مقالات
نشوان الأتاسي: الأحزاب السياسية السورية في فترتي الانتداب وما بعد الاستقلال
نشوان الأتاسي- التاريخ السوري المعاصر
لم تكن الكتلة الوطنية حزباً سياسياً، بل إنها أدانت تشكيل أي أحزاب لأنه يشكل تهديداً للوحدة الوطنية في مواجهة الاستعمار، ومن هنا جاء اختيارها لمصطلح “الكتلة” دلالة على رؤيتها هذه، ومن هذا المنطلق غاب عن بيان تأسيسها أي برنامج اجتماعي أو اقتصادي، لأن كل تركيزها انحصر في هدف وحيد هو وحدة الأراضي السورية واستقلالها.
ومن هذا المنظور المحدد لرؤيتها لذاتها، ولدورها الذي رسمته لنفسها بنفسها، كان من الطبيعي انتهاء دورها حال حصول سورية على استقلالها الناجز. وهذا ما حصل بالفعل، فقد جرى حلّ الكتلة، وأسس أعضاؤها الدمشقيون حزباً أسموه “الحزب الوطني”، بينما أسس أعضاؤها الحلبيون حزباً آخر أسموه “حزب الشعب”، وهذا الحزب الجديد لا علاقة له بحزب الشعب الذي أسسه عبد الرحمن الشهبندر في العام 1925، ثم غاب عن الساحة السياسية السورية باغتيال زعيمه في العام 1940.
وقد عكس تشكيل هذين الحزبين، الانقسام السياسي والاقتصادي والمناطقي، الذي كان حاصلاً بالفعل بين وطنيي دمشق ووطنيي حلب خلال الفترة الانتدابية، كما ظهّر تاريخ العلاقة الملتبس بين المدينتين.
ونظراً لأن الشخصيات التي ساهمت في تأسيس الحزبين المذكورين كانت منحدرة من صلب الكتلة الوطنية، وكلهم ذوو تاريخ نضالي وطني ضد العثمانيين والفرنسيين، فقد تمكنت قيادة الحزبين من السيطرة على الساحة السياسية السورية لبضعة سنوات بعد الاستقلال، لما لها من قدرة على حشد الجماهير ولإمكانياتها الاقتصادية والاجتماعية، بحكم انحدارها من طبقة الملاك الأعيان البيروقراطيين والبورجوازية التجارية، تلك الطبقة التي تمرّست في السياسة والحكم على مدار القرن المنصرم.
مثّل حزب الشعب مصالح الجزء الشمالي من سورية، بدءاً من حمص وحلب، مروراً بوادي الفرات والجزيرة، ووصولاً إلى العمق العراقي، ولذلك سعى إلى نوع من الرابطة الاقتصادية بين سورية والعراق الهاشمي، وإزالة الحدود والحواجز الجمركية بين البلدين، مع احترام لنظام سورية الجمهوري ودستورها.
من ناحيته، مثّل الحزب الوطني مصالح دمشق والجزء الجنوبي من سورية، وسعى إلى محور مصري – سعودي. لكن الحزبين لم يختلفا في سياستهما الداخلية التي تمثلت في دعم التجار والصناعيين في المدن، والحفاظ على العلاقات الزراعية القائمة في البلاد، كما أنهما لم يطرحا أي برنامج عقائدي/إيديولوجي، في الوقت الذي كانت بدأت فيه بالظهور أحزاب قادمة من الطبقة الوسطى الصاعدة، مفعمة بإيديولوجيات راديكالية، مختلفة ومتباينة، استهوت الأجيال المثقفة الجديدة التواقة إلى التشبه بالمناخ السياسي والإيديولوجي الذي كان يعصف بأوروبا في فترة ما بين الحربين من تيارات اشتراكية وقومية وفاشية.
ولقد كان للرفض الشعبي العميق لمفرزات اتفاقية سايكس – بيكو، ومن ضمنها الكيان السوري الوليد نفسه، كما للسياسة البريطانية المتحالفة مع الحركة الصهيونية في فلسطين لإنشاء الدولة العبرية ، دورهما الحاسم في تجذير تلك الإيديولوجيات وانتشارها في الضمير الوطني للسوريين.
