مقالات
محمود جديد : المقدمات والأسباب المباشرة لحركة 23 شباط 1966
من الدراسة الأولية لنقد تجربة الحزب الجزء الرابع المقر من المؤتمر القومي ١١
المقدمات البعيدة والقريبة والأسباب المباشرة لحركة
23 شباط 1966
محمود جديد – التاريخ السوري المعاصر
*تعود الأسباب البعيدة لحركة 23 شباط إلى جذور الصراع التاريخي… بين اليمين واليسار داخل الحزب والذي استعرضناه منذ بداية تأسيسه: كالموقف من الاشتراكية في المؤتمر التأسيسي الأول مرورا بالموقف من انقلاب حسني الزعيم والانقلابات العسكرية عامة إلى الصراع قبل الوحدة، فالوحدة وحلّ الحزب، ثم الانفصال، وثورة 14 رمضان 8 آذار… وتطور ذلك الصراع باتجاه التبلور التدريجي بين الخطين الديمقراطي الثوري واليمين الإصلاحي المحافظ.
أما أسبابها الأقرب فتعود إلى تجليّات الصراع الواضح في المؤتمر القومي السادس، ثم الردة التشرينية في العراق ودور اليمين فيها، ومحاولات استكمال الردة في سوريا عبر المؤتمر القطري السوري الأول الاستثنائي والقومي السابع والموقف العدائي من الإجراءات الاشتراكية في القطر السوري فقرار تجميد القيادة القطرية السورية، ثم فشل اليمين في المؤتمر القومي الثامن، والقطري السوري الثاني الاستثنائي الذي تلاه في تكريس الخط الارتدادي عن طريق المؤتمرات الحزبية التي جاءت في محصلتها انتصارا للديمقراطية وبالتالي للخط الديمقراطي الثوري داخل الحزب.
ـ أما الأسباب المباشرة فترتبط بإجراءات القيادة القومية اللانظامية في حلّ القيادة القطرية السورية والمؤسسات الحكومية والشعبية في القطر خارقة بذلك الشرعية الحزبية والشرعية الدستورية بنفس الوقت.
و يهمنا أن نذكر هنا باختصار شديد الوضع والإجراءات التي تمت في تلك المرحلة:
ـ مع بداية رجحان موازين القوى بعد مؤتمر القومي الثامن والقطري الثاني الاستثنائي السوري الذي تلاه لصالح الخط الديمقراطي الثوري في الحزب تشكلت وزارة برئاسة الرفيق يوسف زعيّن وبالتالي توالى انحسار نفوذ اليمين عن السلطة ، فصلاح البيطار كان قد أُبعِدَ من قبل كما هو معروف، وأمين الحافظ الذي كان يجمع كل السلطات ويجنح تدريجيا نحو الفردية لم يعد رئيسا للوزراء.. الأمر الذي زاد من التأمر اليميني الذي خرج من النطاق الحزبي بعد فشله ديمقراطيا كما ذكرنا إلى إجراء التحالفات خارج نطاق الحزب. وأصبح التحالف التكتيكي الجديد يضم العناصر اليمينية في القيادة مع مجموعة أمين الحافظ العسكرية و المخابراتية ومجموعة محمد عمران الإصلاحية والطائفية الذي اُستدعِي من الخارج ، ولم يكن هذا التحالف متجانسا بل آنيا ضد القيادة القطرية وتوجهاتها ولإضعاف التيار اليساري في الحزب والقطر.
ـ فأمين الحافظ ـ رغم أرضيته الوطنية وتاريخيته الحزبية عامة ( ضمن الشكل العسكري اللاتنظيمي المعروف للحزبية في أيامه) ودوره النضالي بعد قيام 8 آذار (التي لم يشارك فيها حيث كان ملحقا عسكريا خارج القطر).. كان يتجه تدريجيا لإقامة حكم فردي في سوريا.
