مختارات من الكتب
مروان حبش : صلاح البيطار وقرارات التأميم
بعد أشهر قليلة من انعقاد المؤتمر القومي السابع في شباط 1964 ، بدأت تظهر بوادر أزمة في الحزب ترافقت مع مغادرة الأمين العام الأستاذ ميشيل عفلق في شهر حزيران 1964 القطر السوري إلى أوروبا، ولم يعد منها إلاّ في أواخر تشرين الثاني من العام نفسه.
وتجلّت هذه الأزمة، أيضاً، بقرار اللجنة العسكرية، في شهر تشرين الثاني، إعفاء أحد أعضائها وعضو القيادتين القومية والقطرية وعضو مجلس الرئاسة اللواء محمد عمران من عضوية اللجنة وتعيينه سفيراً في إسبانيا.
ومع عودة الأمين العام قررت القيادة القومية عقد دورة مفتوحة لها انتهت في 13 كانون الأول 1964، واتخذت عدة قرارات صدرت في النشرة رقم 15 تاريخ 14/12/964 من أبرزها: قرار بتجميد القيادة القطرية، وتعيين لجنة من القيادة القومية لإدارة شؤون التنظيم في القطر والإعداد لانتخابات حزبية، ولكن قيادات الفروع التي اجتمعت بدعوةٍ من القيادة القطرية فور صدور القرارات وبحضور الأمين العام وأعضاء القيادتين القومية والقطرية، وبعد الاستماع إلى وجهات النظر ومناقشة مبررات القرارات تراجعت القيادة القومية عن قرارها بتجميد القيادة القطرية.
وترافقت هذه الأزمة مع طرح في الحزب بدأ منذ انتهاء المؤتمر القومي السادس أيلول 1963عن وجود تيارين في الحزب، تيارٌ يميني، وآخر يساري.
وفي هذه الفترة كانت الحكومة منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة على الخطة الخمسية الثانية المستمدة من المنهاج المرحلي للثورة، ورفعها إلى قيادة الحزب لإقرارها وإلى مجلس الرئاسة لإصدارها.
في شهر كانون الثاني 1965 صدرت عن مجلس الرئاسة قرارات تأميم بعض الشركات بالمراسيم التشريعية رقم 1 تاريخ 2/1/1965 ( تأميماً كاملاً ) ورقم 2 تاريخ 2/1/1965 (تأميم 90% و75%) ورقم 5 تاريخ 4/1/1965 ( تأميم 90% )، كما صدر المرسوم رقم 3 تاريخ 2/1/1965 بشأن دفع الدولة للمعسرين من صغار المساهمين الذين كانوا يعتمدون في معيشتهم على ريع هذه الأسهم قبل صدور مراسيم التأميم وذلك على أساس القيمة الاسمية.
وكانت الأسباب الموجبة لهذه التأميمات أنه: « من الأهداف الاشتراكية لثورة آذار العظيمة تهيئة الظروف الموضوعية لكي يتملك المجتمع وسائل الإنتاج، وانطلاقاً من مقررات مؤتمرات حزب البعث العربي الاشتراكي ومن أهداف ثورة آذار في التحويل الاشتراكي في القطاع الصناعي، وبعد أن تأكد عجز البرجوازية واستغلالها وتقاعسها في تطوير الاقتصاد القومي في القطر السوري، والاعتماد في أعمالها على الأموال المستقرضة من المصارف المؤممة التي هي أموال الشعب في مجموعه واستمرار تهريبها لرؤوس الأموال الوطنية إلى الخارج، فقد قررت حكومة الثورة الحفاظ على أموال الشعب والرغبة في تحقيق نهضة صناعية واسعة في البلاد وتحقيق عملية التنمية الصناعية على أوسع نطاق ممكن وتعبئة جميع موارد البلاد في سبيل عملية تحويلٍ اشتراكي لصالح الشعب».
ثم صدر عن مجلس الرئاسة المرسوم التشريعي رقم 8 تاريخ 11كانون الثاني 1965 بدمج مؤسسات الكهرباء العامة والخاصة بمؤسسة واحدة، وتأميم الطاقة الكهربائية، وشمل 21 منشأة كهربائية خاصة.
