قراءة في كتاب
في كتابه (رضد سعيد)، صباح قباني منقب آثار
لكي يضع بين أيدي الأجيال الراهنة والآتية شخصية شديدة التميز في المسار التنويري السوري عمل صباح قباني منقب آثار! لكن أداته التنقيبية كانت في المدونات المنشورة والمخطوطة عربياً وأجنبياً بغية الحصول منها على مجرد خبر – أي خبر يضيف أيما شيء- عما يبحث عنه.
هذا التنقيب ليس بالمستغرب على مثقف كصباح قباني أحد مؤسسي إذاعة دمشق ووزارة الثقافة، والمؤسس للتلفزيون العربي في دمشق زمن الوحدة السورية المصرية، وأول مدير له، والفنان الضوئي المتميز، والدكتور في الحقوق الدولية من باريس منذ العام 1952 والدبلوماسي العربي السوري، والكاتب في كل من اللغات الثلاث (العربية والفرنسية والإنكليزية) كتباً تبرز الوجه الحضاري لسورية.
وهو الذي أسعدتنا مجالسته في كاتب وموقف عن كتاب سابق له بعنوان «من أوراق العمر» وقد ازدانت صفحاته بمسيرة حياة صاحبه في كل من الإعلام والفن والدبلوماسية.
هذا المؤسس المرموق يميط اللثام اليوم عن مؤسس مرموق سابق هو الدكتور رضا سعيد فيضعه أمامنا، أو يضعنا أمامه، من خلال كتاب أصدره – مشكوراً – هذا العام 2011 بعنوان: «رضا سعيد» مؤسس الجامعة السورية ومردفاً العنوان بعبارة وصفية تقول: «رجل لكل الأقدار».
بهذه الكلمات الثلاث نتبين – منذ الغلاف الأول – مدى مكانة رضا سعيد وطنياً وعلمياً بالرغم من أنّا لم نقرأ عنه شيئاً، ولا رأينا ما يحمل اسمه إلا المدرّج الموسوم بـ«مدرج الجامعة»، الناظر بإجلال إلى كل من التكية السليمانية والمتحف الوطني لاحتضانهما، تماماً كما كان يفتح ذراعيه فيما مضى لاحتضان الملتقيات الثقافية الفاعلة، وقد كان منها ملتقى الشعر العربي الخامس، الذي وضعنا شباباً وجهاً لوجه – نظراً وسمعاً – مع عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونزار قباني.. ثم مصطفى جمال الدين الذي فاجأنا بعباءته وعمامته ولحيته ولهجته العراقية وإنشاده أيضاً، وقد أتيح لي بعد سنوات لاحقة أن أقيم واحدة من ندوات كاتب وموقف في هذا المدرج، المعروف جامعياً وتاريخياً بمدرج رضا سعيد، والمزدان بالآية الكريمة «وقلْ ربِّ زدني علماً»، وما ندري الآن لماذا رحّلوا اسم رضا سعيد عن هذا المدرج إلى مكان مجاور مستحدث سموه «مركز رضا سعيد»!!
استقر كل من عنوان الكتاب وكلمات العبارة الوصفية فوق حيز من صورة الغلاف المأخوذة عن لوحة للفنان الفرنسي (ميشليه) رسمها في عشرينيات القرن العشرين للدكتور رضا سعيد.
وقد حرصت دار «جداول» البيروتية على إبراز جهد المؤلف، فوضعت بين أيدينا كتاباً متعةً للناظر: قطعاً وطباعة وإخراجاً.
وفيه سيتبين القارئ المتابعة المضنية والمحبة للشخصية الروائية «الواقعية المحايثة» التي بنى عليها قباني مؤلفه هذا، وأهداه إلى: «وفيق رضا سعيد تقديراً لمبادرته في تبني إعداد هذا الكتاب عن سيرة والده – أحد أهم بناة النهضة العلمية والاجتماعية في سورية الحديثة».
يتشكل هذا الكتاب من ثلاثة فصول معنونة، يبدأ الفصل الأول «اليقظة» انطلاقاً من يوم الاثنين 5 أيار 1913 حيث نشاهد رضا سعيد – وهو في نحو الأربعين من العمر – يمشي في شوارع استانبول على شاطئ بحرها وبطريقه الاستحضار السينمائي يستعيد صاحبنا ما كان عليه في هذه المدينة التي جاءها صبياً للدراسة وتخرج فيها طبيباً، أما الفصل الثاني «التكوين» فيبدأ انطلاقاً من يوم الثلاثاء الواقع في تاريخ 12 تشرين الثاني 1913 وفيه تبدأ العودة – بالقطار – إلى دمشق.. وعبر وجه حماته الفرنسية المتعب ينتقل رضا سعيد إلى باريس وإلى دراسته التخصصية وتخرجه وزواجه بالآنسة الفرنسية مارسيل.
الفصل الثالث «العطاء» وهو أطول فصول الكتاب، يبدأ هذا انطلاقاً من يوم الخميس الواقع في 14 تشرين الثاني 1918 بوصول القطار إلى محطة الحجاز في دمشق.. وفيه يضعنا الكاتب بما كان لرضا سعيد من دور في الشأن العام والشأن الجامعي بخاصة، ثم تعريبه الدراسة الجامعية وهي الخطوة غير المسبوقة عربياً مطلقاً.
جهد كبير حقاً بذله د. صباح قباني لإحياء معطيات هذه الشخصية العلمية والتنويرية الكبيرة المحفورة في الذاكرتين الوطنية والجامعية باسم (رضا سعيد) يرحمه الله.