ـ أما محمد عمران فرغم استخدامه من قبل القيادة اليمينية للتوازن مع أمين الحافظ عسكريا(وطائفيا) وحتى سياسيا من الناحيتين الداخلية والعربية باعتباره « معتدلا » ويُرضى الناصريين خاصة لم يُعَدْ له (اعتباره) « الحزبي» من قبل القيادة القومية التي ادّعت حرصها عليه وكان في صراع شرس مع أمين الحافظ وتهاتر دائم داخل الاجتماعات.. وكان له هو الآخر مشروعه الخاص(كرئيس سابق للجنة العسكرية) يريد إقامة نظام آخر بمعزل عن القيادة القومية، وبالتعاون مع مجموعته العسكرية والمدنية، وتحالفاته السياسية خارج الحزب، وكان صلاح البيطار يشكّل قاسما مشتركا بينه وبين القيادة القومية، كجسر للانتقال إلى المرحلة اللاحقة المذكورة.. حيث استمرت علاقته بالبيطار بعد الردة التشرينية 1970، كما هو معروف…
* وهكذا أصبح منطق التكتلات(1)يسيطر على مختلف أجهزة الحزب والدولة،وضاعت السلطة المركزية في البلد… وتوالت الاستفزازات والتحضيرات لدفع الأمور نحو الهدف المرسوم بخلق الحجج والمبررات لضرب المؤسسات الشرعية للحزب والسلطة… تمهيدا للإمساك بزمام المبادرة وتحقيقالسيطرة الكاملة للعقلية اليمينية وتحالفاتها المتعددة.. واتخذت بعض حوادث التنقلات العسكرية العاديّة والقانونية، التي تقع ضمن الاختصاصات الشرعية لوزير الدفاع في ذلك الوقت، ذريعة…«لإعلان النفير العام في القيادة القومية»، وتحويل مقرها إلى« غرفة عمليّات حربية»بما يناسب وعقلية الرزازالمسرحية المغامرة.. وأقدمت على حلّ القيادة القطرية الشرعية ونقل السلطات الحزبية والحكومية إلى القيادة القومية… بحجة تهدئة الأمور.. وتجنّب الصدام الذي هددّ به أمين الحافظ وجماعته بالنزول إلى الشارع!!! .. والاستعانة بقوى غير حزبية لضرب الحزب، واختراع صيغة « القيادة السياسية العليا »، كما سنرى…
ومن جدير بالذكر أن« القائد المؤسس» الذي كان يدير الأمور من خلال الاجتماعات السرية التي تعقد لتكتله خارج مقر القيادة القومية وكبديل لهذه المؤسسة التي لا يثق بكل أعضائها… قد برز فجأة من الخفاء وعاد لحضور اجتماعات القيادة القومية.. لإخراج ( الطبخة ـ المؤامرة)حيّز التنفيذ من خلال القيادة التي يسيطر على أكثريتها الساحقة، وكان من أكبر المدافعين والمحرضين لاتخاذ تلك الإجراءات اللاحزبية واللانظامية .. في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يكون القيّم الأمين والساهر على قيم وأنظمة الحزب؛كما كان يطوف شخصيا مع بقية أنصاره على القطاعات العسكرية لتحريضها ضد القيادة القطرية. وكان يصّرح علنا« بأن سلاح الشرعية والنظام الداخلي سلاحا مغولا لا بل سقيما» !!! …
وبالتالي كان مسلسل الأمور يسير بنفس الصورة التي حدثت إبان الردة التشرينية في العراق.. وأذاعت القيادة القومية قراراتها و بحل القيادة القطرية واستلامها هي لمقدرات الحزب والسلطة.. كما عمّمت ذلك على الحزب، كمايلي:
« 1ـ تشكيل قيادة موسّعة تشرف على شؤون الحزب والحكم والجيش في القطر، على أن تضم هذه القيادة جميع أعضاء القيادة القومية، يضاف إليهم عدد من الرفاق من القطر السوري شرط أن لا يزيد عددهم عن أعضاء القيادة القومية، وهذا يعني حلّ القيادة القطرية.
2 ـ تستمر القيادة القومية في ممارسة كافة السلطات العسكرية والمدنية والحزبية حتى يتم تشكيل القيادة الحزبية.
3 ـ إعادة تقييم الحزبيين داخل الحزب في القطاعين المدني والعسكري وكذا المستبعدين خارجه من غير المرتبطين بأي تنظيم آخر والملتزمين بخط الحزب…إلخ» . من « نضال البعث ـ الجزء العاشرـ ص:303 ـ 304 ».. بإضافة إلى قرارات تفصيلية عديدة حول إعادة تركيب كل الأمور الحزبية والعسكرية والحكومية والشعبية وفقا لنهج القيادة القومية الانقلابي على الحزب…
*ومن الجدير بالذكر أن صلاح البيطار الذي كان متشنجا من رفض قواعد الحزب لدوره القيادي، بعد موفقة المعروف أيام الانفصال، في وسائل المؤتمرات كان يستقتل في سبيل الوصول إلى قيادة الحزب. بأي ثمن ،وعن أيّ طريق بغض النظر عن الأسلوب والشرعية…
ولذلك كان شرطه الأساسي لقبول العودة مع مجموعة اليمين.. وتشكيله الوزارة الجديدة أن « يُعين في قيادة الحزب».