كانت بداية نشوء هذه التيارات الراديكالية مع عصبة العمل القومي التي ظهرت في الثلاثينات، كاستجابة للتغييرات الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية التي كانت تجري تحت السطح السياسي. ولقد تركت بصماتها على السياسات الوطنية بحكم أنها عبّرت عن مركب متين من الطبقة الوسطى، حيث كان في مقدم صفوفها رجال من بيئات تجارية أو من المستويات الوسطى من بيروقراطية الدولة، كما أنها شملت أعضاءً في المهن الحرة ومن بورجوازية صناعية وليدة.
ومع أن العصبة لم تنجُ من الحرب، فقد ثبت أنها الأصل الإيديولوجي لحزب البعث، التنظيم السياسي ذي التأثير الأطول مدىً في حياة سورية، بل حياة العرب، السياسية في حقبة ما بعد الحرب.
لقد ساهمت العصبة في وضع الأسس الفكرية والتنظيمية للعروبة الراديكالية، التي طوّر حزب البعث نفسه على أساسها بعد الاستقلال، وكان البعض من مؤسسي البعث وقادته الأولين أعضاء سابقين في العصبة، ومنهم زكي الأرسوزي، قائد حركة المقاومة السورية ضد الاستيلاء التركي على سنجق الاسكندرون في أواخر الثلاثينات، وجلال السيد، وهو مالك من دير الزور. وعلى غرار قيادة العصبة التي ضمت عدداً من الشبان الأوروبيي الثقافة، تلقى العديد من أوائل القادة البعثيين علومهم في باريس، وكان منهم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، فضلاً عن الأرسوزي نفسه. كما ضمت محامين وأساتذة وسواهم من أصحاب المهن الحرة.
جذبت العصبة، ومن ثم البعث، أعداداً كبيرة من العاملين في التعليم، كما أن قيادات العصبة وقيادات البعث الأولى كانت تنتمي إلى جيل من الشباب السوريين الذين ولدوا بين عام 1900 والحرب العالمية الأولى، وما بعد، فيما يمكن اعتباره الجيلين الثاني والثالث من أجيال الساسة السوريين.
ومثلما تشددت العصبة في معارضة نخبة الوطنيين القدامى بشأن التسويات مع الفرنسيين في أواخر الثلاثينات، وعارضت رغبتهم في توكيد “القطرية” السورية على حساب العروبة، فقد فعل البعث ذات الشيء في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد كان لوحدة الحزبين، البعث، والعربي الاشتراكي الذي أسسه رجل حماه القوي أكرم الحوراني، دور محوري في مد حزب البعث بأنصار من الطبقات الشعبية وشبان الأقليات، وبإنشاء روابط حاسمة مع صغار الضباط في الجيش.
وعلى هذا فقد كان هناك جيل ثانٍ من القوميين العرب مهيأ لمحاولة الحصول على السلطة في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الجيش السوري عاملاً حاسماً في محاولة الحصول على هذه السلطة، فقد كان العسكريون المسيسون هم الأقل بروزاً خلال الانتداب، لكنهم كانوا فيما بعد أكثر من عمل بالسياسة السورية تمزيقاً. كما أن عاملاً آخر ظهر خلال الانتداب، ساهم كثيراً في تجذير المؤسسة العسكرية بعد الاستقلال، وهو تركيبها المتبدل. فوفقاً للتخطيط الفرنسي، طوّر الجيش تركيباً ريفياً وأقلوياً قوياً، كان فيه للعلويين موقع مرموق. وفي نهاية الانتداب، كانت عدة كتائب في القوات الخاصة مؤلفة بكاملها تقريباً من العلويين، بينما لم تكن هناك أي كتيبة عربية سنّية. لقد فضّل الفرنسيون تجنيد الشبان من الأقليات ومن سكان الأرياف لأنهم كانوا بعيدين جداً عن إيديولوجيا سورية السياسية السائدة، أي السياسة الوطنية وسياسة القومية العربية. ولما كان العلويون هم الأكثر فقراً، فقد كانوا الأكثر عدداً في الجيش، إلا أنه لم يكن لهم تأثير ملموس مدة جيل كامل بعد الاستقلال، فالضباط السنّة كانوا ممسكين بنقاط القوة في الجيش خلال الأعوام التالية للاستقلال، ولم يسيطر العلويون على الجيش إلا في الستينات، بعد أعمال تطهير متتالية جرّدت المراتب العليا فيه من الضباط السنّة.
