دمشق المعتقة لم تعد كذلك… الآن تبدو أكثر تلكؤاً… حساسيتها تجاه النيل من ذاكرتها آخذة في الضمور وكأنها تقتص من جسدها بلا مقابل… تفرج عنه بالمجان كما لو أنه لا يعنيها أو هي التي لا تعنيه…هي الأثر ولاتريد أن تكون كذلك… وسواها مجرد عابرين يريدون أكثر من ثمن عبورهم… لا يليق بها أن تكون محطة إفلاس… ولايليق بعابريها أن يمتهنوا صناعة التاريخ فيجسوا نبضها الميت ويبتكروا مدينة على شاكلتها في الاسم فقط… وإلا كيف لها أن تودع تاريخها في مستودع أو أن تتسامح في ذهابه مع الريح… كيف لها أن تدعي بأنها دمشق؟!وكيف لعابريها أن يدعوا خلاف ذلك؟!
الاختفاء وقبل المستودع؟!
الحادثتان اللتان جاء عليهما التحقيق ليستا لامتحان دمشق فيما تكتنزه من تاريخ وليستا أيضاً تودداً من التفاصيل بقدر ما هما “طبيعة تفكير” أو “عادة سلوكية” شبه مسلم بها أساسها الاستهانة بمقومات حياة المكان وتقليم ذاكرته وفق عقلية البستنة التي لا تنفع هنا فما معنى أن يستبدل سجاد الجامع الأموي الأثري بآخر من إنتاج الشركة العامة للسجاد صنع بعقلية وذائفة القطاع العام؟ أو أن تغادر ساعة المرجة ساحتها إلى المجهول ودون أن يكون لدى المسؤولين عنها أي دراية عن المكان الذي خبئت به مثلاً؟! ولا عن سبب اقتطاعها أصلاً من مكانها؟!
يحدد د. غزوان ياغي “دكتوراه في الآثار والفنون الإسلامية ويشغل اليوم منصب مدير مديرية آثار دمشق” المعطيات النظرية التي تركن إليها السلطات الأثرية السورية لدى تحديد قيمة الأثر إذ ترتبط غالباً بالذاكرة المعمارية والتفرد او ترتبط بذكريات وطنية أو قومية أو بشخصيات كان لها تأثير في حياة المجتمع وعادة ما يتم تشكيل لجان مشتركة يؤلفها خبراء مختصون لتحديد القيمة الأثرية.
ولعل مرجعية هذه المعطيات هي المادة الثانية من المرسوم التشريعي رقم 222 الصادر عام 1963 والتي تنص على أن تتولى السلطات الأثرية في الجمهورية العربية السورية المحافظة على الآثار كما تتولى وحدها تقرير أثرية الأشياء والمباني التاريخية والمواقع الأثرية وما يجب تسجيله من آثار ويعني تسجيل أثر ما إقرار الدولة بما يمثله من أهمية تاريخية أو فنية أو قومية وعملها على صيانته وحمايته ودراسته والانتفاع به وفقاً لأحكام هذا القانون.
واللافت أن هذه المادة أعطت للسلطات الأثرية مرونة في تحديد الآثار ليست ملحوظة في المادة الأولى من هذا القانون حين عرفت الآثار بأنها الممتلكات الثابتة والمنقولة التي بناها او صنعها أو أنتجها أو كتبها أو رسمها الإنسان قبل 200 سنة ميلادية أو قبل 206 سنوات هجرية ويجوز للسلطات الأثرية أن تعد الآثار أيضاً الممتلكات الثابتة أو المنقولة التي ترجع إلى عهد أحدث إذا رأت أن لها خصائص تاريخية أو فنية ويصدر بذلك قرار وزاري.
مثل هذه المرونة إذاً وتعويلها الكثير من الأهمية على نشاط العنصر البشري لم تثمر سوى عن تسجيل 3200 أثر من أصل 17 ألف أثر في سورية أي أن 19% فقط من آثار سورية مسجلة لدى السلطات الأثرية.
