عبدالكريم رافق، أحد خريجي الجامعة السورية وأحد أساتذتها، مؤرخ معروف ومعترف بمنهجه في البحث والتقصي الدقيق. لذلك لما نوى ان يضع تاريخاً للجامعة السورية قبل أن يصبح اسمها جامعة دمشق احتراماً لأختها الأولى جامعة حلب، وعناية بجامعتي البعث حمص وتشرين اللاذقية غطس في البحث عن المصادر والمراجع من كتب وضعت بالعربية أو نقلت اليها ونبش المجلات والصحف والنشرات الرسمية وعرّج على صحف خاصة ففلاَّها. ثم انكب على الأرشيفات الأجنبية وعبدالكريم رافق أصبح مع الزمن يأكل ويشرب ويتنفس رائحة الأرشيفات ولغتها ويحفر فيها من أسسها فكانت له جولة في دفق منها كتباً ومذكرات ورسائل ثم ارشيف نانت جامعة فرنسية ومدونات أيام الانتداب الفرنسي وأرشيف باريس والأرشيف البريطاني، ولم تسلم الكتب والمقالات الأجنبية من شره.
جمع هذه مادة الى مادة وخبراً الى خبر وخبرة الى خبرة وذكرى الى ذكرى وهو الذي ارتبط بالجامعة بين سنتي 1951 إذ دخلها طالباً بـ2000 إذ تقاعد أستاذاً. وعبدالكريم رافق ماهر في استخلاص ما يريد من مصادره، وخبير في العجن وتقطيع العجين ارغفة وخبز هذه بعناية، فتخرج من بين يديه لا أرغفة تشبع لكنها دراسة تمتع: مادة وأسلوباً ووفاء.
نواة الجامعة السورية الأصلية مكتب طبي عثماني أنشئ سنة 1903، إذ ان الكوليرا التي كانت قد اجتاحت سورية سنتي 1902 و1903 عجلت في الأمر، افتتح المكتب الشعبي العثماني في اليوم الأول من شهر أيلول سبتمبر 1903، إذ ان هذا التاريخ كان يحتفل به سنوياً لمناسبة تولي عبدالحميد الثاني عرش السلطة سنة 1876 . وقد احتفل بإعلان إنشاء سكة حديد الحجاز في 1 من الشهر نفسه 1900 وسار أول قطار من دمشق الى المدينة المنورة في اليوم الأول من سنة 1908.
ولعل مما حمل أهل الحكم العثماني في سورية على فتح هذا المكتب هو ان الجند العثماني في دمشق وأرباضها زاد عدداً، فكان الأمر يقتضي وجود مركز طبي يعني بهؤلاء أصلاً وببقية سكان المنطقة ثانياً.
“وصلت دمشق في الأول من شهر تموز يوليو 1903 أوامر بوجوب تدشين المكتب الشعبي في يوم عيد الجلوس السلطاني… فعمدت الحكومة الى استئجار بيت لبدء التدريس…”ص 13 – 14.
ولما خرج العثمانيون من البلاد أقفل المكتب الطبي والصيدلي، لكنه أعيد فتحه باسم كلية الطب والصيدلة في 23 كانون الثاني يناير 1919 أثناء فترة الحكم العــربي بقــيادة فيصل.
وعلى غرار المعهد الطبي العربي، فقد أعيد افتتاح مدرسة الحقوق في دمشق. إذ ان الحكومة العثمانية كانت قد افتتحت مدرسة للحقوق في تشرين الأول أكتوبر 1913 في بيروت، لكنها أغلقت بسبب الحرب العالمية الأولى. هذه أعيد فتحها باسم معهد الحقوق العربي في 1919 عند قيام الحكومة العربية، فافتتح المعهد في 25 أيلول سبتمبر من تلك السنة.
تخرجت الدفعة الأولى من الجامعة السورية معهد الطب العربي سنة 1920 . وقد نقل عبدالكريم رافق صورة شهادة الدكتور حسني سبح. تتوج الشهادة”المملكة السورية”ثم الجامعة السورية/ المعهد الطبي، ثم الاسم وشهادة بالطب. كان رئيس الجامعة السورية وهو عميد المعهد الطبي يومها الدكتور رضا سعيد، الذي يعود اليه الفضل الكبير في تطوير الجامعة.
في أيام الانتداب الفرنسي دارت قضية المعهد الطبي ومعهد الحقوق دورات متعددة بين الالغاء والابقاء وترئيس فرنسي للمؤسسة والحفاظ بالمنصب لعربي سوري. وطال الأمر أخذاً ورداً الى ان انتهى بتأسيس الجامعة السورية وهو الاسم الذي يعود الى أيام المملكة السورية في 15 حزيران يونيو 1923، وظلت للجامعة صفتها العربية في ما يتعلق بالإدارة والمسيرة.
وتتالت معاهد وكليات: طب الأسنان وسواها، ولعل من أكبر الخدمات التي قامت بها الجامعة السورية أنها درّست الطب والحقوق الخ باللغة العربية، فيما ظلت الجامعة المصرية تلجأ الى اللغتين الانكليزية أصلاً، والفرنسية تبعاً، لمدة طويلة.
يورد عبدالكريم رافق احصاءات لطلاب الجامعة بين الحين والآخر. ولن أطيل على القارئ فأنقل هذه الإحصاءات بتفصيلها. انني أكتفي بإحصاء عن عهدي الحكومة العربية والسنوات الخمس الأولى من عهد الانتداب، فقد بلغ عدد المتخرجين في كلية الطب والحقوق ما يأتي:
كلية الطب الطب البشري والقبالة والصيدلة وطب الأسنان على التوالي: 612، 43، 203، 163، ومعهد الحقوق 478 . فيكون المجموع 1499 ص 99.