ولكي يعبّر صغار الضباط العلويين والدروز والسنّة عن أهدافهم وتطلعاتهم، فإنهم كانوا يحتاجون إلى إيديولوجيا. وقد وفّر البعث لهم إطاراً فضفاضاً من الأفكار بدرجة تكفي غاياتهم. إذ شدد برنامجه على إصلاح الأراضي وعلى إجراءات اقتصادية أخرى ترمي إلى المساواة، وندد بالطائفية. ومع حلول الخمسينات، بدأ أولئك الضباط يخترقون حزب البعث عبر قاعدته في الجيش السوري، وبذلك عززت كل مؤسسة راديكالية منهما الأخرى، ونبذتا معاً الأسس الاقتصادية والاجتماعية لسلطة النظام القديم واستبدلتا الخبرات السياسية لقدامى الوطنيين بأسلوب جديد وأكثر فاعلية، وفي النهاية، غيّرتا جذرياً من أساليب ممارسة السياسة. وبهذا أصبحت أيام الحرس القديم، الذي قاد البلاد باتجاه الاستقلال، معدودة.
بالإضافة إلى عصبة العمل القومي، ووريثها حزب البعث، فقد شهدت السياحة السياسية السورية ولادة عدة أحزاب أخرى في الفترة الانتدابية، وكان لها دورها المؤثر بعد الاستقلال.
فقد تأسس الحزب الشيوعي السوري في سورية ولبنان عام 1924، الذي اعتنق الإيديولوجية الماركسية/اللينينية – الستالينية. وفي غضون سنوات معدودة تسلم شاب مغمور من أصول كردية، اسمه خالد بكداش قوطرش، أمانته العامة عام 1930. شارك الحزب في النضال الوطني ضد الاحتلال، لكن بإيقاع متفاوت تأثر بارتباطات الحزب الدولية، فعندما شارك الحزب الشيوعي الفرنسي في حكم فرنسا عبر الجبهة الشعبية بقيادة زعيم الحزب الاشتراكي ليون بلوم عام 1936، تراجعت مقاومته للاحتلال وتبنى موقفاً مماثلاً لموقف الكتلة الوطنية: التعاون المشرف، لكن من خلفية “أممية” أكثر منها “وطنية”، حتى أن أمينه العام خالد بكداش شارك في الوفد السوري الذي توجه إلى باريس للتفاوض على معاهدة 1936.
كما أن الحزب اتخذ موقفاً غامضاً من قضية فلسطين عام 1948 لأن الاتحاد السوفييتي صوّت في الأمم المتحدة لصالح قيام دولة إسرائيل بعد دقائق من تصويت الولايات المتحدة. لكنه عاد وغيّر موقفه منها عندما اتضح له أن إسرائيل “دولة رأسمالية غربية وليست اشتراكية”. ومن الملاحظ أنه اتخذ هذا الموقف بعد وفاة ستالين، الذي كان يرى أن الدول العربية صنيعة للاستعمار الغربي ومعادية لموسكو.
أما الحزب الثالث، أي الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه اللبناني المغترب أنطون سعادة عام 1932 مستنداً، من الناحية الإيديولوجية، على أفكار القومية السورية ووحدة بلاد الشام، من سفوح جبال طوروس شمالاً، وسيناء جنوباً وبادية الشام شرقاً، أي شاملة لفلسطين ولبنان وسورية وشرق الأردن. وكان هذا الفكر امتداداً لفكر بطرس البستاني، لكنه طوّره وحدّثه من خلال اطلاعه على الفكر الأوروبي، ودمجه بأفكار مستوحاة من تاريخ المشرق، الذي يعود إلى فترة ما قبل ظهور المسيحية والإسلام.
