على الرغم من الكم الهائل من المعلومات والوثائق المتوفرة لدراسة التاريخ الحديث بصورة موضوعية، إلا أنه يجب أن نعترف بأن هناك إهمالاً وتقصيراً كبيراً من الباحثين وعدم استعدادهم لبذل جهود كبيرة لدراسة ما بين يديهم من وثائق ومصادر وتقديم المعلومة التاريخية كما ينبغي، فيصبح عمل الباحث قص ولصق في معظم الأحيان، دون الإلمام الكافي بأبسط الأمور كالأسماء والمواضع الجغرافية، أسماء البلدات والأعلام والعشائر، فيخلطون الحابل بالنابل.
أذكر انني قرأت دراسة مهمة تتجاوز عدد صفحاتها الألف صفحة قام من خلالها الكاتب باستخدام اسم “سعيد النورسي” بدلاً من “سعيد بيران” أحد أهم الشخصيات في هذه الدراسة، وهذا خطأ فادح، أيضاً أحد الباحثين في إحدى دراساته الاجتماعية عن بدايات القرن العشرين في الفرات، وضع جميع القبائل العربية في خانة “القبائل الشاويّة”، علماً أن تصنيف القبائل آنذاك كان ينقسم إلى قبائل رحّل (شمر وعنزة مثلاً)، وقبائل من أنصاف الرحّل أو ما يسميهم الحضر في دير الزور “الشوايا” ويندرج تحت ذلك البقارة والعقيدات والمشاهدة والجبور والشرابيين وطيء …الخ.
ننشر هذه المادة هنا كإضاءة على مرحلة تاريخية مهمة في وادي الفرات، نلاحظ من خلالها بأن مواقف عشائر الفرات كانت منقسمة بين مقاوم للاحتلال وبين متحالف معه، وهذه المسائل كانت تخضع لمصالح عشائرية بحتة قاصرة عن أي مفهوم وطني الذي لم يكن قد تبلور بعد في الإطار الذي نفهمه اليوم، وبالتالي من الخطأ تقييم مواقف تلك العشائر بالسلب أو الإيجاب أو إسقاطها على مفاهيم ( قومية- وطنية – خيانة – طابور خامس ..الخ ) وفق مقاييس العصر الراهن.
الانسحاب العثماني من دير الزور
انسحبت القوات العثمانية من لواء دير الزور في في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1918 متممين بذلك انسحابهم من سورية فيما عدا منطقة الخابور، ومنذ ذلك الحين وحتى دخول قوة من الجيش العربي إليه، بقي اللواء في حالة من الفوضى، أطلق على هذه الفترة الفاصلة مرحلة (الفلت) ، وقد شكّل أعيان المدينة مجلساً لتصريف أمور المدينة يتألف من 21 شخصية تمثل أحياءها الثلاثة (حي الشرقيين، حي الوسطيين، حي الخرشان)، وكان الهدف هو حماية مدينتهم.
الحكومة العربية لم تعترف بهذه الحكومة، و في 4 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1918 وصل دير الزور الأمير الشريف علي بن ناصر ابن عم الأمير فيصل موفداً من الشريف ناصر بحلب على رأس فرقة غير نظامية من البغالة والهجانة. فقام بجولة تفقدية في أنحاء المتصرفية، وزار عشائر الفرات واجتمع إلى شيوخها وزعمائها، وقد أكد له زعماء العشائر الولاء والإخلاص للحكومة العربية، ومبايعتهم للشريف حسين ملكاً على العرب، ولولده الأمير فيصل بإمارة الشام، وأبدوا استعدادهم للدفاع عن الدولة العربية، فعيّنت محمد مرعي باشا الملاح أول متصرف عربي على لواء دير الزور، وقد دخلها في 7 كانون الأول / ديسمبر 1918.
