مقالات
عمرو الملاّح: أمير في دمشق- فصول من حياة عبدالقادر الجزائري
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
في العام 1855 وصل الزعيم والمجاهد الكبير الأمير عبدالقادر الجزائري (1808-1883) الذي يوصف بـ”فارس السيف والقلم” إلى دمشق بوصفها منفاه الاختياري الأخير؛ وذلك بعدما أسره الفرنسيون نظراً للدور البازر الذي اضطلع به في قيادة المقاومة المناهضة لهم في بلاده الجزائر.
وتروي المؤرخة الأمريكية ليندا شيلشر في كتابها المرجعي “دمشق في القرنين الثامن والتاسع عشر” أن الأمير عبدالقادر الجزائري كان قد وصل إلي دمشق، في خريف العام 1855 بعدما اختارها منفى أخيراً له، علي رأس مجموعة تضم (200) فرد جلهم من أسرة الأمير عبدالقادر وإخوته وأبناء عمومته وأتباعه. وكانت الحكومة الفرنسيــــة قد أجرت له راتباً سنوياً قدره (300) ألف فرنك لإعــــالة المئات من أبناء عشيرته. كما أقطعته الحكومة العثمانية أراض في سورية.
وتصف شيلشر دخوله دمشق قائلة: “كان لوصوله دمشق على رأس جماعة كبيرة من الجزائريين، ودخل مادي كبير، وفرقة شبه عسكرية… وقعه في المدينة، مما أهله ليتزعم خمس شرائح اجتماعية. وبذلك تفرد عن غيره من أبناء الأسر الدمشقية العريقة. فهو أحد أبطال المقاومة الجزائرية، ورجل أعمال ثري، وأحد السادة الأشراف، وعالم ومتصوف له صلات رفيعة المستوي في كل من استانبول وفرنسا ومصر، ويلوح له أنه كان مقدراً له أن يضطلع بدور سياسي محور، ويبقي أمر عدم قيامه بذلك الدور واحداً من ألغاز سياسة دمشق في أواخر القرن”.
وتبرز شيلشر الدور الذي اضطلع به الأمير عبدالقادر الجزائري في إخماد أعمال الشغب أو ما عرف بفتنة العام 1860 بين المسلمين والمسيحيين في دمشق، التي اندلعت في التاسع من تموز/يوليو، وهوجمت فيها المنطقة المسيحية في مدينة دمشق، كما هوجمت القنصليات الفرنسية والروسية والنمساوية والبلجيكية والأمريكية، وكذلك مباني البعثات التبشيرية البروتستانية والكاثوليكية قرب حي (باب توما).
لقد استطاع الأمير عبدالقادر الجزائري بفضل علاقته الوطيدة مع القنصليات الأجنبية من جهة، ومع أعيان دمشق وعلمائها من جهة أخرى أن يحقن الدماء؛ فأنقذ أكثر من خمسة عشر ألفاً من المسيحيين وصان ممتلكاتهم وأرزاقهم، مما كان له الدور الأكبر في إخماد نار الفتنة.
وكانت أصداء هذه الفتنة قد وصلت إلي باريس بعد نحو أسبوع من اندلاعها، فتم الاتفاق بين بعض الدول الأوروبية بمبادرة فرنسية علي إرسال حملة عسكرية إلي سورية تحت ذريعة حماية مسيحيي الشــــرق.
وبالفعل تم إرسال قوة قوامها 6000 آلاف جندي فرنسي. لكنهم وصلوا إلي ميناء بيروت في النصف الثاني من شهر آب/ أغسطس أي في الوقت الذي كانت الفتنة قد خمدت تماماً ومنذ مدة لا بأس بها!
عاش الأمير عبدالقادر ربع القرن الأخير من حياته في ربوع مدينة دمشق، وتوفي فيها في الرابع والعشرين من أيار/ مايو 1883 وقد دفن في حي الصالحية بدمشق بجوار الشيخ محي الدين بن عربي، المتصوف العربي الشهير. وقد بقي في ثرى دمشق قرابة ثمانين عاماً، إلي أن نقلت رفاته إلي الجزائر في العام 1965 في احتفال مهيب.
وإذ نتناول نشاط الأمير عبدالقادر الجزائري في دمشق لا بد أن نشير إلى أن زعم الكاتب اللبناني جرجي زيدان بأن انتشار الماسونية في المشرق عموماً وسوريا ولبنان خصوصاً كان على يديه ويعود إلى العام 1865 تحديداً إنما هو قول يجافي الحقيقة تماماً.
والواقع إنه إذا ما أردنا تلمس بدايات انتشار الماسونية في سوريا لوجدناها سابقة لفترة وجود الأمير عبدالقادر بدمشق ونشاطه السياسي والعلمي البارز فيها؛ إذ تشير الموسوعة الماسونية (A New Encyclopedia of Freemasonry, Volume 2, p. 54, 387) لمؤلفها (Arthur Edward Waite) الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً إلى أنه في العام 1738 جرى إنشاء محفل في مدينة حلب يتبع للمحفل الأكبر الإقليمي العثماني ومقره العاصمة استانبول، والذي كان بدوره تابعاً إلى المحفل الأكبر الإنكليزي.
ومما يؤيد ذلك أن مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي أورد في كتابه المرجعي “نهر الذهب في تاريخ حلب” (ط دار القلم العربي، حلب، 1991، ج1، ص 176) نبذة عن “الحزب الماسوني في حلب” جاء فيها: “ابتداء وجود هذا الحزب في حلب غير معلوم على وجه التحقيق وأخبرني من أثق به أنه رأى في حلب سنة 1848 م/ 1265 هـ ختما مكتوبا عليه (هذا ختم جمعية الماسون في حلب) . فالظاهر أنهم كانوا موجودين فيها قبلا خفية ولم يثبت وجودهم فيها علنا إلا في سنة 1885 م/ 1303 هـ فقد وفد عليها في هذه السنة مقدّم منهم ونزل في محلة العزيزية ودعا إليه بعض الناس علنا فتبعه عدد عظيم من شبان الملل الثلاث وصاروا يجتمعون عند بعضهم تارة جهرا وتارة سرا. على أن عددهم لم يزل آخذا بالازدياد يوما فيوما”.
لقد أوردت هذه الوقائع توخياً للدقة والأمانة التاريخية ليس إلاّ، مع الإشارة إلى أن مسألة انتماء الأمير عبدالقادر الجزائري إلى الماسونية ما زالت إلى يومنا هذا مثار جدل واسع في أوساط المؤرخين والباحثين.
وبعد رحيل الأمير عبدالقادر الجزائري واصل العديد من أبنائه الاضطلاع بدور محوري في تاريخ دمشق والمنطقة؛ فقد عهد العثمانيون إلى نجله الأمير علي باشا في العام 1900 بالتوسط من أجل إصلاح ذات البين بين بني معروف (الدروز) وجيرانهم الحورانيين. وأما ولده الأمير عمر، فقد أعدمه جمال باشا السفاح في ساحة المرجة بدمشق ضمن جماعة شهداء السادس عشر من أيار/ مايو 1916، في حين أن حفيده الأمير سعيد الجزائري كان له حضور بارز في الحياة الاجتماعية والســياسية مطلع القرن العشرين، إذ سلمه العثمانيون مقاليد الحكم في دمشق قبل انسحابهم منها في العام 1918 فأعلن قيام الحكومة العربية.
مراجع للاستزادة:
—————–
(*) ليندا شيلشر، دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ترجمة عمرو الملاح، ودينا الملاح، الناشر (خاص)، دمشق، 1998.