المتهم البرئ
كان أول الأفلام التي تمثل مرحلة ذات صفات خاصة ينسحب عليها وصف: أفلام البدايات الأولى، والمغامرات الفنية والمبادرات الفردية والمحاولات الجرئية.
يعد فيلم “المتهم البرئ” بداية الإنتاج السينمائي في سورية، وذلك عام 1982 عندما اجتمع عدد من الهواة واستوردوا جهازاً صغيراً للتصوير السينمائي قياس 35 ميللمتر طراز “كينامو” لتصوير فيلم سينمائي.
كان هؤلاء : أيوب بدري، أحمد تللو، محمد المرادي، وكان الأول أبرزهم وأكثرهم تعلقاً بهذا الفن الجديد.
وكان هؤلاء الشباب يميلون إلى التمثيل، وقد أخذوا بما شاهدوه من أفلام سينمائية أجنبية، وخاصة أفلام رعاة البقر وأفلام طرزان وغيرها، وكانت تعرض آنذاك بكثرة في دور السينما، وعندما حاولوا تحقيق فيلم سينمائي فوجئوا هم الثلاثة، بأن إنتاج فيلم سينمائي يحتاج إلى عمليات فنية معينة لا يجيدونها، بالإضافة إلى عملية التصوير السينمائي التي هي بدورها بحاجة إلى من يتقنها.
في تلك الفترة كان رشيد جلال- وهو من الرعيل الأول في مجال السينما- هاوياً سينمائياً، وكان يمتلك كاميرا للسينما من قياس 9.5 ميلليمتر مع ألة للعرض ولوازم التحميض والطبع.
ولرشيد جلال قصة نقلته من الهواية إلى الاحتراف بسبب التشجيع الذي لقيه من شركة (باتيه)، فقد أرسل لها مرة فيلماً عن زيارة الجنرال سراي لدار الحكومة في دمشق لتحميضه إنجابياً، فاشترته منه بمبلغ 150 فرنكاً أدخلت بعض أقسامه في الجريدة المصورة “باته بيبي غازيت” التي كانت تصدرها شهرياً وتوزعها في العالم.
وقد تم الاتفاق بين أيوب بدري وزميليه من جهة ومع رشدي جلال من جهة ثانية على تصوير الفيلم الذي يعتزمون إنتاجه على أن يكون شريكاً رابعاً لهم ويتولى التصوير ووضع السيناريو، وسميت الشركة التي ضمت هؤلاء الشباب المغامرين “حرمون فيلم”.
وعندما بحثوا أمر اختيار الممثلين وقع بينهم خلاف شديد لأن رشيد جلال لم يقتنع أن في شركائه من يصلح للتمثيل، وكان يريد إشراك شخص اسمه إسماعيل أنزور له إلمام بالأمور السينمائية لأنه شاهد أعمالها عن كثب في النمسا وتركيا، وسعى لإقناع الشركاء بصرف النظر عن إخراج القصة والاتجاه لإخراج فيلم عن الآثار في سورية وبيعه إلى الشركات السينمائية الأجنبية التي كانت تطالب بمثل تلك الأفلام، ولكن الشركاء أصروا على إخراج الفيلم إلى مرحلة التنفيذ. وتم الاتفاق على تصوير فيلم “المتهم البرئ”، على أن يمثل البطولة فيه أيوب بدوي، ويمثل الأدوار الأخرى زميلاه بالإضافة إلى عناصر من هواة التمثيل من خارج الشركة.
أما قصة الفيلم فكانت مستوحاة من قصة حقيقية، وقعت أحداثها في دمشق أبان حكم الملك فيصل، وهي قصة عصابة من اللصوص عاشت فساداً في أنحاء مختلفة من ضواحي دمشق، وألقت الرعب في النفوس. أنتجت القصة مع إجراء تحوير في مسارها وأحداثها لإدخال عنصر المرأة في الفيلم، إذ ليس من المعقول إخراج فيلم بدون امرأة، وقد اتفقت الشركة مع آنسة من إحدى عائلات دمشق المعروفة للقيام بالدور الأول النسائي، وقد جاء بها حلاق للنساء اسمه ويع شبير، ومثل المذكور دور المستنطق في الفيلم.