وكان أول ما فعله هو إلغاء الحكومة الأهلية وعيّن بدل ذلك مجلساً جديداً يضم عشرة أعضاء يعاونونه في إدارة شؤون المتصرفية بمقتضى القوانين العثمانية التي كانت ما تزال مرعية، لكن الأعيان الذين يبدو أنهم شعروا بتقلص سلطتهم ونفوذهم السابق، استغلوا تجاوزات فرقة الهجّانة والبغالة غير النظامية التي يقودها الشريف علي بن ناصر بحق الأهالي وأعمال القمع والظلم، ثم السلب والنهب سواء لما يملكه المواطنون البسطاء أو التجار والمزارعون، وكلها أعمال أدت إلى تذمر أهالي المدينة من الحكومة العربية، وكان هؤلاء دخلوا الدير برفقة محمد مرعي باشا الذي لم يكن راضياً عن تلك الأعمال. فأبرق بعض الديريين مضبطة وقعوا عليها سراً يطلبون فيها إدخال بلدتهم تحت الحكم البريطاني، وأرسلوها إلى حاكم عانة السياسي راجين منه تسريع احتلال دير الزور من قبل السلطة البريطانية، فدخلت قوة بريطانية بقيادة الكابتن كارفير أو (كارميز) إلى مدينة دير الزور في 11 كانون الثاني/ يناير 1919 مع بضعة مدرعات وسيارات ليحتلها باسم السلطة البريطانية، ولينهي الحكم العربي الذي لم يستمر أكثر من أربعة وعشرين يوماً، بحجة الاستجابة لطلب الأعيان.
العشائر وطرد البريطانيين
سرعان ما بدأ سكان اللواء بالتذمر، وبدأت عشائر دير الزور ونصيبين بإرسال مضابط عن طريق رمضان شلاش من قبيلة العقيدات، يطلبون فيها إلحاق ديارهم بالحكومة العربية السورية، وكان رمضان شلاش الذي وصل الرقة في أوائل كانون الأول ديسمبر 1919 وبدأ ينشط بين العشائر مطلقاً على نفسه لقب حاكم الفرات والخابور،
قاد شلاش الحاكم العسكري للرقة باسم جمعية العهد العربية حملة عسكرية في 11 ديسمبر/ كانون الاول 1919، ودخل الدير على رأس قوة من رجال العشائر، ووضع الكابتن جاميير، رهن الاعتقال في منزله واحتفظ به كرهينة، الحكومة البريطانية قررت اعتبار الخابور كحد مؤقت بين سورية والعراق، وكان هذا القرار يعني الاعتراف بالسلطة العربية لدير الزور.
وفي 25 من كانون الاول/ ديسمبر أطلق شلاش سراح المعتقلين الإنكليز كافة. وفي 12 كانون الثاني / يناير 1920 احتجت الحكومة العربية على الحدود الجديدة وطالبت بإدخال الميادين والبوكمال في المنطقة العربية، وأعلن شلاش أن الإنكليز يجب أن ينسحبوا إلى وادي حوران الواقع على بعد 50 ميلاً من عانه. وكثف نشاطه بين العشائر ضد الوجود البرطاني، وحصل على ولاء العكيدات، وواصل حملاته ضد الحاميات البريطانية في المنطقة.
فيصل الذي كان يحاول التبرؤ من عمليات شلاش، تمكن أخيراً في نهاية كانون الثاني/ يناير 1920 من تعيين مولود مخلص باشا حاكماً على الدير بدلاً من رمضان شلاش. كخطوة تصالحية اتجاه الإنكليز. إلا أن مولود مخلص لم يكن أقل شراسة من شلاش، إذ شدد الدعاية القومية والمضايقات العسكرية، وقام رجال العشائر بقيادة ضباط عراقيين في أواسط شباط/ فبراير 1920 باحتلال البوكمال، وتعرضت خطوط الإمداد البريطانية لغارات متواصلة، واستمر إنذار البريطانيين دون أفعال، واستمر فيصل باعتذاراته وتبرؤه، وفي نهاية المطاف قدّم الإنكليز تنازلاً آخر باعترافهم بالسيطرة العربية على البوكمال .
الاحتلال الفرنسي لدير الزور
شكّل الجنرال دو لاموت، قائد الفرقة الثانية المتمركزة في حلب، رتلاً عسكرياً بحجم صغير لإنشاء بعثة فرنسية في دير الزور، و تم تكليف الضابط المترجم ترنكا بتنفيذ هذه المهمة ومرافقة مجحم بن مهيد الذي سيكون الواجهة لتنفيذ السياسة الفرنسية.
في 9 أكتوبر 1920، أعلن الحاج فاضل العبود أحد أعيان مدينة دير الزور نفسه رئيس الحكومة المحلية للواء دير الزور بدعم من مجحم ، وكان العبود قد نظم حفل استقبال للبعثة الفرنسية في 20 تشرين الأول / أكتوبر 1920.
