بقلم عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
نواصل في هذه الدراسة سبر أغوار الأرشيف العثماني وكشف المزيد من الوثائق المهمة ذات الصلة بالدور المحوري، وإنما المغفل، الذي اضطلعت به النخبة البيروقراطية الحلبية في دعم نهج التنظيمات العمرانية العثمانية التي بلغت ذروتها في عهد السلطان عبدالحميد الثاني (1876-1909)، وقيادتها للمشروعات العمرانية التي جرى تنفيذها في حلب ضمن إطار برنامج الإعمار والتمدين “الحميديّ”، الذي كان الأضخم من نوعه في تاريخ الدولة العثمانية منذ عهد السلطان سليمان القانوني، وأدى إلى تعافي المدينة من خرابها العمراني الذي تسبب به زلزال العام 1822، ودمارها الاقتصادي من جراء افتتاح قناة السويس في العام 1869 وتحول طرق التجارة الدولية عنها، وإعادة إعمارها، وتطوير اقتصادياتها، وعبورها إلى الحداثة.
ويعد عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس (1849-1909) واحداً من أبرز أعيان حلب ممن كانوا يجمعون بين صفتي البيروقراطيين-الملاك الذين اضطلعوا بدور فعال في النهضة العمرانية التي شهدتها حلب في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، على نحو يمكننا معه اعتباره بمثابة أحد الوكلاء المحليين لتنفيذ برنامج الإعمار الحضري “الحميديّ” في ولاية حلب، وفقاً لما تشير إليه وثائق الأرشيف العثماني.
ويمثل المدرّس، بعد، جراء تكونه في خضم موجة الحداثة السياسية والفكرية والمؤسسية “التنظيماتية” العثمانية، والمناصب الإدارية الرفيعة التي شغلها في ولاية حلب، وبلوغه أعلى مراتب الپاشوية في الهرمية العثمانية، أنموذجاً لرجل الدولة الإصلاحي العمراني الذي يصدر في سلوكه وفهمه من قيم الدولة الحديثة ومفاهيمها؛ وذلك على النقيض من الصورة النمطية السلبية للپاشوات التي لطالما طغت على الذهنية السورية طوال العقود الستة الماضية، وسعت الحوليات التاريخية السورية والمناهج الدراسية والأعمال الأدبية والدرامية المتلفزة لتكريسها.
أولاً- نبذة عن حياة عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس:
أبصر عبدالرحمن زكي المدرّس النور في مدينة حلب في العام 1849 في أسرة عريقة ذات نفوذ ومكانة، تنحدر من أرومة شركسية، استوطنت حلب قادمة من بلدة كلز في القرن الثامن عشر، وكانت تنتمي إلى المؤسسة الدينية، وتولت الإفتاء في مرحلة ما قبل عصر التنظيمات العثمانية، وكذلك إبان مرحلة التنظيمات الأولى (1839-1856)، ومن ثم تحولت لإشغال مناصب عالية في البيروقراطية العثمانية في مرحلة التنظيمات الثانية المعروفة بالخيرية التي تشمل عهد السلطان عبدالحميد الثاني والممتدة بين عامي (1856-1909).
وكان آل المدرّس يعدون الأكثر ثراء وغنى من بين أسر الأعيان الملاكة للأراضي في حلب، ويأتي ترتيبهم الثاني بعد آل باقي من بين أسر الأعيان التي بلغ أفرادها مراتب الپاشوية في عصر التنظيمات العثمانية بواقع أربع پاشوات (تقي الدين پاشا، وحسين رشدي پاشا، وعبدالرحمن زكي پاشا، ومحمد سامي پاشا)، وكان اثنان منهم من الپاشوات “أصحاب المراتب” (الوزير تقي الدين پاشا، وعبدالرحمن زكي پاشا موضوع البحث)، في دلالة واضحة على ما كانوا يتمتعون به من حظوة لدى السلطان عبدالحميد الثاني.
وأما والده حسين رشدي پاشا ابن المفتي الشيخ عبدالرحمن أفندي المدرّس (1827-1885)، فقد كان من كبار أعيان حلب، ورجال الإدارة العثمانيين-التنظيماتيين البارزين، وشغل العديد من المناصب الرفيعة، فكان على التوالي: عضواً في مجلس الإيالة الكبير قبل أن تصبح حلب ولاية، فقائم مقام لعشائر العربان في ولاية حلب، ثم متصرفاً للواء دير الزور، وأخيراً عضواً في مجلس إدارة الولاية.
