العربي. تضمنت الرسالة عزم معهد البحوث المذكور القيام بدراسات مسحية جغرافية لبلدان العالم العربي، كل بلد على حدة. بمشاركة خيرة المختصين من رجال العلم في البلاد العربية وجامعاتها ومعاهدها. ويذكر فيها الأستاذ صفي أن البداية ستكون بدراسة دولة البحرين دراسة مسحية شاملة، وأن خيار المعهد وقع علي للقيام بتغطية أرض البحرين وسطحها من الناحية الطبوغرافية – التضاريسية والجيومورفولوجية ، ويأمل مني الموافقة على الإسهام في الدراسة. فكان ردي بالإيجاب شريطة أن تكون دراستي ميدانية أساسها نتائج البحث الحقلي المباشر لعدم وجود أية دراسات مشابهة لها بأية لغة كانت، وإلا فإنني أعتذر عن المشاركة. ولما كانت الدراسات الحقلية شبه نادرة في المؤسسات العلمية العربية، وتتطلب رصد مخصصات مالية تنأى الجهات المختلفة عن تمويلها، توقعت من الأستاذ صفي رداً بالاعتذار عن تلبية شرطي في زيارة دولة البحرين ودراسة جزرها ميدانياً. لكن العكس هو ما حصل، إذ جاء رده سريعاً ومتفهماً بل ومشجعاً، ويقول فيه أنه سيبذل قصارى جهده لدى الجامعة العربية والمعهد، ولدى السلطات البحرينية وغيرها لتوفير كافة متطلبات عملي المسحي براً وبحراً وجواً، وأنه بانتظار تحديدي لمواعيد سفري وبرنامج عملي وإقامتي في البحرين. فلم أصدق ما أقرأ لمعرفتي بشمس البلاد العربية.

سافرت إلى البحرين مع انتهاء واجبات العام الدراسي في جامعة الكويت، حيث وجدت مسؤولي التربية والتعليم بانتظاري. وقدمت لهم برنامج زياراتي وعملي الحقلي في مناطق البحرين في أمسية يوم وصولي، وبدأت العمل صبيحة اليوم التالي. الأمر الذي لفت انتباه مدير التربية الأستاذ حمد علي السليطي ومعاونيه، إذ توقع مني أن أمضي يوماً أو أكثر للراحة وزيارة المسؤولين. ولقد خصصت لي سيارة دفع رباعي مع سائق ماهر تبين أنه رئيس فرقة فنية للموسيقا والغناء الشعبي البحريني -الخليجي، دعاني لأكثر من مناسبة زفاف وأمسيات أحيتها فرقته في المحرق وبعض القرى البحرينية. ولقد زودني الأمن البحريني بالوثائق الضرورية للعمل في مناطق الجزيرة الأم وبقية الجزر، وبصورة خاصة في المنطقة الجنوبية شبه المحظورة، وفي أرخبيل جزر حوار المصاقبة لقطر، والمتنازع على ملكيتها بين الدولتين. كذلك وفرت لي الدولة وسائط النقل البحري لدراسة السواحل والأرصفة المرجانية وغيرها. ومقابل هذا التعاون البحريني الذي ارتقى إلى مستوى التعاون الشخصي من قبل عدد من الوزراء، بشكل خاص السيد الشيخ عبدالعزيز آل خليفة وزير التربية والتعليم، والسيد الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة وزير البلديات والزراعة الذي استضافني في منزله وأمضينا مع خبرائه وقتاً طويلاً في مناقشة المسألة المائية والزراعية والبيئية في البحرين، كما لم تأل كافة المؤسسات الرسمية ذات الصلة بدراستي جهداً في سبيل إنجاح مهمتي، مقابل كل هذا والحفاوة المرافقة له، حجبت الجهات الأجنبية العاملة في البحرين وعلى رأسهم المهندس البريطاني ر. مالوني، تقاريرها ومخططاتها ودراساتها الجيولوجية والمائية الجوفية وغيرها عني، مما اضطرني إلى طلبها من مؤسسات ألمانية عملت معها سابقاً. ليس هذا فحسب بل وحاول مالوني المذكور عرقلة زياراتي وعملي الحقلي، عبثاً.
ولقد أصدر المعهد نتائـــــــــــج البحوث والدراسات التي قام بها خمسة باحثين في ســـفر عنوانه ” دولة البحرين- دراسة في تحديات البيئة والاستجابة البشرية ” سنة 1975. ولقد علمت بصدورالكتاب وتصفحه، قبل إرساله إلي من المعهد. وللحادثة أقصوصة.