تلقف المسيحيون المشرقيون أفكار سعادة، فقد رأوا فيها تعبيراً عن مجال انتشارهم الطبيعي والتاريخي المستند إلى روابط قومية وجغرافية وتراثية، خاصة أن سعادة دعا إلى فصل الدين عن الدولة وإزالة الحواجز بين الطوائف وإقامة دولة مركزية وجيش قوي، ووضع الفكرة السورية في قالب حزب سياسي. لكنه، وككل الأحزاب العقائدية الراديكالية، غاب عن برنامجه الطرح الاقتصادي، ما عدا بعض الإشارات الغامضة والجزئية المقتضبة.
لكن برنامجه لاقى استحسان الأقليات الدينية والإثنية، وأوساط الطلاب، والبورجوازية الصغيرة، وفي صفوف القوات المسلحة.
اصطدم الحزب، بسبب نجاحاته في استقطاب تلك الشرائح، بسلطات الانتداب الفرنسية التي حظرته واعتقلت قيادته عام 1935. ومما يجدر ذكره أن الحزب كان أكثر تشدداً بوحدة سورية ولبنان من الزعماء السنّة، فقد طالب بضم كل لبنان إلى سورية، وليس المناطق الإسلامية منه فقط.
خلال الفترة ما بين 1936 و 1955، أصبح الحزب أكبر الأحزاب وأقواها من حيث التنظيم والقدرات الفكرية والكوادر المثقفة، خاصة في جبال العلويين وريفي حمص وحماه وعلى امتداد الساحل السوري لأنه كان معادياً للإقطاع أيضاً، كما جذب الأقليات المسيحية في سورية ولبنان، خاصة من الروم الأرثوذكس. إلا أن عداءه الشديد للعروبة وللشيوعيين قلص من شعبيته وانتشاره في المدن الداخلية المتأثرة تاريخياً بالفكر العروبي، ولاحقاً بالماركسية التي استهوت الكثير من شبان الجيلين الثالث والرابع من أبناء الطبقة البورجوازية الصاعدة ومن مثقفي المدن.
ترك حزب سعادة أثراً كبيراً في كل الأحزاب التي ظهرت بعده، حيث كانت تقلّده في التنظيم والإدارة، وفي اللغة العقائدية ومفرداتها، كما لعب دوراً هاماً في الحياة السياسية السورية وفي صفوف قواتها المسلحة حتى العام 1955.
إلى جانب تلك الأحزاب العلمانية الطابع، ظهر في سورية تنظيم “الإخوان المسلمين” الذي يعتبر امتداداً للحركة التي نشأت في مصر عام 1928، ودعت إلى وحدة “الأمة الإسلامية”، وقد تأثر بعض الشبان السوريين ممن كانوا يدرسون في مصر آنذاك، ومنهم مصطفى السباعي، بهذه الحركة وانتسب إليها في مصر، ثم عاد إلى سورية ليؤسس فروعا لها في المدن السورية عام 1939.
اقتصر انتشار الحركة على المدن السورية الرئيسية، ولم تحقق نجاحاً في الأرياف، ما عدا البلدات والقرى المجاورة للمدن أو على تقاطع طرق رئيسية بين مدينتين كبيرتين. ومن الطبيعي القول بأنها لم تحقق أي انتشار بين صفوف القوات المسلحة، بحكم التركيبة الطائفية للجهتين.
قدمت الحركة لجمهورها بديلاً إسلامياً محلياً عنوانه “الحل الإسلامي”، وهو مقتبس عن الشعار المصري الإخواني “الإسلام هو الحل”، وقد قضى هذا البديل بوقف التبعية للأجنبي ووضع حد لتحالف الإقطاع والبورجوازية المدينية وتحرير العمال والفلاحين من الجهل والفقر، ووضع قوانين تحدد ملكيات الأراضي، وإفساح المجال للعناصر الشابة لدخول الجامعات ومعاهد التعليم العالي لتحسين مستوى المعيشة، وخلق الوعي “للحقيقة المعاشة”.
