من الصحافة
نهاد قلعي : مثلت (البورجوازي النبيل) بقدمي المكسورة في حضرة رئيس الجمهورية
بارعة ياغي - مقابلة مع نهاد قلعي في دمشق أياماً قليلة قبل رحيله
يذكر الجمهور العربي جيّداً ملامح الفنان السوري نهاد قلعي الذي ما زالت شخصيته المعروفة “حسني البورظان” حاضرة في الاذهان، كما يذكر مقالبه المضحكة مع قرينه دريد لحام المشهور بـ “غوار الطوشة”. لكن من يذكر أن قلعي الذي رحل عنّا قبل أسابيع، هو أول مدير لـ “المسرح القومي” السوري أواخر الخمسينات، وأحد الذين أسسوا للحركة المسرحية العربية الحديثة؟ على فراش المرض، التقت “الوسط” هذا الفنان الكبير في أيامه الاخيرة، فاستعاد بعض ذكرياته التي ننشرها اليوم تحية لذكراه.
لم أكن أتخيّل وأنا أصعد الدرجات المؤدية الى بيت نهاد قلعي، أنها ستكون الزيارة الأخيرة…
وبعد لقائنا بأيّام، حين نعت “نقابة الفنانين” و”مديرية المسارح والموسيقى” و”الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون” في دمشق الفنان السوري الكبير، أدركتُ الاهمية المضاعفة لهذه المقابلة المؤثرة التي استدرجتُ اليها الرجل المتعب المعتكف في الصمت. فقد صعق الوسط الفني بالنبأ، ولف الحداد محبّي هذا الممثل الشعبي الذي وافته المنية في الثامن عشر من تشرين الاول أكتوبر المنصرم، فرحل عن عمر يناهز الخامسة والستين، بعد سنوات من الصراع المرير مع المرض، اضطرّته الى الابتعاد عن الاضواء وأرغمته على هجرة جمهوره الى غير رجعة.
أما الموعد مع نهاد قلعي، فتمكنت من أخذه بعد محاولات عديدة غير مجدية. كلما اتصلت، كان الصوت في الطرف الآخر يجيبني أنّه “نائم بسبب الادوية”. وعندما توصلت الى التكلم معه، وحظيت أخيراً بالموعد الذي أحلم به، قفزت في أول سيارة وطلبت من السائق التوجه الى منطقة المهاجرين في دمشق. هنا، في منزله، رحت أنتظر اطلالة فناننا “حسني البورظان”، مستعيدة شريط الصور المترسخة في ذاكرتنا الجماعية، والتي تختصر حياة فنية خصبة، حافلة بالعطاء. دخل منحني القامة، بطيء الخطى، متكئاً على كتف ابنه المهندس بشار الذي أجلسه وانسحب على رؤوس أصابعه.
رحّب بي بلطفه المعهود، وشكرني بصوت متأثر على أننا ما زلنا نتذكره، بعد أن نسيه الزملاء والاصدقاء، ونبذته المؤسسات. واعتذر نهاد قلعي لعدم قدرته على اجراء أي حوار بسبب سوء حالته الصحية، مكتفياً بتوجيه تحية لجمهوره ومحبيه عبر مجلة “الوسط”. فالمرض أنهك قواه، ومنعه من التفكير بأي شيء، وهو لم يعد يريد سوى التقرب من الخالق وطلب العفو والغفران.
استجبت لطلبه، لكننا بدأنا بشكل عفوي “دردشة” لم تلبث أن أثارت قابليته على الحوار. فأخذ راحته وبدأ يتكلم، وما كان منّي الا أن أدرت آلة التسجيل:
بدأ نهاد قلعي في “المسرح القومي” السوري مخرجاً وممثلاً، وهو من مطلقي هذه المؤسسة…
– نعم. أنا أسّست “المسرح القومي”. لم يكن لوزارة الثقافة، ذلك الوقت، أي قدرة على توظيف الفنانين. لذا كان هؤلاء “أنصاف محترفين”، ينصرفون خلال النهار الى أعمالهم ووظائفهم ومصالحهم المختلفة، ثم يأتون في المساء الى المسرح. وأذكر أن أول عمل قمنا به في نطاق “المسرح القومي” كان مسرحية “مشكلة الحكم، أو راكسا جولا” التي قام بإخراجها رفيق الصبّان، مدير المسارح آنذاك.
