مقالات
د. عادل عبد السلام: من جعبة الذاكرة.. المظاهرات الطلابية السورية
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
كان خروج تلاميذ المدارس وطلاب الجامعة السورية (دمشق اليوم) في مظاهرات تندد بالانتداب الفرنسي حتى عام 1946، وتحتج على بعض القرارات والإجراءات الرسمية الحكومية بعد الاستقلال… ظاهرة مألوفة في دمشق والمدن السورية الأخرى.
وهي وإن كانت ذات خلفية وطنية سياسية تغذيها الأحزاب حسب أجنداتها فإنها كانت في كثير من الحالات احتجاجية الطابع على قرار وزاري أو برلماني يمس مصالح التلاميذ والطلاب (بتحريض من الحزبيين وأهدافهم أحياناً)، كما كانت مناسبة لتعطيل الدراسة ويوم استجمام والتحرر من المدارس.
ولا أظن أنني فوتت الاشتراك بمظاهرة ما، مع تشديدي على أنني لم أكن في يوم من الأيام حزبياً أو منتمياً إلى فئة ذات اتجاهات سياسية أو عقائدية. ومع ذلك قادني الحماس الجماهيري، وجمهور أصدقائي وزملائي من الحزبيين، وعقلية الجمهور (الموب Mob) المدرسي والجامعي للمشاركة في أغلب المظاهرات.
فكانت أولاها مظاهرة شاركت فيها وأنا تلميذ مدرسة ابتدائية. ومما أذكره وأنا في الصف الرابع الابتدائي، أننا خرجنا في أحد الأيام من سنة 1943 من المدرسة (مدرسة صلاح الدين الأيوبي في حي الشريبيشات بدمشق) في مظاهرة ضد الفرنسيين، ولما وصلنا إلى شارع جمال باشا (شارع النصر بين الحجاز وسوق الحميدية)، أطلق علينا الجنود السنغال النار من ثكنة كانت موجودة مقابل زقاق (شارع) رامي، وجرح أحد التلاميذ، هربنا ولكنهم طاردونا إلى باب المدرسة، التي لم يتجرأ قائدهم الفرنسي وهو برتبة ملازم أول، من وضع قدمه داخل عتبة الباب، بسبب تقريع معلم اللغة الفرنسية في المدرسة وكان اسمه مسيو جوزيف له، والذي ذكره بمبادئ الثورة الفرنسية واحترام حقوق المدنيين والمؤسسات التربوية. فخجل الضابط الفرنسي وانسحب مع جنوده عائداً إلى الثكنة. أذكر هذه الحادثة للموازنة بينها وبين ما عشناه في مظاهرات ما بعد الاستقلال.
شاركت بعد ذلك في العديد من مظاهرات مشابهة ضد الفرنسيين حتى سنة 1946 واستقلال سورية. لكن قيام المظاهرات لم يتوقف بعد ذلك و في زمن دراستي الإعدادية والثانوية، حين كنا نخرج فيها احتجاجاً على قرارات أو مطالبة بحق من الحقوق الطلابية (مثل تعديل علامة حسن السلوك في المدارس) ، أو تأييداً لموقف وطني. وكان للأحزاب السياسية أدوار محرضة على الإضراب.
وكانت ثانوية ابن خلدون، أكبر بؤرة للنشاطات الحزبية، وأفرادها من أصدقائي، بحيث لم تخرج مظاهرة منها إلا وكنت مشتركاً بها. مسانداً لهم على اختلاف ميولهم. وكانت غاية كل مظاهرة تنحصر في الوصول إلى مبنى المجلس النيابي وإلقاء الخطابات وكلمات التنديد على درج مدخله. وكثيراً ما فشلنا في بلوغ البرلمان.
وكان نشيد المظاهرات والتحريض عليها وانطلاقها في عهد الانتداب الفرنسي هو نشيد:
يا ظلام الليل خيِّم إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى
يافرنسا لا تغالي وتقولي الحكم طابا
سوف تأتيكِ الليالي تطردي طرد الكلابا
وكان هذا نشيد الوطنيين السوريين ضد الحكم الفرنسي في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، لكنه أصبح بعد الاستقلال معروفاً بنشيد المظاهرات الطلابية الاحتجاجية ضد الحكومات والسلطات المحلية، مع تبديل اسم فرنسا إلى (يا حكومة) أو (يا وزارة) وذلك حسب الضرورة والمناسبة. كما كنا نستبدل كلمة (الليل) بـ (السجن).
ومن شطحات الشعارات الطلابية الساخرة ما نودي به في إحدى المظاهرات المنددة بالصهيونية، شعار يقول (يلعن بَيَّك بن غوريون… والكونغو عربية ؟؟؟؟ !!!!). أما غريمنا فلم يعد جنود فرنسا وأعوانهم، بل تمثل بالشرطة في دمشق وحلب والدرك (الجندرمة) خارجهما. ومن مفارقات تلك الأيام أن والدي رحمه الله كان بحكم عمله في الدرك السوري مضطراً لتنفيذ الأوامر بالتصدي للمظاهرات، التي يصدف أن أكون مشاركاً فيها أحياناً. وهنا أشير إلى عدم تعرض أي متظاهر إلى أية ملكية عامة أو خاصة أو المساس بها، وكنا نُعاقب كل من تبدر منه أية مخالفة.
