مقالات
د. عزة علي آقبيق – القصر الجمهوري- قصر ناظم باشا في حي المهاجرين
د. عزة علي آقبيق – التاريخ السوري المعاصر
قصر ناظم باشا — حي المهاجرين
عندما تولى حسين ناظم[1] باشا أيالة سورية للمرة الأولى عام 1895م نزل في دار البارودي – والد فخري البارودي- الواقعة في حي القنوات نهاية زقاق تحت القناطر.
ليبيع داره في اسطنبول فيما بعد وليطلب من شفيق المؤيد العظم أن يشتري له قطعة أرض في حي المهاجرين[2]، لما له من طيب مناخ، ونقاء هواء وإطلالة جميلة على دمشق الفيحاء، فما كان من شفيق بيك إلا عرضها على الوالي كهدية لكنه رفض العرض ودفع قيمتها خمسين ليرة ذهبية في حين قدر الخبراء قيمتها بعشرة ليرات ذهبية فقط، ليقيم عليها فيما بعد قصره المعروف اليوم بالقصر الجمهوري. كان القصر فخماً له حدائق واسعة أمر الوالي بغرس الأشجار في السفوح المقابلة للقصر، من كافة أطرافه، وكان في الحديقة أنواع مختلفة من الورود والثمار[3].
شيد القصر على الطراز المعماري الأوروبي، بالقرب من ساحة آخر خط الترام، ساحة ذي قار اليوم، كما سميت الطريق الرئيسة التي تخترق حي المهاجرين شارع ناظم باشا، وعرفت بطريق السكة نسبة إلى سكة الترام التي امتدت عبرها عام 1913م
ومع انتهاء فترة ولاية الباشا الأولى عام 1907م، ونقل الباشا إلى اسطنبول اضطر إلى بيع القصر إلى مهندسه المصري الجنسية خورشيد وهبي[4]، وتمسك الوالي بكلمته التي أعطاها للمشتري خورشيد بالرغم من الثمن المرتفع الذي عرضه عليه السيدين بشارة ويوسف الأصفر، وتمت الصفقة وأصبح يعرف بقصر خورشيد.
استأجرته الحكومة العثمانية في بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م وصيرته مقراً رسمياً لقائد الجيش الرابع جمال باشا، وعندما تولى جمال باشا المرسيني قيادة الجيش الرابع بعد جمال باشا، أواخر الحرب عام 1918م، حول القصر إلى مستشفى عسكري حتى خروج الأتراك من بلاد الشام في نفس العام.
أعيد ترميم قصر خورشيد فقام أبو سليمان الخياط بزخرفة إحدى القاعات بكتابات عربية ونقوش مرسومة بألوان مشابهة للفسيفساء، ليقام فيه حفل بسيط عام 1920م، تم فيه تتويج الأمير فيصل ابن الحسين ملكاً على سورية. وكان ذلك قبيل حفلة تتويج الفيصل في قصر البلدية بساحة المرجة في الثامن من آذار عام 1920م. ليصبح هذا القصر مقراً لإقامة الملك.
أديرت منه كل أمور الدولة، وعقدت فيه الاستقبالات الرسمية العربية والأجنبية منذ (عام 1943) وحتى العام 1975م.
اتخذ رئيس الحكومة السورية حقي العظم القصر مقراً لحكومته بدءاً من 5-12-1920م، في ظل الاحتلال الفرنسي وظل على هذه الحال لغاية 24-8-1922م، حين أعيد إلى مالكه الأصلي الدكتور حمدي الإدلبي الذي أقام فيه مع عائلته لغاية عام 1933م، لتسأجرته منه المفوضية العراقية.
ومع تولي الرئيس شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية عام 1943م، قامت الدولة بالتفاوض مع المفوضية المذكورة ليتم الاتفاق على تبادل مقراتهما، إذ كانت الدولة تشفل قصر مصطفى باشا العابد الذي يلي قصر خورشيد من الجهة الغربية المجاورة لساحة آخر الخط؛ وهكذا تمت عملية التبادل بين الطرفين للقصرين.
تقول السيدة أيمن مصطفى العابد عندما قدم خورشيد وهبي من مصر أحب الشام وطاب له نسيم منطقة المهاجرين فاشترى مساحات واسعة من الأراضي التي عرفت فيما بعد باسم خورشيد أول وخورشيد ثان، اقترن بإحدى السيدات السوريات، وتبنى إبنها[5] وعاش في المنطقة في قصره الذي نؤرخ له الآن.