مقاومة الفرنسيين في وادي الفرات
بقيت المناطق التي تم تكليف مجحم ابن مهيد منذ 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1920 بتهدئتها ساحة للمعارك وعمليات السلب والنهب، الأمر الذي أدى إلى تزعزع الثقة الفرنسية بمجحم وعزله دو لاموث، لكنه اضطر للاعتماد عليه ثانية أمام الضغط الذي كانت تشكله قوات عمه حاجم ابن مهيد. كما كانت المقاومة التي أشعلها كمال أتاتورك في الجبهة الممتدة من كيليكيا حتى الفرات تشكل ضغطاً لم يكن متوقعاً للفرنسيين، وسببت لهم خسائر كبيرة، كما أثمر التعاون التركي مع القوميين العرب في زيادة الضغط على الفرنسيين. حيث تمكن العقيدات المدعومين من قبل القوات الكمالية والعربية من إبادة جنود المفرزة الكلدو-آشورية التابعة للفرنسيين التي أرسلها فاضل العبود متصرف دير الزور في 10 أيلول/ سبتمبر لجمع الضرائب من قرى العقيدات، كما هاجموا السرب الجوي وقاموا بتدمير سرب الطائرات الفرنسي (10 طائرات) بكامله، الأمر الذي دفع الفرنسيين بتوجيه حملة أخرى من قوات الأكراد الملية التي شكلها محمود بك الملي ضد قرى العقيدات، لكن المليين هزموا أيضاً وخسروا مدفعين وثلاثة رشاشات ومئات البنادق.
في أيلول/ سبتمبر 1921م صدر أمر لإطلاق فوج من دير الزور بقيادة العقيد ديبيوفري، وتم تكليفه بقمع تمرد قبائل العقيدات على نهر الفرات، وانضمت إليه قوة من البادية بقيادة مجحم ابن مهيد، وسارت القوة من الرقة باتجاه دير الزور وتمكنت في 15 تشرين الاول/1921 من ذلك، موزعة الأمان على كل من يستسلم للفرنسيين بطريقة مهينة، لذلك نجد بأن ذاكرة أبناء الفرات حتى الثمانينات ما تزال تحتفظ بأهازيج الحرب ضد الفرنسيين التي يتردد فيها اسم مجحم ابن مهيد بوصفه كان ممهداً للحملة الفرنسية.
أعيد توجيه قوات محمود بك الملي لدعم القوات الفرنسية في مهاجمة العشائر البدوية في دير الزور، وقد نشرت الصحف الفرنسية ما أذيع على لسان غورو في 6 تشرين الثاني / نوفمبر من العام نفسه ، بالسيطرة على المواقع التي كانت تتحصن بها العشائر العربية، وإرغامها على اجتياز نهر الفرات بمؤازرة من المتطوعين من قوات أبناء إبراهيم باشا، بعد أن خسر الفرنسيون 37 قتيلاً ونحو مئة جريح.
إنشاء حاميتين من الهجَّانة
نجح الفرنسيون في إنشاء حاميتين في عام 1921 في منطقة البوادي، تمركزت الأولى في تدمر والثانية في دير الزور، وكانت تجوب البوادي باستمرار من (دمير قابو) على الحدود التركية وحتى أبواب دمشق، سعياً وراء القبائل المتمردة ،وذكر وصفي زكريا عدة أمثلة عن معارك هؤلاء الهجّانة في مناطق بئر بصيرى والسخنة وجنوبي تدمر وجبل سيس وقرب الحدود التركية في الجزيرة، وأيضاً مناوشات مع عشائر العقيدات والموالي والفدعان وغيرهم.
خلاصة القول يمكننا أن نقول من خلال سير الأحداث في بداية احتلال وادي الفرات، إن المقاومة العنيفة للاحتلالين الإنكليزي والفرنسي كانت ودون أي جدل من قبل عشائر الفرات القاطنة في الريف، على الرغم من أن بعض العشائر اتخذت مواقف محايدة أو سلبية بالوقوف مع الفرنسيين، لكن الواضح أيضاً بأنّ سكان البلدة الخاضعين لسلطة الأعيان وللعديد من الاعتبارات التي يمكن بحثها في سياق منفصل، كانوا الأميل إلى الترقب والاصطفاف مع الجهة التي يمكن لها أن تحقق وتحافظ على مصالحهم ونفوذهم.