واستكمالاً لهذا الجانب من نشاطاتي أذكر اشتراكي في عدد من المظاهرات الطلابية الجامعية، لعل أبرزها مظاهرة قامت في شتاء عام 1952 هاجمتنا فيها الشرطة المدنية في الحرم الجامعي وداخله لأول مرة في تاريخ المظاهرات في سورية في مبنى (قشلة- ثكنة – الحميدية سابقاً) في حي البرامكة بدمشق. ولما تم إحباط الهجوم من قبل الطلاب، جرى استدعاء الشرطة العسكرية، التي اقتحمت الجامعة بإطلاق الرصاص الحي من رشاشات فردية عرفت بـ (تومي جن) علينا وعلى واجهة الجامعة وجدرانها وعلى أسطح الجامعة وقرميدها الذي كان تحطمه يصدر أصواتأ مرعبة.
كما استعملت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع. وبعد السيطرة على الجامعة بأكملها اصطف رتلان من الشرطة على جانبي الطريق الواصلة بين بوابة الجامعة الخارجية الرئيسية وباب كلية الحقوق، وكل شرطي منهم يحمل عصا خيرزان لضرب من يمر بين الصفين، ومع وصول الطالب إلى البوابة يتم تفحص يديه وآثار حمل الحجارة بها، إضافة إلى صور للمتظاهرين تم تحميضها على وجه السرعة. فمن كان مداناً يقاد يميناً إلى شاحنات الشرطة العسكرية، وغيره يوجه يساراً إلى منزله. وكنت من بين من سيقوا إلى الشاحنات لاكتشافهم البيجاما التي كنت أرتديها تحت ألبستي الخارجية. إذ كانت هذه عادة مألوفة لدى أغلب الطلاب الراغبين في المشاركة في المظاهرات. ويتوقعون الاعتقال والسجن.
قادتنا ثلاث شاحنات عسكرية من دمشق إلى معسكرات الجيش المعروفة بالصوجة الواقعة شمال مدينة قطنا، حيث حُشرنا، وكان عددنا 235 طالباً، في عنبر (هنكَار) ضخم خال من أي شئ. وبعد نحو ساعة جاءنا ملازم أول ومعه ضابط صف وجندي.
كال لنا ما فاضت به قريحته من إهانات وشتائم، قام بعدها بفرز الطلاب بحسب انتماءاتهم الحزبية، إلى مجموعة القوميين السوريين، والأخوان المسلمين، والشيوعيين، والبعثيين، و… ثم أوعز إلى مرافقيه أن يجلبا فرشاً وحرامات ووسائد وتقديم طعام عشاء للحزبيين فقط، وأصر على كلمة فقط….. كنا سبعة من غير الحزبيين نقف خارج المجموعات. فلما تم استثناؤنا من هذه الخدمات، تقدم صديقي نعيم قداح قبل انتسابه للبعث (سفيرنا فيما بعد) من الضابط وقال له:
” سيدي … ونحنا ؟؟؟” فسأله الضابط: ” انتو مين ؟؟ “، فأجابه نعيم: ” نحنا حياديين.” فرد الضابط قائلاً:” أنتو مافي إلكن حرامات ولاعشا، لأنو أنتو مثل… (بيضات) المغربل، بتروحوا مع كل واحد…”. (مثل شامي معروف)
كانت الشمس قد مالت للغروب حين شاهدت وأنا أنظر من نافذة العنبر ضابطاً يمر قريباً منها، عرفت فيه صديقاً شركسياً لي هو الملازم (صبري باغ) فطرقت زجاج النافذة مراراً حتى جلبت انتباهه، فاقترب منها حيث عرفني بصعوبة لضعف في نظره. ولما جاء إلى باب العنبر وسأل عما نحن فيه، أخبرته بالواقعة وباعتقالنا.
وطلبت منه أن نعامل نحن (الحياديون) كبقية المعتقلين، فوعدني خيراً وغادر. لكننا وبعد أمد والليل أرخى سدوله، سمعنا أصوات سيارات شاحنة تقترب من العنبر وتتوقف أمام بابه الذي فتح وظهر الملازم صبري، الذي انتحى بي وطلب مني بالشركسية و (همساً) أن يستعد الجميع للمغادرة دون إصدار أي صوت أوضجة، أثناء ركوبهم الشاحنات الأربع التي جاء بها.
صعد الجميع إلى الشاحنات وجلس هو في الشاحنة الأولى، وخرجنا من المعسكر عائدين إلى دمشق وذهب كل إلى منزله. ولقد علمت منه فيما بعد أنه اتفق في إخراجنا مع آمر المعسكر. وبهذه المناسبة كان صبري قد أمضى معنا فترة قصيرة في الدراسة في الجامعة تركها لينتسب إلى الكلية العسكرية.
عادل عبدالسلام (لاش)
دمشق: 20 – 2 – 2019