وهكذا تفتقت «عبقرية» عفلق وأعوانه عن ابتكار صيغة جديدة لم يسمع بها أي حزب من قبل هي «القيادة السياسية العليا» التي جاءت بديلا عن القيادة القطرية الشرعية المنتخبة.. والتي ضمّت البيطار وأعوانه ومنهم من لم يسمع به الجهاز الحزبي من قبل! … والذي لا يتمتع بأية صفة نضالية سوى ولائه لصلاح البيطار بالذات.. أي جِيء عملياّ « بقيادة» حزب البيطار الخاص « الحركة العربية الواحدة»الذي كان ينوي إعلان تشكيله فعلا قبيل « القفزة النوعيّة لولا أنه ا اقتنع بأن العودة للاستيلاء على الحزب(الأصلي) واستخدام اسمه التاريخي المعروف أفضل من تشكيل حزب جديد ـ سيفشل حتما ـ وأقصر طريق للوصول إلى تحقيق أهدافه.
٭ وتوالت الإجراءات« العرفيّة » الانقلابيّة وبسرعة في مسلسل إرتدادي واضح:
ـ حل القيادة القطرية، « قبل أن يجف حبر المؤتمر القومي الثامن، حول منع هذه العمليات المدمرة».
ـ دفع مجلس الرئاسة إلى الاستقالة، وكذلك الوزارة، وحل المؤسسات الدستورية: (المجلس الوطني) الذي لا يجوز حلّه إلا بقرار منه أو بانقلاب كامل حسب نصوص الدستور المؤقت، الذي لم يستطيعوا إيجاد مخرج له رغم الاستعانة بدهاقنه القانون في الجامعة، مواصلة حلّ المكاتب العسكرية والحزبية والمؤسسات النقابية والشعبيّة، وإلغاء كل القوانين والأسس والأنظمة المعمول بها في كافة القطاعات، وملاحقة تصفية مناضلي الحزب في كل المستويات والأجهزة الحزبية والحكومية والعسكرية والشعبية.
وتشكيل« القيادة الساسة العليا» ، ووزارة البيطار، وبدء الردة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية داخليا وعربيا ودوليا. الأمر الذي يشكل انقلابا كاملا على الحزب وسلطته التقدمية وإن يكن بدون (إراقة الدماء) أو بلاغ رقم ـ 1ـ في الإذاعة لأنهم لم يحتاجوا لذلك!!! …
*وكان كل ذلك يكمن في جوهر العقلية البرجوازية الصغيرة اليمنية المرتدة المذعورة من تجذير الثورة، وغير المؤمنة بالحزب والجماهير، والتي تخشى من مواجهة الرجعية والاستعمار، الأمر الذي لابد منه عبر استمرار الحزب في مواصلة خطة الثوري، وبالتالي الارتداد إلى مواقع البرجوازية والإطار الإصلاحي المقبول من قبل الرجعية ـ الداخلية والعربية والدولية ـ.
٭ أما رد الجهاز الحزبي فكان الرفض الحازم لتلك الإجراءات..حيث تحركت القواعد الحزبية بكل الوسائل الشرعية لتلافي الأزمة التي تهدد الحزب والسلطة.. وكان بإستطاعة القيادة القطرية أن ترفض تلك القرارات اللانظامية، ولديها الشرعية الحزبية اللازمة، بالإضافة للقوة الدستورية، والسيطرة على أكثرية مجلس الرئاسة وعلى الحكومة في ذلك الوقت، وتأييد أغلبية الجهاز الحزبي داخل وخارج القطر. ولكنها امتثلت لقرار القيادة القومية الخاطئ ـ أملا في تفويت الفرصة على الأعداءوتجنب التصادم الذي قد يؤدي لضياع « الثورة »كلها هذه المرة.. وكذلك لثقة الرفاق بأن اللجوءللمؤتمرات الحزبية كفيل بحل الموضوع وإحباط المخطط التآمري بالوسائل الحزبية الديمقراطية الشرعية.