أما المثالان اللذان ساقهما التحقيق ففيهما سويتان مختلفتان من تحديد القيمة الأثرية تنتظمان أيضاً في معادلتين مختلفتين تقر الأولى بالقيمة الأثرية للأثر المنقول مضافاً إليها القيمة الأثرية من الأثر الثابت الذي يحويه.
فالقيمة الأثرية للجامع الأموي تستند أولاً إلى تاريخ مكانه الذي كان معبداً للإله الآرامي “حدد” ثم شيد فوقه معبد “جوبيتر الدمشقي” ثم كنيسة يوحنا المعمدان ثم استبدل الوليد بن عبد الملك بن مروان كل ذلك بالجامع الأموي عام 86 هجري أي 705 ميلادي مساحته 15 ألف متر موزعة بين 9 آلاف متر مربعة مساحة صحن الجامع وأروقته و 6 آلاف متر مربع مساحة حرمه ويصفه محمد غسان الجيرودي المشرف العام عليه “بالجامع الحضاري الأول في عهد الدولة الأموية وهو النموذج المعماري الذي اتبعته مساجد الأندلس في بنائها”.
والجامع يحوي أيضاً مقام النبي يحيى “يوحنا المعمدان” وفيه تحديداً رأسه ومن جهته الشرقية مشهد رأس الإمام الحسين الذي نقل إلى دمشق من كربلاء.
وحسب الجيرودي يزور الجامع يومياً بين 10 إلى 15 ألف زائر عدا المصلين وبرأيه أيضاً فإن مأذنة العروس أو مأذنة الوليد “بنيت في عهده” هي أجمل مأذنة في العالم الإسلامي.
أيضاً ليست القيمة الأثرية لساحة المرجة بالقليلة إذ إنها مطعّمة بنكهتين: التأسيس في عهد المماليك، والتحديث في حكم العثمانيين، ولا يزال النصب التذكاري الّذي تمّ تشييده زمن الوالي حسين ناظم باشا عام 1907 مائلاً إلى اليوم، وكانت مناسبته افتتاح الاتصالات البرقية بين اسطنبول والمدينة المنورة عبر دمشق، وهو من تصميم المعماري الإيطالي “ريموندودا رونكو” الّذي ارتأى أن تكون قاعدته بازلتية يرتفع فوقها عمود من البرونز يعلوه مجسم لجامع “يلدز” في اسطنبول وقد تزامن ارتفاع هذا النصب مع إطلاق الخط الحديدي الحجازي ومن ساحة المرجة سيرت شركة التنوير والجر المساهمة المغفلة البلجيكية عام 1904 أول رحلة للترامواي بين أحياء دمشق وعام 1916 أعدك العثمانيون 21 من المنادين بالاستقلال عن الدولة العثمانية وإذا كانت السيرة الذاتية لكل من الجامع الأموي أو ساحة المرجة تحفل بمثل هذا الزخم التاريخي فإنهما بمحتوياتهما وحسب المرسوم التشريعي 222 لعام 1963 وتعديله بالقانون 1 لعام 1999 هما أثران، غير أنهما على أرض الواقع يعاملان بغير تلك الصورة، وخلافاً لما تقتضيه الحاجة بأن يعاملا.
مثل أي سجادة مثل أي ساعة؟
عام 1891 احترق الجامع الأموي بالكامل وبقي أهل دمشق يرممونه مدة 6 سنوات بمساندة من السلطان العثماني عبد الحميد الّذي أهدى الجامع حينذاك سجادة مساحتها ى100 متر مربع.
محمد الجيرودي المشرف العام على الجامع يؤكّد ذلك فيقول: منذ 5 سنوات تمّ استبدال سجاد الجامع القديم بسجاد محاريب “زخرفتها على شكل محراب” من صنع الشركة العامة للسجاد وتمّ مد كامل أرض الجامع بها، أمّا السجاد القديم فقد ذهب إلى المستودع وقد تبين أنّ عمره 40 إلى 50 سنة أي ليس له قيمة أثرية باستثناء السجادة الّتي أهداها السلطان عبد الحميد للجامع وعمرها أكثر من 100 سنة ومساحتها نحو 100 متر مربع.