يخصص عبدالكريم رافق الصفحات 107 – 170، والتي تشمل السنوات الممتدة من 1926 – 1933 لمعالجة التطور والتحديث في الجامعة السورية. وفيه، فضلاً عن اعادة تنظيم الجامعة، يذكرنا المؤلف بأن سنة 1926شاهدت اشتداد الثورة السورية وعنفها ووضع البلاد تحت حكم فرنسي مباشر. والتنظيم لم يعد ان يجعل لليد القوية القبض على التنظيم والعمل. فضم المجمع العلمي العربي والمتحف الى الجامعة كان، في رأيي، تضييقاً لا تنظيماً. وأشد بلاء من ذلك إلحاق الجامعة ادارياً بمديرية المصالح المدنية. وبعد انتهاء الثورة وعودة الحكم الوطني على نصف ما كان عليه من قبل”أنشئت المدرسة العليا للآداب”سنة 1929.
يتردد في الكتاب، بين صفحة وأخرى، ذكر”استقلالية الجامعة”، ومع احترامي لما يقال حول هذا الموضوع فإن استقلالية الجامعة أي جامعة، في العالم العربي هي أمر أجوف، لا معنى له. ففي حياتي الطويلة عايشت قيام جامعات مختلفة في العالم العربي، وأحدثها، بعد جامعة دمشق، جامعة القاهرة 1925 وجامعة الاسكندرية في مصر، وجامعات في السودان والشمال الأفريقي ودول الخليج. كل جامعة تابعة ادارياً لوزارة المعارف التي تسمى في أكثر الدول العربية اليوم وزارة التربية أو وزارة التعليم العالي.
والتبعية الإدارية هي الوضع الحقيقي وليس استقلال الجامعة. فالجامعة، بالنسبة للدولة، دائرة من دوائرها مثل البريد والبرق أو المواصلات أو…
مرت بسورية أزمات سياسية متنوعة تقلبت فيها الأمور على جوانب مختلفة بين سنتي 1933 و1939 ولم تسلم الجامعة منها. ولعل أهم قضية واجهها خريجوها هي الاعتراف بشهاداتها. وقد تناول عبدالكريم رافق هذا الأمر، مبيناً الصعوبات التي اعترضت الأمر والجهود التي بذلت للحصول على نتيجة طيبة، إذ تم اعتراف شبه كلي بذلك بتحديد دقيق على عادته ص 199 – 211.
يخصص المؤلف الفصل السادس وهو الأخير ص 243 – 316 لتطور الجامعة بين سنتي 1939 و1946، بين الحرب العالمية والاستقلال. وأنا أود أن أتجنب هنا القضايا الإدارية واستقلال الجامعة !؟ وأود أن أتوقف عند أمرين هما في رأيي أساسيان بالنسبة الى الحياة الجامعية. الأول النشاط الاجتماعي والثقافي ونشاط طلاب الجامعة السورية في السياسة. في الناحية الواحدة أسهم الطلاب في الاحتجاجات وهي متأخرة على وعد بلفور سنة 1944 ص 279 – 280 وأنشئت”الرابطة العربية”1944 التي كانت تسعى الى الوحدة العربية وبعث الشعور القومي. أما في الناحية السياسية، فلم يخرج عمل طلاب الجامعة السورية عن عمل بقية الجمعيات والأندية – استقلال سورية والقضية الفلسطينية. إلا أنه كانت ثمة قضيتان تشغلان الرأي العام السوري والأردني والعراقي. ففي سنة 1946 دعا الملك عبدالله الأول ملك الأردن الى توحيد سورية الكبرى الأردن وفلسطين وسورية لكن تحت سلطته. والأمر الآخر هو وحدة الهلال الخصيب سورية والعراق تحت التاج الهاشمي العراقي. وكان في الجو مشروع ثالث يدعو الى التقارب بين سورية والمملكة العربية السعودية ص 294. والموقف السوري الرسمي كان ان الاتحاد بين دولتين”ذات سيادة”ممكن لكن على أساس النظام الجمهوري. هذا في ما يتعلق بالمشروع الأردني، أما بالنسبة للعراق فقد صفق له الجميع وانتهى الأمر بالتصفيق، لأن السلطة السورية وضعت حداً حــتى للتصــفيق.
في سنة 1936 تقاعد الدكتور رضا سعيد، الذي كان له أكبر الأثر في وضع الجامعة السورية على رجليها. وتناوب على رئاستها نفر من أهل الفضل وأهل السياسة. وأخيراً وبعد صولات وجولات لا علاقة لها بالمقدرة أو العلم أو الإدارة، بل هي مناكفات سياسية، عين الدكتور حسني سبح رئيساً للجامعة ثم سُرّح 1946 وأعيد تعيينه في 1947.
ويختتم عبدالكريم رافق كتابه بالعبارة التالية:”وعادت بذلك الى الجامعة استقلاليتها والى الدكتور حسني سبح الاعتراف بسلامة موقفه في المحافظة على كرامة الجامعة وأساتذتها واستقلالها”ص 312. ولا يبرر الدكتور عبدالكريم رافق توقفه عند سنة 1946.
الاستقلال كلمة نسبية الى أي جامعة حكومية في العالم العرب، أما موقف الدكتور حسني سبح في الأمور الأخرى فقد عرفت أنا عنها الكثير عن كثب، بعد أن أصبحت أستاذاً في قسم التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، اعتباراً من 1949.
أرجو أن يتابع عبدالكريم رافق تاريخ جامعة دمشق الى اليوم.