ولحماية عملية التأميم صدر المرسوم رقم 4تاريخ 2/1/1965الذي حدد العقوبات والأحكام التي تطبق بحق من يعرقل تنفيذ التشريعات الاشتراكية.
كان للطبقة البرجوازية السورية المتحالفة مع فئة من رجال الدين موقف من حزب البعث العربي الاشتراكي منذ البدايات، والموقف نفسه ينسحب على الأحزاب اليسارية الأخرى، وهذا الموقف ظهر جلياً بعد أن عظم نفوذ حزب البعث لما كان له من دور رئيسي في إنهاء حكم الشيشكلي، ودعماً لموقف حزبي الشعب والوطني، دخل رأس المال الحلبة السياسية، وشكل كبار التجار ومالكو رؤوس الأموال الكبيرة كتلةً غايتها مقاومة التطرف «أي مقاومة أحزاب اليسار» وهدفها تأييد حكومة صبري العسلي، وحول ذلك نشرت جريدة القبس بتاريخ 20/5/1954: إن كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال في دمشق قد عقدوا في الأيام الماضية عدة اجتماعات كان أحدها في دار تاجر معروف، وقد استعرض المجتمعون وهم صفوة مختارة من تجار العاصمة وأثريائها الموقف السياسي ونشاط بعض الأحزاب الاشتراكية المتطرفة للعمل ضمن أسس ومبادئ للوقوف في وجه طغيان حزبٍ اشتراكي معين (المقصود حزب البعث)، وقد تقرر، أيضاً، رصد مبلغ كبير من المال في سبيل تنفيذ مقررات هذا الاجتماع.
واستمر رأس المال باستغلال قوته في لعبة السياسة بهدف إبعاد حزب البعث عن الحكومة التي كان رشدي الكيخيا ينوي تشكيلها _ بعد استقالة وزارة صبري العسلي _ على أساس مشاركة حزب البعث فيها، حيث زار وفدٌ من كبار رأسماليي دمشق في منتصف الشهر السادس 1954 رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي وتقدموا إليه بمذكرة موقعة من أربعين شخصاً، يطالبون فيها بتشكيل وزارة حيادية، ومن أبرز الموقعين على المذكرة : الشيخ حسن حبنكة – الشيخ أحمد الدقر – هاني الجلاد – بدر الدين الشلاح – بدر الدين دياب – بشير رمضان.
ويورد الأستاذ أكرم الحوراني في الصفحة 1639 من مذكراته ما حدث في العشر الأول من الشهر السابع 1954 : «كانت الرجعية بجميع فئاتها : الدينية والإقطاعية والرأسمالية والعشائرية والعائلية تدعمها الرجعية العربية والاستعمار جبهة متراصة في وجه الحزب، وقد حاولت هذه القوى أن تجعل معركتها مع الحزب معركة دموية، ولا أدل على ذلك من الحرب الدينية المقدسة التي أعلنها الشيخ النبهاني ورجال الدين في حلب على الحزب بالاتفاق مع الحزب الوطني وحزب الشعب، عندما دعوا مدينة حلب للإضراب والخروج بمظاهرة تحمل المصاحف وهي تهتف بسقوط حزب البعث العربي الاشتراكي وتتهمه بالكفر والإلحاد.
وعندما توجهت المظاهرة على سراي الحكومة تقدمت إلى المحافظ بطلبها عدم السماح لأقطاب حزب البعث بزيارة حلب لافتتاح مكتب الحزب، ووزعت منشورات خلال ذلك باسم جمعية العلماء في حلب تحمل على الحزب، وقد تمكنت المظاهرة من إغلاق مخازن المدينة إغلاقاً جزئياً لفترة بسيطة ».
وفي مقابلة للأستاذ صلاح البيطار مع صحيفة «الجريدة اللبنانية »في بداية منتصف الشهر الثامن 1954، جاء في جوابه على السؤال: الحزب متهم بإثارة النزاع الطبقي في سورية، فما هي وجهة نظر الحزب ؟
« الصراع الطبقي في سورية قديم قدم النظام الإقطاعي السائد فيها حتى اليوم، وإن ما أثار هذا الصراع هو وعي الشعب العربي المتزايد، وإن ما يعطي هذا الصراع طابع الحدة والتوتر هو تشبث الطبقة الإقطاعية والرأسمالية بمصالحها وجشعها وتماديها بالاستهتار بمصالح الشعب والوطن وإن الدور الذي يقوم به حزب البعث العربي الاشتراكي في هذا الصراع هو تكتيل قوى الشعب وتنظيمها وتوجيهها الاتجاه السليم الذي يحقق للشعب أهدافه ».