بوشر بتصوير الفيلم أمام كهوف جبل قاسيون وفي غرف دور السكن المفروشة، وكانت عملية تقوية النور داخل الغرف تتم بواسطة عاكسات بيضاء لامعة صنعت محلياً. أما عملية تحميض السلبيات فكانت تجرى بلف الفيلم على اسطوانة خشبية كبيرة صنعت خصيصاً لهذه لهذه الغاية محلياً، وأجريت عملية التركيب على الفيلم السالب وأرسلت المواد بالتتابع إلى شركة اكلير تيراج وشركة (س.ث. م) في فرنسا للطبع.
وتم تصوير الفيلم في 8 أشهر وكان طوله 800 متر، وقد عرض تجربة في سينما الكوزموغراف “أمية فيما بعد” وتم الاتفاق على عرضه في الدار نفسها، ووضعت إعلانات كثيرة وصور كثيرة على الجدران مطبوعة بلونين، وتقدمت الشركة إلى السلطات الفرنسية بطلب الترخيص حسب الأصول وعرض الفيلم أمام موظفي الرقابة الفرنسيين، وبعد ثلاثة أيام فؤجئت الشركة بمنع عرض الفيلم بسبب وجود آنسة قالوا انه لا يجوز ظهورها في الفيلم لأنها مسلمة وغير محترفة، ولأن رجال الدين في المدينة يحتجون على ذلك، ومما يسبب إخلالاً بالأمن العام، ورغم إبراز العقد الموقع منها للعمل في الشركة، ورغم أن سنها تجاوزت الخامسة والعشرين، ورغم الوساطات المختلفة لدى الأشخاص الحاكمين في ذلك الوقت، والمساعي التي بذلت لدى رجال الدين، لم تقبل سلطات الانتداب بعرض الفيلم بحالته الأولى، وطلب إلى أصحابه تغيير المشاهد التي تظهر فيها هذه الآنسة ووضع مشاهد تمثل فيها امرأة محترفة على أن تكون غير مسلمة.
وكانت خيبة الأمل بين الشركاء مؤثرة جداً، خاصة أنهم كانوا قد وضعوا جميع ما يملكون من مال لإنتاج هذا الفيلم، بالإضافة إلى الجهود الكبيرة التي بذلوها على مدى ثمانية أشهر كاملة.
وعادوا يدرسون الوضع من جميع الوجوه، فلم يجدوا من سبيل سوى إعادة تصوير المشاهد التي تظهر فيها الفتاة بعد أن تعاقدوا مع راقصة ألمانية لها إلمام بالتمثيل اسمها” لوفانتيا” تعمل في ملهى “الأولمبيا”، وبدأوا التصوير من جديد وكان طول المشاهد التي أعيد تصويرها 270 متراً. أرسلت بدورها إلى فرنسا لطبع الإيجابيات عنها، وقد أخرت هذه العملية عرض الفليم ستة شهور كاملة. وعندما عرض الفيلم في سينما الكوزموغراف كان الإقبال عليه منقطع النظير، مما اضطر رجال أمن لإقامة سد على مدخل حي البحصة من جهة المرجة لمنع الازدحام، وكانوا يسمحون بدخول الناس بالتتابع، وعندما تمتلئ الصالة بالرواد يشرعون في تفريق الجموع باستعمال العنف أحياناً، وقد عرض الفيلم في معظم المدن السورية بالإضافة إلى بيروت وطرابلس، وكان صامتاً.
بعد ذلك انسحب رشيد جلال من الشركة لعدم انسجامه مع الشركاء، وحلت الشركة، وإذ لم يعد لدى أفرادها المال اللازم لشراء معدات لابد منها لمتابعة الإنتاج.