وقد بلغ حسين رشدي پاشا المدرّس رتبة “ميرميران” الرفيعة التي هي من مراتب الپاشوية، ويقع ترتيبها ضمن النسق الثالث من بين أنساق المراتب التسع في الهرمية العثمانية. كما نال الوسام المجيدي من الدرجة الرابعة؛ وذلك إشادة بفضله وتقديراً لإخلاصه وحسن خدمته للدولة العثمانية.
تلقى عبدالرحمن زكي المدرّس تعليمه في حلب، وأجاد اللغتين العربية والتركية. وانتظم في سلك الإدارة العثمانية، متقلباً في العديد من المناصب الرفيعة، فكان على التتابع: قاضياً في المحاكم النظامية، فمدققاً لدى الأمانة العامة لولاية حلب (مميز في قلم مكتوبي الولاية)، ثم حل محل والده حسين رشدي پاشا المدرّس بعد وفاته في العام 1885 في عضوية مجلس إدارة الولاية؛ فبقي فيه مدة طويلة، جنباً إلى جنب مع تعيينه عضواً في كل من لجنة دائرة الأوقاف، والمهاجرين، والنافعة (الأشغال العامة والموصلات).
عُرفت عن المدرّس عنايته بالزراعة؛ فعمل على زيادة ثروته الشخصية من الأراضي الزراعية والأملاك على تلك التي ورثها عن أبيه. وكان كثير التعبد، لا يدع صلاة الصبح في جامع المدرسة الرضائية المعروفة بالعثمانية الواقع بالقرب من داره، ومحباً لأهل العلم، ومضرب الأمثال بجوده وسخائه وكرمه وبذله وإقرائه الضيوف وسعيه بالخير لمن يقصده.
ومن مآثره العمرانية الخالدة تشييده على نفقته الخاصة جامعاً على طراز جامع المدرسة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر في محلة “السليمية” (الجميلية)، نسبة إلى الأمير سليم أفندي نجل السلطان عبدالحميد، التي كانت آنذاك منطقة توسع عمراني حديث، وتفتقر إلى جامع كبير، مما دعا الحاجة لبنائه بسبب بعد ذلك الحي نسبياً عن المدينة القديمة. وأطلق عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس عليه اسم “الجامع الحميديّ” نسبة إلى السلطان عبدالحميد الثاني، وأوقف عليه بعض أملاكه.
ويعد “الجامع الحميديّ” أحد أوائل الجوامع التي جرى تشييدها خارج المدينة القديمة وفق طراز العمارة العثمانية، ويشتهر بمئذنته المخروطية، والكتابات التاريخية المنقوشة في أماكن مختلفة على جدرانه. وما زال هذا الجامع قائماً إلى يومنا هذا ويُعرف باسم “جامع زكي پاشا”. كما أُطلق اسمه على الشارع الذي يقع فيه هذا الجامع “شارع زكي پاشا”.
ثانياً- ارتقاء عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس في المراتب العليا للدولة العثمانية:
كان عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس أحد كبار أعيان حلب الذين كانت لهم حظوة لدى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، فقربه إليه ورقاه في المراتب العليا للدولة ومنحه أعلى الأوسمة فيها؛ وذلك إشادة بفضله وتقديراً لخدماته الجلى وإخلاصه.
وقد تدرج المدرّس في الرتب المدنية حتى نال رتبة “روم ايلي بكلربكي” (بكافين يائيين في التركية العثمانية) في العام 1896، وهي من الرتب المُلكية (المدنية) العالية المعتبرة في المقابلات السلطانية التي لا ينالها إلا القلائل خارج العاصمة اسطنبول، ويقع ترتيبها ضمن النسق الثاني من بين أنساق المراتب التسع في الهرمية العثمانية، وتعادل رتبة (الفريق) العسكرية، ويُلقب حاملها بالـ “پاشا” من الدرجة الأولى، ويُنعت بـ (حضرة صاحب السعادة) دوماً، ويُعد من أرباب المراتب العالية، مما يخوله نفوذاً واسعاً وصلاحيات خاصة في دوائر الدولة كافة، متقدماً بذلك في مراسم التشريفات على سائر پاشوات حلب المحليين الحائزين على رتبة “ميرميران” الأقل شأناً، التي كان ترتيبها ضمن النسق الثالث من بين أنساق مراتب الهرمية العثمانية التسع. ولم يكن يعادله من حيث رتبته الرفيعة تلك سوى قرينه الوجيه الحلبي البارز مرعي پاشا الملاّح (1853-1930).
