مقالات
نشوان الأتاسي: عنصر المفاجأة المفقود وحزب بعث جديد
نشوان الأتاسي- التاريخ السوري المعاصر
الانقلاب العسكري بالتعريف هو: (أحد وسائل تغيير نظام الحكم أو رأسه. وهو تحرك أحد العسكريين أو مجموعة منهم، للاستيلاء على السلطة لتحقيق طموحاتٍ وأطماعٍ في كرسي الحكم….يعتمد الانقلاب على عنصر المفاجأة ومدة العمليات المنخفضة نسبياً).
على هذا، فإن العامل الحاسم في نجاح أي انقلاب عسكري هو تحقيقه لعنصري السرية والمفاجأة. لكن هذين العنصرين لم يكونا متوفرين للعقيد زياد الحريري الذي كان واجهةً لمنفّذي حركة الثامن من آذار عام 1963. فمعظم السوريين، وخاصة سكان مدينة دمشق، كانوا على علم مسبق بأن زياد الحريري عازم على القيام بانقلاب عسكري، قبل فترة زمنية، كانت كافية تماماً لتلافي وقوعه، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، إلى أن أفاق السوريون صبيحة ذلك اليوم على إذاعة البيان رقم 1 الذي كانوا يتوقعون سماعه منذ زمن.
ففي عدد صحيفة الحياة البيروتية الصادر يوم 13 نيسان 1963، تم نشر لقاء صحفي كان قد أجراه صاحبها كامل مروّة مع الرئيس السوري ناظم القدسي يوم 21 شباط 1963، أي قبل أسبوعين من حركة الثامن من آذار. وقد ذكر مروّة أنه ذهب للقاء الرئيس القدسي في ذلك اليوم وفق الموعد المحدد معه، رغم الإشاعات التي كانت تسري في دمشق عن قرب قيام زياد الحريري بانقلاب وشيك. لكنه لما اجتمع به، لم يقرأ على وجهه آثار قلق. ولما سأله مروّة عن الشائعات المتواترة عن الانقلاب، أجابه الرئيس بهدوء: (هذا حديث رائج عندنا، وحديثنا اليوم عن الحريري، ولكننا نحاول إقناع الجميع بالتروي وتجنب العنف، وقد نجحنا حتى الآن في تهدئة الأعصاب الثائرة، وأملي كبير أن يحالفنا الحظ ليعتاد الجميع على الاستقرار).
وأردف مروّة قائلاً: وبعد اللقاء غادرت عند منتصف الليل إلى بيروت ولم يقع الانقلاب.
وفي موقع آخر من نفس العدد، نشرت الصحيفة تحقيقاً يصف وقائع انقلاب الثامن من آذار، ذكرت فيه: (يبدو أن الرئيس القدسي لم يعترض على هذه الحركة، كما يقال أن القائد العام للجيش وبعض كبار ضباط القيادة لا يعارضون هذه الحركة، وكان الرئيس القدسي يقول: يجب على خالد العظم أن يتحمل مسؤولية تعنتّه وتصلّبه).
وقد علق أكرم الحوراني في مذكراته على أحداث تلك الفترة بالقول: لم يكن زياد الحريري يتمتع بوعي سياسي ولم يكن له اهتمام بالقضايا العامة، فليس مستبعداً إذن أن تتصل به السفارة الأميركية قبل انقلاب الثامن من آذار لتعده بالدعم والتأييد، كما اتصلت به المخابرات المركزية الأميركية بعد تسريحه من الجيش.
بناء على ما تقدم من وقائع، وفي إعادة تقييمٍ لما جرى صبيحة الثامن من آذار 1963، يتوجب إضافة عنصر ثالث إلى عنصري “اليسر والسهولة المذهلين” اللذين اتسم بهما انقلاب 28 أيلول 1961 حسبما نوّه إليه بشير العظمة في معرض وصفه لذلك الانقلاب (*)، وهو عنصر “العلانية” أو “اللامفاجأة” الذي تميزت به هذه الحركة الجديدة، وهذا العنصر ينزع عنها تماماً صفة الانقلاب العسكري إذ، وفقاً للتعريف الكلاسيكي، يُعتبر عنصر “المفاجأة” في الانقلاب أهم العناصر الضامنة لنجاحه.
فما الذي جرى إذن صبيحة الثامن من آذار 1963، وهل يعقل أن تتآمر “جماعة انقلابية” مع “الحاكم” الذي تنوي الانقلابَ عليه… للانقلابِ عليه؟ وهل يعقل أيضاً أن يتآمر “الحاكم” مع “جماعة انقلابية” تنوي الانقلابَ عليه… للانقلابِ عليه؟
إنها أسئلة جديدة تضاف إلى لائحة الألغاز التي ما زالت طي الكتمان، والتي قد لا تتم إماطة اللثام عنها مطلقاً، مما يفتح الباب عريضاً أمام التأويلات والتفسيرات المختلفة، وعن محاولة البحث عن أجوبة لها من خلال “نظرية المؤامرة”.