ولادة “المسرح القومي”
قبل “القومي” كنت عضواً في “نادي الشرقي” للهواة في دمشق وضم عدداً من الفنانين الذين أصبحوا معروفين في ما بعد. قدم النادي عملين لافتين بين 1957 و1958. وعرضنا في القاهرة لمدّة أسبوع، مسرحية “ثمن الحرية” لعمانوئيل رويلس. كان ذلك أول أيام الوحدة، ومصر تفتقر الى المسرحيات القومية، لذا حقق العمل نجاحاً كبيراً وأشاد به الدكتور محمد مندور عميد النقد المسرحي في مصر.
فزميلنا في النادي الدكتور زهير البراقي، قام حينها بتعريب أحداث القصة التي تجري في الاصل بين أميركا الشمالية وفرنسا، فاذا بها تتحول بين الجزائر والفرنسيين. وعندما انتقد أحد الصحافيين هذا الاقتباس، انبرى له أحمد مندور قائلاً: “شاهدت المسرحية نفسها قبل فترة كما وضعها المؤلف الاصلي، وذلك على مسرح الاوبرا كما قدمها خريجو المعهد العالي للتمثيل في مصر… وأعتبر أن اخواننا الشماليين في فرقة الشرقي، أضافوا الى النص قوّة وزخماً أكيدين”.
وظهرت في تلك الفترة فكرة تأسيس مسرح قومي في “الاقليم الشمالي”، فقدم سفيرنا في مصر تقريراً بهذا الصدد وكان أميناً عاماً مساعداً لوزير الثقافة. عدنا الى دمشق، واذا بالفكرة تأخذ طريقها الى التنفيذ. هكذا اتصلوا بنا في النادي، وبعد اجتماعات عدة صدر قرار رسمي بإنشاء “المسرح القومي” الذي كنت أول مدير له عام 1958. كانت نواة الفرقة من أعضاء “النادي الشرقي”، وانضم الينا عدد من الفنانين القادمين من أندية المدن الاخرى كحلب. بين المسرحيات التي أخرجتها ومثلت فيها: مسرحية موليير “البورجوازي النبيل”، ومسرحية غوغول “المفتش”، اضافة الى “ثمن الحرية” و”مدرسة الفضائح” و”المزيفون”…
وما الذي أخذك الى التلفزيون؟
– كنت أيضاً من شركاء الساعة الاولى في مغامرة التلفزيون. وجدنا أننا كفنّاني مسرح، وحدنا في الميدان، علينا مواجهة هذا الغول، واشباع نهمه غير المحدود. وكانت كل الاعمال تقدم في البداية، مباشرة على الهواء.
هل تذكر أول عمل درامي تلفزيوني قمت به؟
– جمعني الصديقان صباح قباني وخلدون المالح مع الفنان دريد لحام، فكانت ولادة أول عمل درامي في التلفزيون السوري بعنوان “الاجازة السعيدة” مع محمود جبر وغازي الخالدي وآخرين…
هل أنت أكثر ميلاً الى السينما والتلفزيون منك الى المسرح؟
– كل هذه الفنون مرتبطة بعضها بالبعض الآخر. لكنني أستمتع في العمل المسرحي أكثر، لأنني أنجح في التواصل مع الناس عبر الحضور الحي، واستطيع أن ألمس رد فعل المشاهدين في الصالة بشكل مباشر. وهذه المتعة – صدّقيني – لا تضاهيها أي متعة أخرى في العالم!