وما إن صدرت مراسيم التأميم المنوه بها، حتى بدأت بعض القوى والشخصيات حملتها للتشكيك بصواب هذه القرارات، مما دفع بمجلس الرئاسة إلى إصدار المرسوم التشريعي رقم 26 تاريخ 7/1/965 المتضمن تشكيل محكمة عسكرية استثنائية، وبرر الحاكم العرفي ببيان صدر عنه، أسباب إنشاء هذه المحكمة: «إنها ثورة شعب ومكانها الطبيعي هو صف الشعب وليس صف مستغليه ومحتكري كسائه وغذائه وسالبي كرامته، وهؤلاء الذين بدؤوا مع حلفائهم خارج الحدود حملة تشكيك وتضليل لم يتعظوا بعد ولم يعقلوا، وسيكون حساب الثورة معهم عسيراً وحاسماً يكتسح هذه الزمرة الخائنة، التي أفسحت لها الإذاعات والصحف الخارجية العميلة البرامج والتعليقات للطعن بالخطوات الاشتراكية التي ستضاعف من ثروة أمتنا ومن إمكانياتها لتعبئة قواتها ومضاعفة قدرتها الإنتاجية تمهيداً لمواجهة أعدائها الطبيعيين “الصهيونية والاستعمار”.
تكاثفت بعض قوى الرجعية الدمشقية “دينية ورأسمالية” لمناهضة قرارات التأميم، وحاول أحد التنظيمات الذي أطلق على نفسه اسم “كتائب محمد”- ويضم عدداً من الضباط الدمشقيين كانوا قد سرحوا من الجيش بعد 8 آذار، وشكل قيادة عليا له في داخل القطر وأخرى خارج القطر كما شكل قيادات فرعية في المحافظات- وضع خطة للانقلاب على الثورة يمهد لتنفيذها باغتيال شخصيات بعثية رئيسية مدنية وعسكرية تقوم بها شبكات خاصة من كتائب محمد.
كما حاول هذا التنظيم يوم 24 كانون الثاني بالتكاثف مع بعض من شملهم التأميم ومع بعض كبار التجار التجمع في سوق الحميدية، وأخذوا يحرضون على الإضراب والشغب، واستغلوا دور العبادة ومنابرها للدس والتخريب وتحقيق مخططاتهم.
تمكنت قوات الثورة من اعتقال رؤوس المحرضين وإحالتهم إلى المحكمة العسكرية الاستثنائية التي أصدرت أحكامها وجاهاً وغيابياً على ثمانية منهم بالإعدام وبراءة ل 21 من المعتقلين. وصدر المرسوم التشريعي 193تاريخ 22/8/1965 بالعفو عن المشتركين بتلك الفتنة وما تفرع عنها، وإلغاء أوامر الملاحقة الصادرة بحقهم .
وأصدر الحاكم العرفي الأمر العرفي رقم 4 تاريخ 24/1/965 وبه ينذر بمصادرة كل محلٍ يغلق دون مبرر قانوني، وإحالة مالكه إلى المحكمة العسكرية فوراً، وقضى الأمر، أيضاً، بإحالة كل شخص يحرض على إغلاق المحلات أو الإخلال بالأمن إلى المحكمة العسكرية وبمصادرة أمواله المنقولة وممتلكاته.
وبتاريخ 24 /1 نجح المحرضون من كبار تجار دمشق والقوى السياسية المعادية للثورة بإغلاق أكثر المحلات التجارية في سوقي الحميدية والصالحية، ولمّا لم يُجْدِ الحوار الذي دار بين بعض رجال الحكومة وشخصيات من غرفة تجارة دمشق، صدر المرسوم التشريعي 23 تاريخ 25/1/965 بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة ل 23 شخصاً من المحرضين، ثم صدر الأمر العرفي رقم 4 تاريخ 25/1 ونصَّ: على أن تؤول إلى الدولة ملكية كل محل مغلق بلا مبرر قانوني ويحال مالكه للمحاكمة، وصدر المرسوم التشريعي رقم 26 تاريخ 26/1 بمصادرة 69 مخزناً تعود ملكيتها لمحرضين ثانويين. ونصّ كلٌ من المرسوم التشريعي وقرار المصادرة على استمرار المستخدمين والعمال العاملين في المحلات المصادرة على أعمالهم وعلى أن يتقاضوا تعويضاتهم وأجورهم، أو رواتبهم ومكافآتهم، من خزينة الدولة.