يعد القصر معلماً من معالم دمشق البارزة (تبلغ مساحة حديقته فقط عشرة آلاف متر مربع) سجل لأهم الأحداث التي عاشتها سورية، منذ العهد العثماني مروراً بعهد الدولة العربية الأولى والانتداب الفرنسي إلى عهد الاستقلال، ففي الزمن العثماني كان القصر مركز ولاية الوالي ناظم باشا حيث كان يشرف منه على إدارة شؤون الشام، كما قامت الحكومة العثمانية في بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 باستئجار هذا القصر وجعلته مقراً رسمياً لجمال باشا قائد الجيش الرابع، ولما تولى جمال باشا المرسيني الملقب بالصغير بدلاً عن جمال باشا قيادة الجيش عام 1918 صيره مستشفىً عسكرياً حتى خروج الأتراك من دمشق في نفس العام، ومن ثم استخدم هذا القصر مقراً للرئاسة السورية منذ عام 1920 حين تُوج فيه الملك فيصل الأول ملكاً على بلاد الشام في 8 آذار عام 1920 م قبل إعلان النبأ على مواطني بلاد الشام من شرفة دار البلدية في ساحة المرجة، وأصبح مقراً له منذ ذلك التاريخ إلى أن غادر البلاد إثر معركة ميسلون ودخول البلاد تحت حكم الانتداب الفرنسي، حيث خضع هذا القصر كما البلاد كلها للاحتلال فرنسي وأصبح مقراً للجنرال الفرنسي غورو، وهنا تُروى حادثة طريفة ومهمة حصلت في هذا القصر بين غورو وفارس الخوري يرويها جورج حداد وحنا خباز، ” في كتابهما فارس الخوري: حياته وعصره، الصادر في بيروت عام 1952″ فيقولان: (بعد أسبوعين من دخول الفرنسيين دمشق، في 8 آب 1920، أقيمت مأدبةٌ في قصر المهاجرين – القصر الجمهوري الحالي – حضرها وزراءُ ثاني حكومة شكَّلها الفيصليون وعددٌ كبير من وجهاء المدينة. أخذ غورو القائد الفرنسي يمتدح منظر دمشق وغوطتها أثناء الطعام، ثم أجال نظره في القاعة التي هم فيها، وكأنه أراد التهكم والاستخفاف بالملك فيصل فقال: “أهذا هو القصر الذي سكنه فيصل؟” فأجابه فارس: “نعم، يا صاحب الفخامة، هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والٍ عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حلَّ فيه جمال باشا، والآن تحلُّونه فخامتكم. وجميع مَن ذكرتُهم أكلنا معهم في نفس القاعة، وكلهم رحلوا، وبقي القصر وبقينا نحن.” سمع الجنرال غورو هذه العبارة فصمت، ووجم كلُّ مَن كان حول المائدة، ولم ينطق أحد حتى انتهاء المأدبة. وكان الشيخ تاج الدين الحسيني حاضراً، فقال لفارس بعد الحفلة: “منذ هذا اليوم انتحرت، ولن تقوم لك قائمة مع الفرنسيين.” فيجيب فارس: “وأنا أيضاً لم أرغب أن تقوم لي قائمة، وإنما هي معركة ولن تنتهي حتى يرحلوا).
واليوم مازال قصر ناظم ياشا وقصر خورشيد والقصر الجمهوري القديم جاثماً في حضن قاسيون يذكر بتاريخ حافل عايش أحداث مهمة بين جنباته، ليحول فيما بعد للمراسم والاستقبال وما شابه حتى عام 1975.
لتستملكه الدولة أخيراً.
——————————————————————————————————
[1] – شغل ناظم باشا قبل إفادته إلى دمشق منصب مدير الأمن العام في اسطنبول.
علي الطنطاوي: دمشق، دار الفكر، دمشق، 1959 ، ص155.
[2] – كانت المهاجرين من أملاك الدولة إلا أن بهاء بك ( مكتوبجي الولاية استملكها)ولما نقل من دمشق باعها لشفيق المؤيد العظم وشقيقه عبد القادر وولديهوقبل أن يتم الفراغ باع عبد القادر حصته إلى عبد الرحمن الشهير بالمراكشي.
المرجع السابق: ص 162.
[3] – المرجع السابق: رواية عن بديع المؤيد، ص163.
– [4]
يقول بدر الدين الشلاح إن خورشيد بك المصري رجل نادر أصبح اسمه جزءاً من تاريخ دمشــق ولا يمكن للدمشقيين حينما يرد ذكر المرحوم حمدي الإدلبي إلا أن يذكروا أباه الروحي ومربيه الكبير وزوج والدته خورشيد المصري.
كان خورشيد بك أهم عضو في أول بعثة أرسلها إلى ألمانيا الخديوي توفيق للاختصاص في هندسة الري، وتخرج في عام 1875 م بتفوق وعاد إلى مصر واستلم مهام مشروع القناطر الخيرية، وكانت له قطعة أرض في مصر القديمة أمام كوبري الملك الصالح فأقام عليها مزرعة أطلق عليها اسم نخل خورشيد وشيّد العديد من المساكن.
اشتهر خورشيد بك بالقوة البدنية والممارسة الرياضية ورفع الأثقال، وكان يمشي المسافات الطويلة ويقوم بالعمل اليدوي مع عماله وهو يرتدي ملابسهم، واشتهر بمحاربة التدخين وشرب الخمر وكان يزيد أجر كل عامل يقلع عن التدخين، كما عُرف بالعطف على العميان الذين لا عائل لهم. فدأب على تعليمهم مهن صنع السلال ونقل الماء وأجرى لهم مرتبات ثابتة.
