مقالات
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
في عام 1950م، زار ميشيل عفلق مكتب حزب البعث في حمص، وألقى الكلمة التالية التي نشرت لاحقا في كتاب في سبيل البعث
ساتناول في حديثي معنى من معاني حركتنا، هذا المعنى هو ان البعث العربي يتلخص في كلمة الانقلاب. ولا اعتقد المجال متسعا للافاضة ولتناول الفكرة من مختلف نواحيها، فاكتفي في هذا الحديث بان القي ضوءا على الروح التي تدفع حركة كحركتنا.
لكل حركة روح او عاطفة او صورة تسبقها وتحفز على تحقيقها. وراء كل حركة نظرة الى الحياة تكون صميمة راسخة في اذهان الذين يقومون بالحركة، وهي التي تلون حركتهم وترسم لها منطقها. فما هي اذن روح الانقلاب او فلسفة الإنقلاب او عاطفته؟
ان مجتمعنا العربي يوحي الى ابنائه الذين يشعرون بصلة صادقة به انه بحاجة الى بعث الروح، لان ما آل اليه من انحراف وتأخر وتشويه ليس مجرد مظهر، بل هو نتيجة لفتور او نضوب شاب الروح العربية في فترة من الزمن بفعل عوامل كثيرة مختلفة. هذه النظرة التي تحدونا الى العمل وترسم لنا منطق عملنا تتلخص هكذا : اننا نشعر بان مجتمعنا العربي بحاجة الى ان يغالب نفسه ويناضل نفسه، بحاجة الى بذل جهد ومشقة كبيرة حتى يسترد ذاته الحقيقية، حتى يصل بالجهد والمشقة الى اصالته، حتى يتحرر من الزيف الذي اصابه. ولا يكون التحرر سهلا ولا بدون ثمن، فنحن نعتقد ان العرب عليهم ان يدفعوا الثمن حتى يصلوا الى حالة جديرة بهم، لائقة بعبقريتهم، لائقة بماضيهم، وكل ما يأتي سهلا رخيصا يكون سطحيا مصطنعا. الانقلاب تعبيره العملي هو النضال، والنضال له معان كثيرة او له معنى واسع لا ينحصر في النضال السياسي وحده. وقد يظن بان النضال اسلوب للعمل وهذا هو الشائع والمطبق عند الكثيرين، في حين ان النضال بالنسبة الى العربي ليس اسلوبا فحسب وانما هو غاية في حد ذاته. النضال الذي هو التعبير العملي عن فكرة الانقلاب، انما يقصد به ان تغالب الامة العربية نفسها بعد تلك الغفوة الطويلة، بعد ذلك الاسترخاء، بعد ذلك الاستسلام للحياة السهلة اللينة، بعد ذلك الابتعاد عن روح الحياة الجدية القاسية، ان يعود اليها الحنين لمصارعة الحياة والقدر، ان تنظر للحياة نظرة عميقة بطولية، وان ترى القيمة في الجهد قبل ان تراها في ثمرة الجهد. ان الآفات التي يشكو منها مجتمعنا ليست بالآفات السهلة، فالفكر مقيد مستعبد فقير هزيل مقلد. والشخصية سطحية ضعيفة الثقة بنفسها لا تقوى على الاستقلال ومجابهة الامور بصراحة. والروح فقيرة وناضبة، آفاقها محدودة، وجوها هابط منخفض. هل تمحي هذه الآفات؟ هل يسترد العرب معنى الحياة الاصيلة بمعجزة من المعجزات، او بتغيير في شكل الحكم او اشخاص الحكام، وهل هذه المظاهر تكفي لكي تتحول الامة العربية من امة تعيش على هامش الحياة والابداع، تتطفل على انتاج غيرها وقلما تحسن استعمال هذا الانتاج، هل تستطيع امتنا ان تنتقل من حالة كهذه الى حالة المساهمة الصادقة في الحضارة والابداع، ان يكون لها اثرها البين الواضح فيحضارة العالم وفي تفكير الانسانية، وهل تعود الى نبع الحياة لتستلهم القيم الخالدة وتنشرها وتذيعها على الآخرين؟ وكيف ننتقل من حالة الى نقيضها اذا اكتفينا بتغيير المظاهر والاشكال دون تغيير في الروح؟.. لا نصل الى الروح والاعماق الا عن طريق هذه المشقة، هذا الانقسام الداخلي في نفس الامة ذاتها، هذه الحرب العنيفة التي لا تداني قسوتها قسوة الحروب الخارجية مع الاعداء الالداء.