ـ وهكذا استقالت الوزارة وأعضاء مجلس الرئاسة من أعضاء القيادة القطرية انسجاما مع قرار «حلّ »القيادة القطرية المذكورة..وتسهيلا لعمل القيادة القومية…
ـ وكما قلنا، كان رد فعل الجهاز الحزبي والمنظمات الشعبية عنيفا ضد إجراءات القيادة القومية التي فتحت جروح الردة التشرينية في العراق…وبدأت ترتفع الأصوات بالمطالبة بعقد دورة استثنائية عاجلة للمؤتمر القطري السوري لمعالجة الموقف وفقا لقرارات المؤتمر القومي الثامن. وتقدم أكثر من نصف أعضاء المؤتمر القطري السوري بمذكرة نظامية للقيادة القومية يطلبون فيها انعقاد المؤتمر القطري في دورة استثنائية خلال المدة النظامية المحددة في النظام الداخلي « أي شهر » ولكن القيادة اليمينية التي كانت تملك الأكثرية المطلقة في القيادة القومية لم تعبأ بكل تلك المطالب الحزبية، ولم تقم لها أي وزن على الطلاق.. بل بدأت تسرع في التمادي بالابتعاد عن الحزب والشرعية الحزبية وتسير نحو إتمام انقلابهاعلى الحزب.
ـ كما تحركت القواعد الحزبية والكوادر القيادة المعارضة لمواجهة إجراءات القيادة اليمينية بطلب دعوة المؤتمر القومي الثامن للانعقاد في دورة استثنائية .. إذا كانت القيادة القومية تفضل ذلك على انعقاد المؤتمر القطري السوري.. ولكن القيادة اليمينية كانت تمعن في رفض كل تلك المحاولات وتهدد باتخاذ أشد الأجراء السلطوية و« الحزبية » صرامة ضد أصحابها… حتى اعتقال أعضاء المؤتمر، وعند للزوم استخدام القوة المسلحة ضد المؤتمر!! فالمؤتمر القطري السوري كان مرفوضا أصلا من قبل اليمين، والمؤتمر القومي الذي انتخب تلك القيادة، وحُضّر وتمّ بإشرافها… مرفوض أيضا لأنه خطر وغير مضمون لوجود « عدد كبير من الدبابير» السوريين بين أعضائه يجب تصفيتهم قبل دعوته للانعقاد » على حدّ « قول الرزاز الأمين العام للحزب في ذلك الوقت، والمسجل في جلسات القيادة القومية الرسمية! » ..
٭ وهكذا فقد سُدّت جميع السبل الحزبية الديمقراطية أمام الحزب للخروج من محنته وإيقاف الانحدار المتواصل نحو كارثة على غرار الردة التشرينية في العراق.
ومن هنا بدأ تفكير عدد من المناضلين في القيادات الحزب يتجه إلى استخدام الوسائل الأخرى لمواجهة« العنف اليميني » الذي اغتصب شرعية الحزب والسلطة، (بالعنف الثوري)( والشرعية الحزبية الثورية) لاسترداد سلطة الحزب، وضمان استمرار تجربته الثورية ـ وكانت حركة 23 شباط التعبير العملي عن ذلك …كآخر وسيلة بأيدي مناضلي الحزب لإسقاط الانقلاب الكامل الذي قام به (التحالف اليميني) ضد الحزب وسلطته التقدمية الشرعية… والتي سنرى كيف قّيمها الحزب في قرارات المؤتمر القومي التاسع..
*والدرس الهام الذي نودّ تسجيله هنا… أن نجاح الحزب في استرداد سلطته في ذلك الوقت، يكمن أساسا في أن الأزمة طُرِحت على الجهاز الحزبي المدني والعسكري.. وجرت توعيته بكل أبعادها.. الأمر الذي لم يحدث ضد مؤامرة حافظ أسد.. التي جرت محاولات لمعالجتها في الكواليس…
وكذلك، فان الذين يخرجون على الشرعية الديمقراطية هم اليمينيّون.. لأن الديمقراطية الثورية في صالح الحزب والجماهير والتقدم.. فخروج (أقلية) على الاجماع العام،يوجب مواجهتها وحماية(المجموع) الملتزم من تخريبها، كما تفعل جميع الأحزاب الثورية في العالم.
فحركة 23 شباط إذن ـ رغم أسلوبها الاضطراري ـ كانت ردا ثوريا على انقلاب رجعي قائم بالفعل وليس قيد الاحتمال.. هذا من الناحية الاجرائية، كما أنها عملية انقاذ نوعية لخط الحزب الديمقراطي الثوري من الوجهة التاريخية.
اقرأ:
البلاغ رقم 3 لحركة 23 شباط 1966
بيان ميشيل عفلق حول إنقلاب 23 شباط 1966
صحيفة المنار 1966- التنافس الروسي – الصيني في سورية