الاستغناء عن سجادة السلطان عبد الحميد حسب الجيرودي وإيوائها المستودع سببه بعض التلف الّذي أصابها جراء سوء التنظيف وعدم الدراية بأصوله، يقول: “لم يكن تنظيفها فنياً يراعي خصوصيتها التاريخية ما تسبب بتآكل سداها وخيطانها”.
هذه السجادة تكتنز وحدها قيمة أثرية منفصلة عن القيمة الأثرية للجامع الأموي “قيمة أثرية للأثر المنقول مضافاً إليه قيمة أثرية للأثر الّذي يحويه”، وحده الاستهتار أحالها إلى مجرد سجادة قديمة مكانها في مستودع.
لقد استخدم الجيرودي وصف السجاد القديم وألحق سجادة عبد الحميد بها، وبالتالي تعامل معها فكر الاستبدال كما لو أنّها أي سجادة قديمة فعلاً وكأنّها صفقة أبرمت مع المجهول لتفادي التاريخ مجدداً أو لكنسه بلا رجعة، ويبدو من المستغرب أن يتم استبدال محتوى معلم أثري بآخر غير منسجم مع خصوصيته “سجاد المحاريب” كامتداد متجانس من القبح واللامبالاة رعى ذلك صمت السلطات الأثرية أو قلة اكتراثها.
السجاد العجمي والشيرازي والأصفهاني ترجل عن الخدمة في الجامع الأموي، لقد عاش قرابة نصف قرن ثم دفنته الأيدي الخبيرة في قبو الجامع واستبدلت به ما لا يليق أن يستبدل به، أمّا السجاد الّذي كان قبله يقول الجيرودي: قد “قد؟” يكون موزعاً بين جوامع دمشق، ولا يحوي مستودع الجامع الأموي سوى على سجادة السلطان عبد الحميد وسجاد آخر عمره نحو 50 عاماً.
د.ياغي مدير آثار دمشق يرد “لا نستطيع إخراج الآثار المنقولة من الآثار الثابتة، فيمنع تحريكها من مكانها وعلى شاكلتها بعض اللوحات الزخرفية إذ إن وجودها يشكل قيمة من قيمة الأثر الّذي يحتويها”.
هل يقدم مثل هذا الرد مبرراً لأن يكون مكان سجادة السلطان عبد الحميد في قبو وهي تعامل على أنّها أثر ثابت لا يجوز تحريكه؟! وهل مكان الأثر الثابت هو القبو، أو المستودع؟!
ياغي يوضح وجهة نظره أكثر: “أن تسجل أثراً فهذا لا يعني مصادرته بل أنّ الهدف من تسجيله هم السماح للدولة بالإشراف عليه عند رغبتها في ترميمه أو إعادة توظيفه مجدداً لذا لا تصادر كل الآثار المسجلة بدليل أنّ دمشق القديمة بكل محتوياتها مسجلة على قائمة التراث الوطني عام 1976 وعلى قائمة التراث العالمي عام 1979 والسلطات الأثرية لم تقم سوى بالإشراف على إعادة ترميم أو تأهيل تلك البيوت أو الآثار، ولم تصادر أيّاً منها وبطبيعة الحال فإنّ الجامع الأموي بمحتوياته هو جزء منها”.
لكن إن كانت الجوامع و المقابر السورية تخضع لإشراف وزارة الأوقاف فهذا لا يعني حسب ياغي احتكار التصرف بها: ” يجب أن توافق السلطات الأثرية على أي عملية ترميم بعد دراستها, وتنظيم ضبطاً في حال إجراء أي عمل يخل بالأصالة التاريخية للمبنى أو للأثر المسجل “.
المهندس بسام جيرودية عضو المكتب التنفيذي لقطاع السياحة والثقافة والآثار في محافظة دمشق لم يحطه أحداً علماً بعد باختفاء ساعة المرجة من ساحتها, وبالتالي بدا التكهن بمكانها الحالي أمراً شائكاً وعصياً عليه لدرجة أنه سأل :” هل أنت متأكد من أن الساعة ليست موجودة بالساحة؟!”
