ان فيلم “حلب مقامات المسرة” الذي أنجزته، لا يكفي لتقديم قامة صبري مدلل وللتعرف الى البعد الأصيل والصادق فيه ومحاولة اكتشاف ذلك الدور الكبير من دون أي مبالغات يفرضها الموت، الدور الكبير في حماية الذاكرة الموسيقية والتعبير بأصالة وصدق عن مفهوم الأداء الذي تميزت به مدرسة حلب للموسيقى.
هناك مدرسة موسيقية قليلة الحظ في حياتنا الثقافية الموسيقية العربية هي مدرسة حلب ووراء هذا الرجل لا يمكن أن نكتشف هذا التراث بفيلم واحد. وأنا أعتقد ان من حسن الحظ انه في لحظة مشرقة من تبادل الحوار الثقافي مع الشاعر الإماراتي النبيل الأخ محمد السويدي حملنا همّ وأعباء فكرة الدخول الى العالم الشخصي والموسيقي والفني لصبري مدلل. كان فرصة كبيرة ومهمة بالنسبة إليّ، التوقف على شخصية نابضة بالحياة ونابضة بذاكرتها الغنائية في مدينة حلب وهو الصديق الشخصي أيضاً، شخصية مـــملوءة بالحياة والتوهج.
كم كان يشعرني وأنا أصور هذه القامة في لحظة من اللحظات أن وجه هذا الرجل العجوز يتحول من لونه الأبيض مع كل كلمة يغنيها الى ذلك اللون الأحمر الذي يكاد ان ينافس بها الطربوش الحلبي الجميل على رأسه. وحين طلبت منه ان يحول الأذان الى لحظة موسيقية صرفة وهو جالس على سريره في بيته، قدم صبري مدلل أذاناً أعتقد انه نادر وأتمنى أن يعمم على مآذننا المنتشرة لما فيه من تنوع موسيقي كبير وجميل.
تصور ان هذا الرجل العجوز عندما صورته كان في الثمانين من العمر أو أقل قليلاً، وطلبت منه أن نصعد معاً سلالم مئذنة الجامع الكبير في حلب التي كان يصعدها في شبابه، فاستعاد ذاكرته ونحن نصعد معاً بين عتمة ودوران حول سلم هذه المئذنة الجميلة بينما الحمام يتطاير من فوقنا. هذه اللحظات أذكرها كي أقول ان صبري مدلل بقي في النفس وفي ذاكرة الناس ولن يغيب.
لعل فيلم”حلب مقامات المسرة”الذي أنجزته، إعداداً وإخراجاً، هو واحد من المشاريع الثقافية التي حين تتغلب على قمع الثقافة بتحقيقها تتغلب علينا بوصولها الى الناس.
هذا الفيلم حين وجد طريقه الى المحطات الموسيقية المتخصصة خارج المنطقة، كما أذكر، لم يعرض في أي محطة تلفزيونية عربية. حتى التلفزيون العربي السوري حين أجرى لقاء تحضيراً لحلب عاصمة الثقافة الإسلامية تقدمت باقتراح عرض الفيلم في حلب ذاتها بغية وصول الفيلم الى صبري مدلل نفسه قبل أن يموت ووصول الفيلم كشيء من معالم حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، لكن ذلك لم يتحقق. لا أستغل الفرصة لأقول ذلك، أقول ذلك لشعوري بالألم وبالادلاء بشهادة موت حين أردت لنفسي أن أكون شاهداً على حياة وليس على موت.