وكان خورشيد قوي الشخصية يتمسك بحرية الفكر واستقلالية الرأي فاختلف بشدة مع المستشارين الإنكليز وتصادم معهم أكثر من مرة، وما لبث أن غادر مصر إلى بيروت حيث أنشأ على شاطئ البحر قصراً وبستاناً رائعين وكان يوزع الصدقات على الفقراء يومياً.
وصادف أن خورشيد بك زار دمشق عام (1322 للهجرة) وكان الوالي العثماني ناظم باشا بحاجة إلى المال لتجهيز ابنته في اسطنبول فعرض قصره للبيع (يذكر قتيبة الشهابي أن الذي هندس القصر هو خورشيد المصري) وأعجب خورشيد بهذا القصر الدمشقي واشتراه من ناظم باشا بعد أن نافسه عليه آل العظم وآل الشمعة ولكنه تمكن من شرائه بخمسة آلاف ليرة عثمانية ذهبية ولما علم أن منافسيه دفعوا أكثر من ذلك، قدم ألف ليرة أخرى في صرّة من الأطلس وقدمها لناظم باشا على أنها نقوط لكريمته لمناسبة زفافها في اسطنبول. ويروي علي الطنطاوي في كتابه (دمشقَ صور من جمالها وعبر من نضالها):هناك حادث طريف يدلُّ على جانب من أخلاق هذا الرجل (ويقصد ناظم باشا) وهو إنه بعد عزله عن ولاية دمشق أراد بيع قصره ففاوضه المهندس الشهير خورشيد باشا على شراء القصر بخمسة آلاف ليرة ذهبية ووعده الباشا بذلك ثم جاء مصطفى باشا العابد فدفع له سبعة آلاف ليرة ذهبية ثمناً للقصر، فقال له ناظم باشا: لقد أعطيت المصري وعداً.
فقال له العابد: ولكن البيع لم يُسجل في الطابو.
فقال ناظم باشا عندها كلمته الشهيرة: ناظم كلامه طابو (وذهبت مثلاً).
وهكذا استقر خورشيد بك في قصره الجديد (قصر ناظم باشا) بدمشق، وأطلق اسمه على هذا القصر. ولما كان خورشيد المصري بالغ النشاط وشديد الرغبة في العمل زار حوران فأعجبته أرض كبيرة في قريتي بويضان وبلَي ولمس شدة خصوبتها فقرر إنشاء مشروع زراعي فيها، وسرعان ما باشر بحفر آبار ذات فوهات كبيرة ما زالت موجودة حتى الآن (1992)، واستورد من ألمانيا قساطل فولاذية بقيمة 11 ألف ليرة عثمانية ذهبية لتكون شبكة ري المشروع، ولكن السلطة العثمانية استكثرت هذه الكمية عند وصولها فوضعت اليد عليها، وعطلت المشروع.
ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها حاول خورشيد بك استئناف مشروعه فرهن قصره على خمسة آلاف ليرة ذهبية، وعاد إلى حوران لتأمين مستلزمات المشروع وبناء مرافقه، وما كاد ينتهي من العمل حتى حدثت فتنة مفاجئة وتم خلالها تخريب تلك المنشآت.
هنا أُسقط في يد خورشيد بك ولم يعد قادراً على عمل أي شيء، فاستدعى ربيبه الدكتور حمدي الإدلبي وأوكل إليه توفير المال لفك الرهن عن القصر.
وفي عام 1939م وافت خورشيد بك المنية بعد أن تجاوز المائة عام فرثته الصحف السورية والمصرية، وقالت الأهرام المصرية إنه أكبر مهندس ري أنجبته مصر في القرن التاسع عشر وأشهر معمر مصري وشرحت سيرته بإسهاب.
مقابلة مع المهندس خليل الفرا بنتاريخ 23-4-2012م .
بدر الدين الشلاح: المسيرة التجارية، دار ألف باء الأديب ، دمشق 1992، ص342.
[5] – الدكتور حمدي الإدلبي وهو من ابرز أطباء دمشق مواليد عام 1899 م، عمل على مدار سنوات عدة للوفاء بديون خورشيد المصري لفك الرهان عن قصره ويقول المهندس خليل الفرا: (وكان الدكتور حمدي شديد الامتنان لأبيه الروحي (خورشيد بك) بالغ الاعتزاز به فعكف على العمل المرهق للوفاء بالديون وفوائدها طوال سنوات حتى استخلص قصر خورشيد بك وأصبح ملكا له ولأسرته. وفي هذا القصر تم في عام 1929 زفاف الدكتور حمدي على ألفة عمر باشا، الأديبة ألفة الأدلبي توفي الدكتور حمدي الادلبي في آب من عام 1978 م.
بدر الدين الشلاح، مرجع سابق، ص341-344.