الساعة التي تزامن وجودها مع النصب البرونزي وسط الساحة المرجة اختفت منذ عقود, وتجمع الذاكرة الحية أن اختفائها حدث في أواخر الستينات من القرن الماضي, دون أن يشفع هذا لمحافظة دمشق أن تبدو مثل أي شخص آخر حين يسأل عن مكان الساعة المرجح؟ يجيب لا أعلم.
ولا يدري أيضاً محمد قدوح الذي تنقل بين عامي 1975 و 2006 في مناصب متعددة من بينها مدير للآثار في دمشق, وغير مرة مديراً لقصر العظم مصير تلك الساعة ولا المكان المحتمل لوجودها حالياً, لقد تم انتزاعها من الساحة لأسباب لم تكن واضحة ثم صار لها وجهة ليست واضحة أيضاً.
بشير زهدي الباحث الآثاري وأمين المتحف الوطني لسنوات طويلة يؤكد أنها من صناعة سويسرية وربما كانت تتبع فيما مضى إلى مديرية إضاءة دمشق قبل خلق وزارة الكهرباء ومشتقاتها, ولا فكرة لديه هو الآخر عن مكانها حالياً ولا أين تم نقلها والثابت أيضاً أن ساحة المرجة غير مسجلة على قائمة التراث الوطني رغم أنه لا خلاف على قيمتها التاريخية.
يقول ياغي: “لا يوجد ما يمنع تسجيل ساحة المرجة على قائمة التراث الوطني, لكن طاقة التسجيل والاستيعاب لدينا محدودة ولا يوجد أي ساحة في دمشق مسجلة على قائمة التراث الوطني”. التسجيل حسب قانون الآثار وروتين أو كسل السلطات الأثرية يرتبط بأهمية الأثر نفسه وهو عملية تستغرق أشهراً طويلة. لكن ياغي يضيف هنا تصنيفاً ثانياً للآثار وهي الآثار المعينة أي ذات القيمة وغير المسجلة بعد, و تنص المادة 14 من قانون الآثار على منع المساس بأي أثر هو في حكم المسجل.
ومن المفارقة هنا أن يكون بناء العابد في محيط ساحة المرجة مدرج الاسم على قائمة التراث الوطني, على خلاف الساحة وليس بذي قيمة تاريخية أو ثقافية أو وطنية تفوق قيمة الساحة ليسجل هو, وهي لا تسجل.
ياغي لك يقدم أي إجابة دقيقة عن سبب عدم تسجيل ساحة المرجة كمعلم أثري, واكتفى بالطمأنة أنها مثل الأثر المسجل حسب المادة 14 من قانون الآثار.
بلا مزاودات:
لم يحدث بعد أن تم تثمين سجادة السلطان عبد الحميد المدفونة في قبو الجامع الأموي ولا ساعة المرجة المعيبة التي تكتنز حكماً القيمة التاريخية والثقافية والوطنية لساحة المرجة, وإن كانت مجرد ساعة أو كانت الساعة العامة الوحيد في تاريخ العاصمة القديم والحديث. ويستبعد ياغي أن تكون الساعة مسروقة هي بنظره ” مجرد ساعة” لكنه هو الآخر لا يعلم مكانها إلى الآن يقول: ” لقد لحظت المواد من 57 إلى المادة 65 في قانون الآثار المعدل عام 1999 غرامات مالية وجزائية كبيرة تخص الاعتداء على الآثار أو سرقتها, وحسب هذا القانون فإنه أيضاً لا يجوز بيع الآثار أو إقامة المزادات عليها لأنها ملك للدولة في سورية.
الساحة التي لا يجوز لها إلا أن تكون معلماً أثرياً بكل محتوياتها هي بحكم المعلم الأثري بلا مناسبة ” وبريجيم” قاس من قلة الاهتمام لتصبح ساحة ناقص ساعة تشبه إلى حد بعيد جامع ناقص سجادة أو الجامع الأموي ناقص سجادة عبد الحميد, وفي كلتا عمليتي الطرح المسبقتين الجواب واحد: هكذا تحفظ سورية آثارها أو تاريخها !.