مقالات
عمرو الملاّح : بهاء الدين بك الأميري… زعيم سياسي ورجل دولة
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
زعيم سياسي، ورجل دولة، يعد واحداً من أبرز أعيان حلب وأبعدهم أثراً وأعلاهم صيتا في زمنه.
نسبه ومولده:
هو محمد بهاء الدين بك ابن عمر صدقي آغا ابن هاشم آغا ابن الحاج عیسی آغا ابن الحاج موسی آغا ابن الحاج حسن جلبي ابن الحاج أحمد أمير بن محمد بن علي بن ظفر البصري، الشهير نسبه بأميري زادة.
وكان مولده في مدينة حلب في 29 / 12 / 1295 هـ الموافق الرابع والعشرين من كانون الاول 1878م، وفقاً لما جاء في سجل خدمته المدنية المحفوظ في الأرشيف العثماني.
أسرته:
ينتمي بهاء الدين بك الأميري إلى أسرة عريقة كانت ذات أمارة ووجاهة في البصرة بالعراق، وقد هاجرت إلى بلاد الشام واستقرت في حلب منذ العهد العثماني، ولعل أول إشارة وقفنا عليها في المصادر إلى أعلام هذه الأسرة، إشغال عالم ذُكر باسم أسرته (أميري زاده) منصب القضاء الشرعي بحلب في الفترة (973-980 هـــ/ 1565-1573 م) من دون أن نتبين اسمه الشخصي بأي قدر من الدقة.
على أن أبرز شخصية حظيت بالإشادة والتأريخ من أسلافه هو الحاج موسى آغا الأميري، الذي كان أحد أعلام الإصلاح الاجتماعي في عصره، والمتوفى سنة 1177 هــ/ 1764 م تاركاً وراءه بصمات راسخة في تاريخ حلب تمثلت في تشييده سنة 1176 هـــ/ 1792 م جامعه الضخم الكائن في محلة سويقة علي، المسمى في طور نشأته الأولى بـ”جامع الخير”، والمعروف حالياً باسم “جامع الحاج موسى الأميري”، وسبيله.
ويعد “جامع الخير” أحد أهم معالم المدينة القديمة، ويمتاز بمئذنته السامقة والمستديرة ذات الطراز العثماني. ومما أوقفه الحاج موسى آغا الأميري من أملاكه للإنفاق على شؤون الجامع المذكور وإقامة الشعائر والدروس الدينية فيه خانان قريبان منه هما الخان الكبير والخان الأعوج، ويقعان إلى الشمال الغربي منه في السوق القريب، ومن وقفياته كذلك “حمام الواساني” الشهير الذي كان يضم جرناً أسود يقال إن “إبراهيم الخليل” اغتسل فيه، ومما يؤسف له إزالة هذا الحمام الأثري لتعريض الشارع الواصل بين الجامع الأموي وقلعة حلب.
في خدمة الدولة العثمانية:
تلقى بهاء الدين بك الأميري تحصيله العلمي في المدارس النظامية الحديثة في مدينته حلب من ابتدائية، ورشدية، واعدادية. وانتظم في سلك الإدارة العثمانية، وتدرج في مدارج الوظيفة المالية إلى أن عين رئيساً لديوان شعبة المصالح الجارية التابعة لدائرة المحاسبة في ولاية حلب في العام 1908، جنباً إلى جنب مع توليه نظارة وقف آل الأميري الذي أسسه جده الأكبر الحاج موسى آغا الأميري، وإدارة أملاكه الواسعة التي ورثها عن أبيه ونال بها غبطة من رخاء البال ورغد العيش.
زاول الأميري إلى جانب عمله الوظيفي التعليم الثانوي بمسقط رأسه؛ فكان عضو الهيئة التعليمية لدى المكتب الرشدي العسكري، ومعلماً لمادة الإملاء باللغة العثمانية فيه.
مثل الأميري ولاية حلب في المجلس النيابي العثماني (المبعوثان) مرتين مرشحاً عن “جمعية الاتحاد والترقي” التي أصبحت بمثابة الحزب الحاكم في العهد الدستوري العثماني، إحداهما في الانتخابات النيابية التكميلية التي جرت في 24 تشرين الثاني من العام 1909 خلفاً للنائب مرعي باشا المـلاّح المستقيل عقب تعيينه مديراً لأوقاف ولاية حلب، والأخرى في العام 1912.
كان الأميري واحداً من ألمع النواب العثمانيين الشبان؛ فجرى اختياره عضواً في اثنتين من أهم اللجان الدائمة في مجلس المبعوثان العثماني، ألا وهما لجنة القوانين المالية، ولجنة المعارف (التعليم).
كما استطاع أن يمثل بلده تحت قبة البرلمان العثماني خير تمثيل، ومن أبرز الخدمات التي أسداها لولاية حلب نجاحه في استصدار إرادة سنية (سلطانية) بإمرار خط بغداد الحديدي في حلب، وجعلها محطة رئيسة، مما كان له أكبر الأثر في تطوير المدينة في النواحي الاقتصادية والعمرانية.
مكانته عند سلاطين آل عثمان:
كان بهاء الدين بك الأميري أحد كبار أعيان حلب الذين كانت لهم حظوة لدى سلاطين آل عثمان، فقربوه إليهم، وأنعموا عليه بالرتب والألقاب والميداليات، وكرموه بالهدايا والعطايا؛ وذلك إشادة بفضله وتقديراً لحسن خدماته وإخلاصه.
وقد تدرج الأميري في الرتب المدنية حتى بلغ “الرتبة الثانية” في الهرمية العثمانية بموجب الإرادة السنية الصادرة عن السلطان عبدالحميد الثاني في العام 1323 هــ (1885 م)، التي يُنعت حاملها بـ (صاحب العزة) دوماً. كما خلع عليه السلطان عبدالحميد لقب “بك”، وأنعم عليه بميدالية “الافتخار” الذهبية.
وعلت مكانته عند خلفه السلطان محمد الخامس (رشاد)، فأصدر إرادته السنية المتضمنة أن يعين له وقت للمثول بين يديه بمناسبة اختتام الدور التشريعي لمجلس المبعوثان في العام 1910 واعتزام الأميري على العودة إلى وطنه.
ومما يذكره مؤرخ حلب الطباخ في كتابه المرجعي “إعلام النبلاء” في هذا الصدد: ” ففي الوقت المعين توجه إلى سراي بشكيك طاش وهناك استقبل من قبل رجال البلاط الملوكي استقبالا حسنا، ثم أدخل على حضرة السلطان فلقي منه كمال الحفاوة وأحسن الاستقبال، وبعد أن أعرب عن حبه الجم للأمة العربية والبلاد العربية دار بينهما بعض الشؤون المتعلقة بعمران حلب ومن جملتها سكة حديد بغداد ومرورها بجانب حلب، ثم قال له: عندي من الآثار النبوية شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم موضوعتان في حقين من ذهب، واحدة استبقيتها لنفسي والأخرى أهديتها لك، فشكره على إنعامه الجزيل، فأمر له بها في الحال. ثم طلب منه السلطان أن يعيد الزيارة في اليوم الثاني، فلما زاره قدم له السلطان رسمه في لوحة كبيرة موقعا عليه بخطه وهو محفوظ عنده.
ووضعت الشعرة النبوية في خزانة نجرت تنجيراً حسنا في قبلية الجامع عن يمين المنبر قبل حضورها داخل صندوق من الحديد، وهي الآن فيه تخرج للتقبيل أيام المواسم، وأخذ رسم هذه الخزانة بالمصور الشمسي. وحين عودة بها بك إلى الآستانة زار حضرة السلطان وقدم له الرسم فأظهر له ارتياحه وامتنانه، وحين عودته أرسل معه السلطان هدية ثمينة وهي قطعة من الشال الهندي البديع لتوضع على ضريح سيدنا يحيى في الجامع الأعظم مع ستائر من الديباج مؤلفة من ثلاث قطع مطرزة تطريزا بديعا، وقد كتبت عليها الآيات القرآنية لتوضع على الخزانة أيضا ، وكان لوضع هذه الهدية أيضا يوم مشهود وذلك في سنة 1329 [1911 م].”
نزعته العثمانية:
عرف عن بهاء الدين بك الأميري ولاؤه للدولة العثمانية، ومعارضته الثورة العربية، وكان ملفتاً للنظر خلو العريضة، التي رفعها “أعيان حلب” إلى الحسين بن علي في العام 1918 غداة الانسحاب العثماني والمتضمنة مبايعتهم له ملكاً وخليفة من توقيعه؛ وذلك على الرغم من أنه كان يعد واحداً من أبرز أعيان حلب آنذاك، ما يدل دلالة واضحة على شدة تأثره بانهيار الدولة العثمانية.
وحينما وصلت لجنة “كينع-كراين” المنبثقة عن مؤتمر الصلح بباريس إلى حلب لتقصي الحقائق بشأن مستقبل البلاد بعد الانهيار العثماني، كان الأميري في عداد وفد “أعيان حلب” الذي قابل اللجنة في مقر إقامتها بفندق بارون في 24 تموز من العام 1919.
وقد قدم أعيان حلب إلى لجنة الاستفتاء الدولية تلك “برنامج دمشق” الذي أقره المؤتمر السوري العام، ويتضمن المطالبة بحصول سوريا بالكامل على الاستقلال التام بوصفها دولة ملكية دستورية فيدرالية وعلى رأسها الأمير فيصل، مع الموافقة على انتداب يأخذ شكل تقديم مساعدات تقنية ومالية يمكن أن تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا، ولكن ليس فرنسا. ومما جرى بين أعضاء الوفد واللجنة الحديث التالي:
س: هل مطالبكم منطبقة مع مطالب المؤتمر السوري؟
ج: هي بعينها حرفياً إلا أن لنا بعض إيضاحات تفصيلية بخصوص الحدود نعرضها عليكم وهي مدرجة في لائحتنا هذه المقدمة إليكم. وذكروا لهم أن (وادي حوران) هو الحد الطبيعي بين حلب والعراق، وطلبوا إدخاله إلى حدود الولاية ليكون (دير الزور) داخلاً ضمنها.
س: بلغنا أنه لولا الضغط لكانت أكثرية المسلمين يطلبون فرنسا.
ج: أولاً- الضغط غير متصور وقوعه لأن حكومتنا الحاضرة عربية، وهي لسان حالنا ونحن لسان حالها.
ثانياً- طلب فرنسا لا يتصور حدوثه من المسلمين، لأنهم يطلبون استقلالهم، وفرنسا تدعي حقوقاً في البلاد وهذان أمران متناقضان لا يمكن الجمع بينهما.
وبعد وقوع البلاد السورية تحت الانتداب الفرنسي، زاره الجنرال دولاموت مندوب المفوض السامي لدى دولة حلب في الفترة (1920-1922)، وكلفه باسم الجنرال غورو أن يكون وزيراً في حكومة حلب، ثم كلفه في زيارة تالية برئاسة الدولة، فاعتذر عن عدم قبول المنصبين، وآثر أن يعمل في خدمة أمته وبلده في المجالات الاجتماعية، فكون جمعية أهلية تعمل على استخلاص الأوقاف الإسلامية التي استولى عليها الفرنسيون، وضمت في عضويتها عدداً من كبار العلماء والسياسيين، من بينهم علامة الشهباء أحمد الزرقا، وابنه العلامة الدكتور مصطفى الزرقا، ومؤرخ حلب الشيخ راغب الطباخ، والدكتور معروف الدواليبي.
نشاطه الثقافي والأدبي:
اشتهر الأميري منذ شبابه الأول بسعة الثقافة، وحب المطالعة، وكانت له محاولات أدبية شعراً ونقداً باللغتين العربية والعثمانية نشر بعضها في كبريات الدوريات العثمانية والعربية والسورية المعروفة لوقته مثل صحيفة “معلومات” ومجلة “ثروت فنون” اللتين كانتا تصدران في الآستانة، وصحيفة “ألفباء” الدمشقية التي كان له فيها عمود خاص يذيل مقالاته فيه باسم (ناسك).
وكانت له مراسلات مع مفكري عصره مثل محمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، والأمير شكيب أرسلان، وإحسان الجابري.
وفاته:
شهد العام 1937 عودة إحسان الجابري والأمير شكيب أرسلان اللذين كانا من أعز أصدقائه إلى البلاد بعد غياب قرابة عشرين عاماً، فخرج لاستقبالهما إلى حمص، ومن شدة الانفعال والحركة انفجر عرق في دماغه في أثناء عناقه لهما، فأعيد إلى حلب، وكان يغفو ويصحو، فإذا صحا قال لولده ممدوح: “اذهب وجئني بالأمير شكيب، أريد أن أنظر إلى عينيه اللتين رأتا عمر في باريس”. ثم توفي وهو يحلم بولده الأثير الشاعر والدبلوماسي الشهير عمر بهاء الدين الأميري الذي كان يدرس آنذاك في باريس دون أن يتمكن من رؤيته.
المراجع
– “سجل عمومي”، وثيقة تتضمن سجل الخدمة المدنية لبهاء الدين بك الأميري في العهد العثماني، محفوظة في الأرشيف العثماني تحت الرقم (DH.SAİDd.. 85/2450)؛
– د. خالد بن سعود الحليبي، “عمر بهاء الدين الأميري شاعر الإنسانية المؤمنة”، (بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1968)؛
– محمد راغب الطباخ، “إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء”، (حلب: دار القلم العربي، 1988)؛
– “عثمانلي مبعوثلري، 1324-1328″، (استانبول: احمد احسان وشركا سي مطبعه سي، 1909).