ايها الاخوان، اننا نعيش في مستوى هابط من الروح، في جو فاتر يجب ان تدب فيه حرارة لاهبة تصهر النفوس وتفتح المواهب وتفجر العبقريات والبطولات وتطلق الايمان من ينابيعه العميقة. كيف نوحد بين افراد هذه الامة الذين باعدت بينهم الانانيةوالمصالح الشخصية والاستسلام للحياة الرخيصة النفعية والاستسلام للاوهام والتنافر والخصومات العنيفة الحقيرة؟ كيف نحقق من جديد امة واحدة تتعارف وتتآلف اذا لم يكن ذلك في طريق نضال لاهب وعر شاق يضطر كل فرد من فرد من افراد الأمة العربية الى ان يعود الى نفسه، ان يغوص في اعماقه، ان يستكشف نفسه من جديد بعد التجربة والألم.. عندها توجد الوحدة الحقيقية التي هي نوع جدي مختلف عن الوحدة السياسية، توجد وحدة الروح بين افراد امة كانت في القديم واحدة ثم اصبح كل فرد منها نتيجة العزلة والانانية والنفعية يعيش غريبا عن اخوانه، وانتصبت بين اجزاء الامة الواحدة حواجز باردة جامدة من هذه الانانية والنظرات السطحية. فلا تعود الوحدة الا في جو النضال الحار.
كيف يعود الينا ماضينا، هذا الماضي الذي نتغنى به ونحن اليه، وكثيرا ما نختلف على تفسيره ومعناه. فمنا من يحسب ان مجرد تقليد اشكاله الجامدة يعيد الينا سر قوته وعبقريته، ومنا من تنفره الاشكال فيعرض حتى عن الروح ويحاول ان يتنكر لهذا الماضي وينكره وينكر كل صلة به.
في ماضينا روح اصيلة، في ماضينا حياة حرة سامية، ولكنني اعتقد ان تلك الروح، تلك الاصالة وذلك السمو لا يمكن ان نفهمه اونتصل به بشكل من الاشكال اذا لم نصعد اليه صعودا شاقا داميا، اذا لم نستحقه استحقاقا كريما لائقا. فكل ما نطمح اليه من اسباب الخلاص، من اسباب التقدم والرقي، يجب ان يعتبر اهدافا بعيدة صعبة لا يليق بالعرب ان يحتالوا عليها احتيالا لينالوها بغير ثمن، وانما ان يمشوا اليها مؤمنين صابرين، وان يعرفوا بان قيمة تلك الاهداف هي في ان يجتازوا كل الطريق الموصل اليها.
اننا ننظر الى امتنا هذه النظرة ونؤمن بانها امة واحدة وهذا الايمان نفسه يدعونا الى اعلان الانقسام فيها، لانها لن تسترد وحدتها، لن تبلغ هذه الوحدة المثالية التي هي الآن نظرية مبدئية، الا اذا انقسمت على نفسها. ولكننا في هذا الصراع نحتفظ بالمحبة للجميع. عندما نقسو على الاخرين نعرف ان قسوتنا عليهم هي في سبيل ارجاعهم الى نفوسهم والى حقيقتهم، وعندما يقسو علينا الاخرون نعرف ان نفوسهم الحقيقية التي يجهلونها، ارادتهم الكامنة التي لم تتضح بعد، هي معنا، وان كانت سيوفهم علينا.
ايها الاخوان: عندما اقول ان النضال بمعناه الواسع العميق هو السبيل الى بعث الروح العربية وتحقيق الانقلاب العربي، وعندما أشترط المشقة الكبيرة سبيلا لصدق هذا النضال، لا اكون متشائما او داعيا الى التشاؤم بل على العكس، لأن هذه الصعوبة نفسها هي التي تمهد الطريق وتسهله.