بدأنا من العدم
لكلامك قيمة استثنائية، فهو صادر عن شخص أرسى تقاليد الحركة المسرحية في بلاده، قبل أن يساهم في اغناء التلفزيون واطلاق الحركة السينمائية.
– هذه حقيقة لا أرغب في قولها، مخافة أن يؤخذ كلامي على محمل التبجّح، أو مصادرة جهود الآخرين. لقد انطلقنا من الفراغ، من العدم. كنا في البداية كمن ألقي به في الصحراء، فوجد أن عليه أن يحفر بيديه وأظافره من دون عون وبلا أدوات تسهّل عمله، لاستخراج الماء ومقاومة العطش والموت… وهذا ما فعلناه بنجاح على ما أعتقد.
لنعود الى المسرح. “فرقة تشرين” أطلقت على نفسها اسم “فرقة نهاد قلعي”…
– نعم. حدث ذلك يوم أصبت بالشلل ودخلت المستشفى. ورفعت هذه المبادرة من معنوياتي، فهي التفاتة شفافة ومشكورة. الا أنني لم أشارك في هذا القرار، ولا علاقة لي بالفرقة ادارياً أو مالياً. الفرقة كلها للاخ دريد لحام، فهو الممول والمدير المسؤول عن كل شيء.
والتلفزيون؟ لم تتحدث بما فيه الكفاية عن التلفزيون، الذي تدين له بشهرتك الواسعة
– لا أحد يستطيع أن ينكر دور التلفزيون في عصرنا هذا. فنحن نعيش زمن التلفزيون. لكن الآراء والمواقف تختلف حول حسنات هذه الوسيلة وسلبياتها. أنا أرى في الذهاب الى السينما مع زوجتي وأولادي، طقساً من الطقوس الاجتماعية، خاصة أنني أختار الفيلم بنفسي وأذهب اليه. أما التلفزيون، فيمكن مشاهدته في المنزل وأنت تمارسين حياتك اليومية، كما أنه يفرض عليك برامجه.
راضٍ وظالميَّ كثر!
هل فكرت في كتابة مذكراتك؟
– لا. لا أحب الفضائح!
يطغى شعور بأن الفنان نهاد قلعي مظلوم، لم ينل ما يستحقه من التقدير. فما مدى صحّة هذا الشعور؟
– ليس الفن وحده من ظلمني. فظلاّمي كثر… وأنا أعيش حالياً جوّاً من الاحباط. لكنني لو عدت الى بداياتي، وقيد لي أن أختار حياة جديدة، لما اخترت غير الطريق التي سلكتها، رغم مرارتها ووعورتها في أحيان كثيرة. باستطاعتي القول إنني لست نادماً على شيء.
إذاً أنت راض عمّا قدمته خلال مسيرتك الفنية؟
– نعم أنا راض كل الرضى. لأنني بذلت كل جهدي، وقدمت كل ما استطعت. ولا أظن أنني فشلت، ألا توافقينني الرأي؟ قد لا أكون حققت النجاح الذي أطمح اليه، ويطمح اليه كل مبدع في قرارة نفسه، لكن انجازاتي تتناسب مع الامكانات التي اتيحت لي على أرض الواقع.
لا شك أنك تتذكر حوادث طريفة حدثت معك خلال مسيرتك الطويلة.