وبيَّن المرسوم التشريعي المذكور أسباب المصادرة: بأنه بعد صدور مراسيم التأميم الاشتراكية الأخيرة قام بعض الأشخاص بعرقلة تطبيق هذه المراسيم متبعين مختلف الوسائل غير المشروعة للإخلال بالأمن وزعزعة الثقة العامة والتشكيك في أهداف الثورة والعبث في مصالح الشعب وأمواله، كما أنهم قاموا بتهريب الأموال وأساؤوا إلى الاقتصاد الوطني.
لهذه الأسباب وحرصاً من الثورة على مصالح الشعب وعلى أمواله وحفاظاً على الاقتصاد الوطني وسلامة تطبيق التحويل الاشتراكي وتحقيقاً للمنفعة العامة فقد قرر المجلس الوطني للثورة مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للأشخاص الواردة أسماؤهم …. على أن يتولى رئيس مجلس الوزراء تعيين وجوه المنفعة العامة التي تنفق فيها موارد هذه الأموال المصادرة، كما يحدد التعويض الواجب دفعه لأصحابها وكيفية تسديده.
وفي يوم 26/1 حشد الحزب مسيرة جماهيرية كبيرة، سارت في شارع الصالحية منددة بالرجعية وبالمتآمرين، وهددت بفتح المحلات عنوة، مما دفع بالكثير من المضربين للإسراع إلى فتح مخازنهم.
استمرت السلطة بإصدار قرارات التأميم، حيث صدر المرسوم التشريعي رقم 35 تاريخ 18 شباط 1965 بتأميم مؤسسات استيراد الأدوية، والمرسوم التشريعي رقم 36 تاريخ 18 شباط 965 بحصر استيراد بعض المواد التموينية والغذائية بشركة الاستيراد والتصدير للقطاع العام.
وفي هذه الفترة أعلنت الصحف بتاريخ 24 /1 عن اكتشاف الجاسوس ” الإسرائيلي ” كوهين، كما كانت شعبة المخابرات العسكرية تتعقب منذ خمسة أشهر شبكة تجسس، تعمل مع السفارة الأميركية يشرف عليها السكرتير في السفارة والتر سنودن، وعناصرها المهندس فرحان الأتاسي والمقدم في الجيش عبد المعين الحاكمي، وغايتها تقديم معلومات وكراسات تتعلق بأسلحة الجيش وتدريباته، كما تهدف إلى تهريب صاروخ سوفييتي تستعمله القوات البحرية السورية.
اعتقلت السلطات المختصة بتاريخ 16 شباط 965 عناصر هذه الشبكة، وأصدرت المحكمة العسكرية الحكم عليها بالإعدام، ونفذ الحكم في الساعات الأولى من فجر يوم الأربعاء 24 شباط 1965.
في خضم هذه الأحداث، اجتمع مساء 24/1 المجلس الوطني للثورة للمصادقة على قرارات التأميم، وتداول المجتمعون الأمر في هذه القرارات، وفي النشاط المناهض للثورة، وفي مؤامرات القوى السياسية الرجعية، وكان للأستاذ صلاح البيطار، رأيٌ في قرارات التأميم وفي أسباب النشاط المعادي، وبما أن النظام الداخلي للحزب يلزم الأقلية برأي الأكثرية، وبالتالي لم ينشر رأي الأستاذ صلاح، لا في منظمات الحزب ولا في وسائل الإعلام، ومع أنني لا أشاطر الأستاذ رأيه وأقف مع الأسباب التي أوجبت التأميم في تلك الفترة، وجدتُ، بعد هذه المدة الطويلة < 45 عاماً >، ومن قبيل الاحترام لشخصه ولرأيه، أن أنشر نص الكلمة التي كتبها بخط يده وألقاها في جلسة المجلس المذكورة، وتتضمن وجهة نظره.