ففي أحد أيام شهر أيلول اتصل بي الأستاذ الدكتور شاكر مصطفى (مستشار أمير الكويت)، وسألني ما إذا كنت شاهدت كتاب دراسة البحرين، فاجبته بالنفي، فأعلمني أنه قادم لزيارتي في مسكني. ولما وصل وضع الكتاب أمامي بحنق وانزعاج، وسألني أن أبحث عن أسماء الباحثين الذي ألفوا موضوعاته. وبعد التدقيق والبحث عنها في المواقع المخصصة لذكر أسماء البحثين والمؤلفين عادة، لم أجد الأسماء. ثم طلب مني قراءة المقدمة التي كتبها الأستاذ الدكتور محمد محمود الصياد، المشرف والمحرر العلمي للدراسة كلها، وهنا فقط ذُكرت الأسماء مع تفصيل وتقريظ دراسة كل باحث مشارك. بعدها قال المرحوم غاضباً: هل يتوجب على القاريء أن يقرأ ثمان صفحات من القطع الكبير مطبوعة بالبنط الصغير، ليعرف أسماء المؤلفين ؟ إن هذا ظلم وإجحاف بحقهم. ولقد أكبرت في الدكتور شاكر حرصه على الأمانة العلمية والأخلاقية، إضافة إلى استيائي الشديد من العملية.

كان رد فعلي على الحادثة، وبعد ما استلمت نسختي من الكتاب، قيامي بكتابة رسالة للدكتور صفي بينت له فيها رأيي بما حدث ورفضي للأسلوب الذي نشرت فيه البحوث، بكلمات قاسية ولكن ضمن حدود الأدب الأكاديمي. ومضى ما يقرب من ثلاثة أسابيع لم يصلني خلالها أي ردعلى رسالتي. بعدها وصلتني رسالة رسمية من المعهد موقعة من قبله رحمه الله يأمل فيها مني أن أشارك بدراسة مشابهة لدراسة البحرين في مشروع دراسة مسحية شاملة لدولة الإمارات العربية المتحدة، مع الإشارة إلى وعد بتلافي الأخطاء التي وقعت في كتاب البحرين. وذكر أنه سيشرح لي ملابسات الموضوع في رسالة خاصة. لكنني كنت قد اتخذت موقفاً سلبياً من المعهد كنت صرحت به أمام كثيرين، ومن بينهم زملاء أوطلاب للدكتور صفي الذي كان رئيساً لقسم الجغرافية في الكويت قبل مجيئي. فكتبت له رداً، رفضت فيه العمل مع المعهد وبينت له الأسباب….. كتبت الرسالة على أن أضعها في صندوق البريد في اليوم التالي، فإذا برئيس قسم الجغرافية في جامعة الكويت الأستاذ الدكتور طه نجم يتصل بي بعد سويعات ويقول: ” إن الدكتور صفي وصل اليوم إلى الكويت في زيارة خاطفة، ويأمل أن يقابلك شخصياً في القسم مساء هذا اليوم، ولقد دعوت أعضاء القسم إلى اللقاء به أيضاً “.

وفي حديقة القسم قابلت الرجل لأول مرة. ولقد عرفني فوراً لأنه كان يعرف الحاضرين ما عداي. وبعد السلام والعناق، طلب الجلوس إلى جانبي معتذراً عن احتلال المقعد الذي خصص له. بحجة أن الجميع يعرفونه ويعرفهم، وأنه يود التعمق في معرفتي. قال ذلك كله بأسلوب لطيف مغمس بالروح المصرية المرحة. ولقد علمت فيما بعد أن حملة لقب (أستاذ) من بين الحضور، قد امتعضوا من هذا التصرف، لأنني كنت (أستاذاً مساعداً، أو مشاركاً).