– هناك حادثة أتردد في ذكرها، لكنّها جديرة بأن تروى. لا أذكر سنة حدوثها تماماً. طلبت منّي وزارة الثقافة ذات يوم عرض مسرحية “البورجوازي النبيل”، تكريماً للطلبة الذين حصلوا على مراتب عليا في جميع الكليات السورية، وذلك في اطار الاحتفالات التي أقيمت في مناسبة وصول ناظم القدسي الى سدّة رئاسة الجمهورية السورية، واستلام خالد العظم مقاليد رئاسة الوزراء. وفي اليوم المحدد، قبل ساعة من موعد بدء العرض، توجهت الى “مسرح القباني” للتأكد من أن مسؤولة الملابس جهزت جميع الملابس والاكسسوارات المطلوبة للمسرحية. كنت متوتراً، مضطرباً، والرهبة تملؤني، فقد كانت المرّة الاولى التي يحضر فيها رئيس الجمهورية واحدة من تمثيلياتي…
كسرت الباب وقدمي
وعندما بدأت أرتدي ملابسي، اكتشفت أنها ناقصة، فهرعت أبحث عنها في غرف الزملاء لكن دون جدوى. وما كان مني إلا أن ركلت الباب بقدمي لشدة الغضب، ولم يكن يكسوها سوى نعل خفيف. فانكسر الباب، وانكسرت قدمي. وتم احضار الاطباء على الفور، فقرروا بالاجماع منعي من الحركة. وجدت نفسي في حيرة من أمري. فماذا أفعل والرئيس سيحضر شخصياً بعد قليل؟ قرّرت أن أقدم المسرحية رغم كل شيء.
بعد نهاية الفصل الاول، جاء سيادة الرئيس لتهنئتي، وأبدى اعجابه الشديد بي، وبطريقة اتقاني دور الأعرج. لكن وزير الثقافة أخبره حقيقة الامر، فأصرّ الرئيس على الاكتفاء بهذا القدر من المسرحية، واقترح الاعتذار من الجمهور عن عدم متابعة العرض والاعلان عن تأجيله الى وقت لاحق. لكنني لم أزد الا اصراراً على مواصلة المسرحية، فأتممت فصولها الخمسة رغم الكسور الثلاثة في قدمي. وعند سقوط ستارة الفصل الاخير اشتعلت الصالة بتصفيق منقطع النظير…
وتحضرني الآن حكمة للمرحوم عاصي الرحباني. فقد قال لي ذات يوم: “يا ريت يا نهاد، يكون للفنان عمران، عمر يتعلم فيه، وعمر آخر للعطاء”. فكم أتمنّى لو امنح فرصة ثانية كي أبدأ عطائي من جديد؟….
حياته في سطور
– من مواليد دمشق 1928.
– متزوج من المربية السيدة نبيهة عنتبلي، وله ولدان هما بشار مهندس معماري ومها مهندسة مدنية.
– بدأ مسيرته الفنية في وقت مبكر، من خلال الاندية الفنية الهاوية مثل “الازبكية” و”المجموعة” و”النادي الشرقي”.
– ساهم في تأسيس “المسرح القومي”، وكان اول مدير له عام 1958، في عهد تشكيل اول وزارة للثقافة في سورية. واستمر في ادارة المسرح لغاية عام 1964.
– ساهم في تمثيل واخراج الكثير من الاعمال المسرحية العالمية، اهمها “المفتش العام” لغوغول، و”البرجوازي النبيل” لموليير، و”ثمن الحرية”، “مدرسة الفضائح”…
– التقى بالفنان دريد لحام في بداية الستينات، وكون معه اول ثنائي كوميدي في الوطن العربي، وقدما العديد من المسلسلات التلفزيونية والافلام السينمائية.
واشتهر بشخصية “حسني البورظان” كما اشتهر دريد بشخصية “غوار الطوشة”. من اهم المسلسلات “صح النوم”، “حمام الهنا”، “الاجازة السعيدة”، “ملح وسكر”، “مقالب غوار”، “سهرة دمشق”. وفي السينما: “خياط السيدات”، “اللص الظريف”، “الصعاليك”، “عقد اللولو”، “غرام في استانبول”.
– ساهم هذا الثنائي في تأسيس فرقة “تشرين” المسرحية، واشتركا معاً في اول مسرحيتين للفرقة: “ضيعة تشرين”، “غربة”.
– اصيب الفنان الراحل بنوع من الشلل اثر حادث تعرض له، لم يمنعه من متابعة نشاطه الفني بعد جلسات العلاج الطويلة التي تمت في لندن… .