احتلت هذه الأحزاب الأربعة، البعث (ثم البعث العربي الاشتراكي لاحقاً، بعد اندماج حزب البعث والحزب العربي الاشتراكي عام 1952)، والقومي السوري، والشيوعي، والإخوان المسلمون، كامل المساحة السياسية السورية، وكانت في اتفاقها واختلافها، وفي تحالفاتها وصراعاتها، وانقساماتها واندماجاتها، محور الحياة السياسية والإيديولوجية في سورية. وقد برزت أحزاب أخرى، خلال مراحل معينة، لكنها غابت ولم يكتب لها الاستمرارية لأنها حملت ذات الإيديولوجيات والأفكار التي حملها أحد هذه الأحزاب الأربعة، وإن انتحلت أسماء مختلفة، وبذلك ظلّت على هامش الخط العريض للحياة السياسية في سورية، الذي رسمته هذه التيارات الأربعة.
وبإلقاء نظرة فاحصة على تلك الأحزاب الأربعة، والإيديولوجيات المتنافرة التي تبنتها، نجد أنها تشترك في أمور ثلاثة: أولها أن منظرّيها وأجيالها المؤسسة قدِمت كلها من الطبقة الوسطى التي كانت قد بدأت بالتشكل والصعود، والسعي للحصول على دور وازن في الحياة السياسية، لكنها توجهت بخطابها الإيديولوجي والسياسي، ما عدا الإخوان المسلمين، إلى الطبقات “الكادحة” وإلى “جموع العمال والفلاحين”، أي إلى من يفترض بأنهم أعداؤها الطبقيون، ما يدفع إلى الشك بمصداقية طروحاتها، وبمدى التزامها الفعلي بما كانت تروّج له. وثاني الأمرين أن أياً منها لم يكن يحمل إيديولوجية “وطنية سورية”، كتلك التي كانت شعار ومحور نشاط الكتلة الوطنية واهتمامها. أما الأمر الثالث الذي تشاركت به تلك الأحزاب فقد كان الحطُّ من قيمة الهوية الوطنية السورية، بل واحتقارها، ووصفِها بمفردات سادت لعقود: كالرجعية والانفصالية والشعوبية والقطرية والإقليمية.. إلى ما هنالك من ألفاظ تنم عن مشاعر الاحتقار والنظرة الدونية لكل ما هو “وطني” و”سوري”.
وما عدا ذلك، فقد كان لكل منها غاياته وأهدافه التي تتعارض، بل وتتناقض جذرياً، مع غايات وأهداف الأحزاب الثلاثة الأخرى، وتتناقض أيضاً مع السعي إلى تشكيل هوية سورية جامعة في إطار الوطن الذي تشكل بعد الاستقلال.
لقد كان هذا مؤشراً “وطنياً” خطيراً على مدى الرفض العميق والمتجذّر، لدى كل الاتجاهات الإيديولوجية والفكرية، والاجتماعية والسياسية في سورية، للهوية الوطنية السورية التي فرضتها القوى الكبرى، كجغرافيا سياسية، عشية الاستقلال. لكنهم كلهم، ودون استثناء، فشلوا، أو ربما لم يكونوا معنيين أصلاً، بالتوصل إلى هوية بديلة.
ولهذا بقي السوريون دون هوية وطنية جامعة إلى يومنا هذا، مع قناعة جمعية ترسّخت لديهم، وتأصلت في لا وعيهم، وساهمت فيها بشكل تآمري كل تلك الأحزاب، برفض كلِّ انتماءٍ وطني وسوري.
وفي التحليل النهائي للمسارات المتعرجة لتلك الأحزاب الأربعة وأساليب عملها السياسية، سواء أكانت في المعارضة أم في السلطة، أو حتى على هامش السلطة، يمكن الاستنتاج بثقة أن كل طروحاتهم الإيديولوجية والفكرية، وحتى الاقتصادية منها والاجتماعية، لم تكن، في العمق، إلا واجهة لاستقطاب الجماهير، ووسيلة “ثورية” للوصول إلى السلطة، لكنها لم تكن غاية حقيقية بالنسبة لهم في يوم من الأيام.
لقد وسمت هذه المفارقة التاريخية والوطنية المفجعة كل تاريخ سورية بعد الاستقلال.. وما زالت. وكانت عاملاً جوهرياً في إحكام تمزيق المجتمع السوري، وسبباً رئيسياً وراء كل ما عصف بسورية وبالسوريين من محن وكوارث حفرت أخاديد عميقة في أساس وجود الوطن والدولة والمجتمع.