بعد التحية وتبادل الأحاديث العادية المألوفة، التفت الدكتور صفي إلي وخاطب الجميع قائلاً:
” اسمحوا لي أن أقدم لكم الدكتور عادل من خلال عمله الذي أنجزه عن البحرين ومن خلال رسائله التي عرفتني به….”، وانطلق يتحدث عن دراستي الجيومورفولوجية للبحرين، وأنها الأولى من نوعها وغير المسبوقة في أية لغة، وغير ذلك من جوانب علمية تمنى لي من خلالها النجاح والتقدم، وقال إنه مطمئن على الجيومورفولوجية العربية بوجود أمثالي بين ممثلي الجيل الجغرافي الثاني. انتقل بعدها إلى الحديث عن الدراسة المسحية الثانية لدولة الإمارات، التي أجمع المسؤولون عن مشروع الدراسات المسحية للبلدان العربية على تزكيتي للإسهام فيها، وأنه شخصياً يرجو مني الموافقة على التزكية. وهنا فاجأ الجميع بالتعريج على الخطأ الذي وقع في دراسة البحرين وإغفال أسماء الباحثين إلا في سياق الحديث في المقدمة مع الاعتذار، وذكر موقفي المستاء من الحادثة. وأردف ذلك بوعده القاطع بعدم تكرار ذلك، وبرجائي المشاركة في دراسة الإمارات.
كل هذا والرسالة التي كتبتها له في جيبي، وكان كل ماقاله الدكتور صفي يشكل أجوبة على معظم تساؤلاتي وشروطي للعمل في المستقبل. ما جعلني أوافق على العمل في الدراسة القادمة وغيرها. كما مزقت على اثرها الرسالة.

هذا ملخص معرفتي وعلاقتي بهذا الإنسان الكبير القلب، من الجانب العلمي والسلوك الأخلاقي الرفيع، الذي يحلم الكثيرون بالتحلي بهما في جامعاتنا اليوم، ليس هذا فحسب بل وعرفته من الجانب القومي والوطني المغرق في حب ما فرط به العرب والمسلمون في هذا الزمن التعيس، من خلال رواية الزميلة المرحومة أستاذة التاريخ الدكتورة خيرية قاسمية التي شاهدت الكتور صفي يبكي أمامها وشاركته المصاب، أمام العاملين في معهد البحوث والدراسات العربية كافة، حين شاهد العلم الإسرائيلي يرفع في سماء القاهرة. وكان آخر اتصال لي به في صيف 2012، حين هاتفني للإطمئنان علي وعلى أهلي في دمشق وسورية، وأخبرني أنه حصل على رقم هاتفي من صديق مشترك لنا، زاره في مصر، وأخبرني أنه يود زيارتي في دمشق قريباً إن سمحت له الظروف بذلك. فارقنا صفي ولم أعلم بوفاته إلا بعد أمد ليس بالقصير، وفقدت به رحمه الله وطيب ثراه معلماً وناصحاً علماً في الجغرافيا والأخلاق الراقية….. وعزاؤنا هو في ما تركه لنا من إرث وأعمال تبقي ذكراه حية ونبراساً للأجيال القادمة.

عادل عبدالسلام
دمشق 27 – 2 – 2019



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

عادل عبد السلام

الدكتور عادل عبدالسلام لاش من أبناء قرية مرج السلطان، من مواليد عسال الورد عام 1933. يحمل دكتوراه في العلوم الجغرافية الطبيعية من جامعة برلين الحرة. وهو أستاذ في جامعة دمشق منذ عام 1965. له 32 كتاباً منشوراً و10 أمليات جامعية مطبوعة، بالإضافة إلى أكثر من 150 مقالة وبحث علمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى