مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش): أنا واللغة العربية وشاكر الفحام
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
لم تكن اللغة العربية التي أكتب بها هذه الكلمات لغتي الأصلية ولا لغة الأم الأولى ولا الأصوات التي سمعتها أوما زلت أسمعها في منزلنا من لحظة ولادتي إلى اليوم. ولعل أول كلمات عربية سمعتها هي ما كان مؤذن جامع مرج السلطان يردده خمس مرات في اليوم، وماكنت أسمعه من كلام أبناء القرى والبلدات السورية التي خدم فيها والدي رئيساً لمخافر الدرك فيها. ففي منزلنا تكلمنا لغتنا القومية، اللغة الأديغية (الشركسية) أقدم لغة محكية في العالم إلى اليوم، وباللهجة الأبزاخية.
كما كنت وشقيقاتي نلتقط أطراف اللغة التركية التي كان والداي يتقننانها عن جدي لأبي محمد رفعت (لاش) مؤسس أول مدرسة ابتدائية في مرج السلطان ومنطقة المرج. ولم يغير ترديدنا لبعض الأدعية والبردة للبوصيري وقراءة القرآن كالببغاوات مع والدينا ليلة الجمعة، من الأمر شيئاً. وقل الشئ نفسه حين أُرسلت إلى حضانات تعليم القران والكتابة والحساب المعروفة بالـ (كُتَّاب). إذ تلقيت التعليم في كُتَّاب مرج السلطان باللغة الشركسية، وفي بلدة القدم (جنوب دمشق) باللغة العربية.
أما في المرحلة التعليمية الإبتدائية فكانت لغة التعليم مزدوجة، العربية والفرنسية. في عهد الانتداب الفرنسي. وهكذا انتسبت إلى مدرسة ثانوية ابن خلدون حاملاً أثقال أربع لغات، أجيد منها الشركسية، وإلى حد ما العربية، والفرنسية وألم بأطراف التركية. ومن عجيب الأمر أنني كنت أكتب العربية الفصحى وأقرؤها صامتاً، مع صعوبة بالغة بنطقها وقراءتها بصوت مسموع.
كانت السنة الأولى والثانية في ثانوية ابن خلدون مرحلة تحول مفصلية في خوضي غمار اللغة العربية وإجادتها بشكل مرضٍ. والفضل في هذا التحول يعود إلى إنسان أقل ما يمكنني أن أصفه به، أنه كبير، هو الأستاذ شاكر الفحام. ففي سنة 1946 جاءنا هذا الشاب الحديث التخرج من كلية الأداب بجامعة فؤاد الأول (مصر)، معلماً للغة العربية المضمخة باللهجة الحمصية. وفي إحدى الححص كان علينا أن يلقي كل تلميذ بعض أشعار ابن الرومي، ولما نادى على اسمي خرجت فلم أتمكن من إلقاء الأبيات وتسمرت صامتاً أمام السبورة.
ولما لن تجد محاولاته وتشجيعي على الإلقاء، سألني عن السبب؛ فأجبته بلغة عربية عامية ركيكة أنثت فيها المذكر وذكرت فيها المؤنث، أنني عاجز عن نطق كلمات الأبيات، فسألني بلهجته الحمصية، من أكون: هل أنت شركسي أم أرمني؟؟ فأجابه الصف كله تقريباً أنني شركسي وعاجز عن إلقاء القصيدة، لكنني قلت له أنني مستعد لكتابتها على السبورة. فقفز من كرسيه منفعلاً وقدم لي قلم الحوار (الطبشورة) وطلب مني كتابتها، وظل واقفاً ينظر إلي وأنا أكتبها.
كتبتها كاملة بالشكل والتنوين وبدون خطأ واحد. فوقف مذهولاً فاغراً فاه لا يدري ما يقول. لكنه منحني علامة 20/20. وطلب مني مقابلته في غرفة الأساتذة. وبعد إطلاعه على حاتي النادرة سألني ما إن كان باستطاعتي البقاء في المدرسة في فترة استراحة الظهيرة، وكان الدوام في مدارسنا كاملاً (قبل الظهر وبعده) أجبته بأنني حاصل على منحة (نصف داخلي) أي يحق لي تناول وجبة الغذاء فقط في المدرسة التي كانت ذات نظام داخلي (تقدم الإقامة والطعام للتلاميذ). فرحب بالخبر وقال إنه سيجلب معه طعامه ويدربني على الكلام بالعربية الفصحى…. نعم هذا ما قرره شاكر الفحام بشأني… وأرفق قراره بالتنفيذ والفعل، وما شارفت السنة الدراسية على نهايتها إلا وأنا أقرأ له في الصف وفي غرفة الأساتذة أشعار بشار بن برد والمتنبي وابن الرومي وغيره. حتى أن مدير المدرسة الأستاذ كمال هبراوي أثنى على جهود المعلم شاكر الفحام.
غادرنا الأستاذ شاكر الفحام إلى مدرسة أخرى، لكن أستاذاً فذاً آخر، هو الأستاذ إحسان النص، أكمل المسيرة إلى أن نلت شهادة الدراسة الثانوية الفرع الأدبي. ومع تمرسي باللغة العربية أخذت في تلك الأيام أتحين الفرص فأتردد على المكتبة الظاهرية بدمشق أطالع فيها ما استطيب، كما كنت أحظى بالاستماع إلى أعلام الشعر واللغة العربية المترددين على المكتبة ومجمع اللغة العربية، فشدني شاعر دمشق محمد البزم – التركماني الأصل-إلى شعره وفنون أدبه الرفيع وكنت كثيراً ما أستمع إليه في سنوات دراستي الثانوية بين 1946 -1950.
لم تنقطع سلسلة شيوخي في العربية في مرحلة دراستي الجامعية. فعلى الرغم من تخصصي في علم الجغرافيا، حظيت بحضور محاضرات علمين من شيوخ العربية هما المرحوم الأستاذ سعيد الأفغاني الذي قرأنا على يديه جامع الدروس العربية للغلايني وألفية ابن مالك وشرحها لابن عقيل، وكذلك الأستاذ الدكتور أمجد الطربلسي الذي سحنا معه في رحاب الكامل للمبرد. وكانت سعادتي كطالب لا توصف حين اكتشفت أن الاستاذ الأفغاني كان صديقا لوالدي حين كان رئيسا لمخفر درك صيدنايا (ريف دمشق)، وهومعلم فيها في ثلاثينات القرن الماضي. وتكاملت قائمة الشيوخ الذين أثروا معارفي اللغوية العربية بالاستماع إلى شاعر الشام الأستاذ شفيق جبري أستاذ اللغة العربية في كلية الآداب بالجامعة السورية (دمشق اليوم)، ثم عميدها طوال مدة دراستي الجامعية.
بقيت على صلة شبه دائمة مع معلمي الأول الأستاذ الدكتور شاكر الفحام، منذ بدايات عملي في جامعة دمشق التي شغل منصب رئاستها ومنصب وزير التعليم العالي ومدير الموسوعة العربية ومجمع اللغة الغربية بدمشق…إلى تاريخ وفاته سنة 2008 ، رحمه الله وطيب ثراه، ورحم شيوخي الذين علموني اللغة العربية وغرسوا حبها في ثقافتي المتعددة الجذور.
عادل عبدالسلام (لاش)
دمشق: 16 -2- 2019