عندما ينفتح طريق النضال الجدي امام طليعة الامة العربية، عندها تتوضح الفوارق بين النوع الجدي من المواطنين، النوع الذي حرر نفسه من المصلحة والشهوات، وبين النوع الذي استعبدته المصالح والذي ضعفت نفسه عن الايمان بكفاءة امته وبقدرتها على انقاذ نفسها بنفسها. مجرد هذا الانقسام، مجرد هذا التوضيح بين النوعين، ينقذ الامة من الغموض الذي تعيش فيه، ومن الشك، لانها ترى صورة صغيرة عن مستقبلها، لانها تلمس جزءا من حقيقتها التي تشعر بها والتي اصبحت حقيقة واقعة امامها. ان مجرد تقدم الطليعة المناضلة الى الامام يوقظ البذور الخيرة في نفس كل عربي، لان العروبة تعني التفاؤل، تعني الأيمان، ان في كل عربي امكانيات للخير والتجدد، ولان يعود العربي الاصيل الى اصله.
فطريق المناضلين صعب في الظاهر سهل في حقيقته، لانهم يحاربون ليس بقواهم وحدهم، ليس بعددهم المحدود الضئيل، وانما يحاربون ايضا بمصلحة العدد الاكبر من الشعب العربي الذي يوقظه تقدمهم في الطليعة فيتكشف ذاته ومصلحته وطريقه، يحاربون بالارادة الكامنة التي تجيش في صدر الامة جمعاء، هذه الارادة التي يعوزها المثل والقدوة الجريئة حتى تنتقل من حالة السكون والغفوة الى حالة اليقظة والفعل.
واني اتمثل بمعنى آية كريمة وهو ان العرب المسلمين في زمن ظهور الدعوة كانوا ينتصرون بعدد قليل لان الله يمدهم بجنود لا ترى ولا يراها اعداؤهم. اني افهم من هذا المعنى ما يتفق تماما مع حالة الطليعة المناضلة في مرحلتنا الحاضرة فالجنود غير المنظورة التي تحارب مع هذه الطليعة هي مصلحة العدد الاكبر لانها تعني بقاء الامة وحفظ كيانها وتحقيق تقدمها. وهذا التجاوب بين الحركة الانقلابية وبين مصلحة العدد الاكبر من الشعب هو وحده الذي يضمن لهذه الحركة الفوز والنجاح.
ايها الاخوان : اننا نعتقد بان الروح هي الاصل في كل شيء… الدافع الروحي العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب، وانما يخلقها ايضا. فالانقلاب يجب ان يتناول الروح مباشرة وان لا ينحصر او يتوقف عند حدود الاشكال والمظاهر. لو فرضنا ان صدفة من الصدف او معجزة من المعجزات حررت العرب في يوم واحد من جميع هذه المظالم والمفاسد التي تقف حجر عثرة في سبيل حياتهم وتقدمهم، وان الحكومات زالت بفعل سحر عجيب من طريقنا وحلت محلها الحكومات النزيهة القومية الغيورة على المصلحة العامة، هل تعتقدون بان الانقلاب العربي يتحقق ؟
انني اعتقد بان شيئا من هذا لا يكون، لان التبديل السطحي الذي لا يمس الروح والذي لا يفتح الفكر والذي لا يهز الخلق ويقومه والذي لا يفجر الايمان نتيجة المصاعب، ان هذا التبديل السطحي لا يلبث ان يتحول الى ما كان عليه في السابق.
المجتمع العربي المنشود والمستقبل الذي ننشده والذي تتحقق فيه الر وح العربية ويتحقق فيه العدل وسلامة التركيب بين افراد الأمة وطبقاتها يجب ان تهيأ له ادوات حية من البشر تكون من نوعه وجوهره حتى تكون امينة في تطبيقه، واعية لاساليبه وطرقه. ان النضال الذي سميته التعبير العملي عن الانقلاب، هو الذي يخلق الادوات الحية، اي المناضلين، الذي يصبح الانقلاب شيئا حيا في نفوسهم وعقولهم واخلاقهم، او يصبح حياتهم ذاتها، فلا بد اذن من اجتياز هذا الطريق الذي يخلق لنا المناضلين تباعا، والذي يكون امتحانا للنفوس القوية المثالية التي تتعفف المصلحة الشخصية وتنظر الى الحياة نظرة ابعد وارفع من اللذات والاستمتاع، والتي ترى فيها تحقيقا لعنصر سام سماوي وجد في الانسان لكي يشع في سلوكه. هذا النضال هو المصنع للادوات الانقلابية الامينة الوفية.