(*) أوجز بشير العظمة في مذكراته حدث وقوع الانفصال، وطرح أسئلة عدة حوله، تلك الأسئلة التي ما زالت قائمة إلى اليوم دون جواب:
(انتهت الوحدة في أيلول 1961 بحركة عسكرية هزيلة، كشفت تفاهة الأجهزة ومن يقوم عليها، وفسادُ قواعدِ بناءٍ أقيمَ على عجل…استمرت الوحدة واحداً وأربعين شهراً، وانتهت كما بدأت في سورية بحركة عسكرية قام بها نفرٌ من ضباط قصر الحاكم أيضاً…تم الانفصال بيسر وسهولة مذهلة، وفي جميع قطاعات الجيش ومراكز القيادة مستشارون ومدرّبون وخبراء مصريون. تساءل الجميع: كيف نجحت الحركة الهزيلة وتمت جراحة الفصل بين الإقليمين؟ كيف خضعت فرق الجيش البعيدة عن العاصمة، لمجرد إذاعة البلاغ رقم واحد، فلم تقاوم أو تتردد، وقادتُها ضباط ناصريون معروفون؟).
بالعودة إلى مجريات الأمور التي تمت في العلن، فقد قامت “ثورة الثامن من آذار” واستولت على مقاليد السلطة في سورية بيسر وسهولة مذهلين، بعد أن مهّدت لقيامها بـ “حملةٍ دعائيةٍ واسعة”. ثم أعلنت طي مرحلة “الانفصال” وولوج البلاد في عهد “الوحدة والحرية والاشتراكية”.
لم تلعب القيادة المدنية لحزب البعث دوراً في انقلاب 8 آذار 1963. إذ أن الحزب كان مشرذماً بعد الانفصال وقد تقلّصت عضويته. بل كان أبطال الانقلاب هم أعضاء “اللجنة العسكرية” والتي لم تكن جزءاً عضوياً في الحزب. ورغم أن الانقلاب وقع بالتحالف مع الناصريين وزياد الحريري، إلا أن الضباط البعثيين سيطروا على الوضع. فلم يستفد الضباط الناصريون من مشاركتهم في الانقلاب بشكل فعال..
إذن قامت ثورة البعث…دون أن يكون لحزب البعث نفسه وجودٌ في سورية. فلقد كان عدد الأعضاء “العاملين” المدنيين في الحزب عشية الثامن من آذار لا يتعدى الـ (400) عضو، لكن أعدادهم في الجيش بدأت فوراً في التزايد، خاصة بعد أن بدأت “اللجنة العسكرية الخماسية” باستدعاء أعداد كبيرة من صف الضباط والضباط الاحتياط الموالين لها من الأقرباء وأبناء العشائر التي ينتمون لها، وحتى من معارفهم وأصدقائهم الشخصيين ممن لم يكن لهم أي انتماء سابق لحزب البعث، وقد نُفذّت ذات الإجراءات ضمن الجناح المدني للحزب. ومع كل ذلك، فقد ظل تعداد البعثيين، من عسكريين ومدنيين، حتى شهر آب 1963، ضئيلاً بشكل حاد بالمقارنة مع تعداد سكان سورية في تلك الفترة، وقد عبّر عن هذه المفارقة بوضوح رئيس مجلس قيادة الثورة أمين الحافظ، بخطاب علني له في حمص، لكن على طريقته الخاصة، إذ قال: يقول حكام مصر بأن أعضاء حزب البعث في سورية لا يتجاوز عددهم الكلي (5.000) شخص، وأني أرد عليهم بقولي أن عددنا أقل من ذلك بكثير، ثم استعار بيتاً شهيراً من الشعر العربي “تعيّرني أنّا قليل عديدنا…فقلت لها أن الكرام قليلُ”.
وفي الواقع كان عدد أعضاء الحزب وقتها يتراوح بين (2.000) و (3.000) عضو، ولم يبلغ عددهم الـ (5.000) عضو “عامل” إلا بحلول العام 1967، بينما وصل عدد الأعضاء غير العاملين، في بداية العام 1967 أيضاً، إلى حوالي (40.000) “نصير”.
على هذا يمكن القول بأنه، وخلافاً لما هو متعارف عليه من أن حزب البعث هو الذي قام بانقلاب الثامن من آذار 1963، فإن الحقائق تؤكد على أن انقلابيي الثامن من آذار هم الذين “أقاموا” حزباً “جديداً” في سورية، أطلقوا عليه نفس اسم الحزب الذي كان موجوداً فيها قبل الوحدة مع مصر (حزب البعث العربي الاشتراكي) معتمدين على البعض من رموز “قياداته التاريخية” التي كانت لا زالت متوفرة و”جاهزة للاستعمال”، لكنها كانت في حالة من الشلل الحزبي والسياسي الكاملين، واعتماداً أيضاً على الولاءات الطائفية والقبلية، والعشائرية والشخصية، لأعضاء اللجنة العسكرية الخماسية.
اقرأ:
كتاب “تطور المجتمع السوري” نظرة جديدة للوطنية السورية |