ومما هو جدير بالذكر أنه منذ بلوغ المدرّس هذه الرتبة العالية أُدرج اسمه في لوائح “أصحاب المراتب” في الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تتصدر مجموعة الكتب السنوية للدولة العثمانية (سالنامه دولت عليه عثمانيه) الصادرة في اسطنبول.
أخيراً، جرت ترقية عبد الرحمن زكي پاشا المدرّس إلى الرتبة العليا “بالا” في العام 1907، التي يأتي ترتيبها ضمن النسق الأول من بين أنساق المراتب التسع في الهرمية العثمانية، وتعادل رتبة (الفريق الأول) العسكرية، ويُنعت حاملها بـ (حضرة صاحب العطوفة) دوماً. كما نال من الأوسمة الرفيعة للدولة العثمانية الوسام “العثماني” ذا العقد من الدرجة الثالثة (1886)، والوسام المجيدي ذا الوشاح من الدرجة الأولى (1902)، وميدالية “الحجاز” (1900)؛ وذلك تقديراً لما قدمه من إعانات متتالية لمشروع الخط الحديدي الحجازي.
ويمكن إدراج ارتقاء المدرّس وسواه من كبار أعيان حلب في المراتب العليا للدولة العثمانية ضمن السياسة العامة التي انتهجها السلطان عبدالحميد الثاني، والمتمثلة في رعايته تكوين نخبة مدينية حلبية من البيروقراطيين والملاك المحليين، وحرصه على إدماجهم في المؤسسة العثمانية بوصفهم “أرستقراطية بيروقراطية”، وجعلهم يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالبيروقراطية المركزية عبر حرصه على منحهم الرتب الشرفية وما يرافقها من ألقاب النبالة العثمانية، والإنعام عليهم بالأوسمة والميداليات، وإشغالهم مناصب عليا في الولاية، وأن يكون لهم حضورهم في مجالسها المحلية؛ وذلك في مسعى منه ليشد ارتباطهم بعرشه، والإفادة مما يتمتعون به من مكانة ونفوذ في استقرار الأمن وحسن تصريف الأعمال، ودعمهم لبرنامجه الإصلاحي “الإعماري”.
ثالثاً- عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس في الأرشيف العثماني:
لئن اتسعت ترجمة عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس في الكتاب المرجعي “إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء” لمؤلفه مؤرخ حلب الشيخ العلامة راغب الطباخ تبعاً لامتداد شوطه واتساع أثره، إلا أنها ركزت على ملامح شخصيته العامة، وصفاته، مبرزة مأثرته العمرانية الخالدة المتمثلة في تشييده على نفقته الخاصة جامعه “الحميديّ” في محلة السليمية.
بيد أن وثائق الأرشيف العثماني تسلط الضوء على جوانب مهملة ومهمة من الدور المؤثر الذي اضطلع به عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس في النهضة العمرانية والاقتصادية التي شهدتها حلب في عهد السلطان عبدالحميد الثاني.
فقد نهض المدرّس في جميع المناصب التي أسندت إليه بأعباء مشروعات عمرانية واقتصادية تنموية وخدمية كان لبصماته الأثر الواضح في تفاصيلها، ومن أبرزها مشروع خط السكة الحديدية الذي يربط بين حلب وحماة، جنباً إلى جنب مع الدور البارز الذي اضطلع به في خروج حلب من داخل أسوارها القديمة وتوسعها غرباً، وفقاً لما تشير إليه وثائق الأرشيف العثماني.
وتطالعنا، ضمن هذا السياق التاريخي، وثيقة تعود بتاريخها إلى 2 نيسان/ أبريل من العام 1907 تتضمن التقرير الذي رفعه زين العابدين رشيد بك مكتوبجي (أمين عام) ولاية حلب إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، ويشيد فيه بالخدمات الإدارية لعبدالرحمن زكي پاشا المدرّس، وولاءه وحسن إخلاصه للسلطان عبدالحميد الثاني، وما يحظى به من مكانة وتقدير كبيرين في نفوس أهالي مدينة حلب، نظراً لما حققه ونجله الوحيد فؤاد بك من إنجازات نافعة وأعمال خيرية، والتنويه بما قدماه من إعانات متتالية للخزينة العامة للدولة، ولا سيما دعمهما المادي لإنشاء خط السكة الحديدية الذي يربط بين حلب وحماة، والذي يمثل الوسيلة الأهم في إنماء التجارة والزراعة في الولاية، وإعراب عبدالرحمن زكي پاشا الحائز على الرتبة العليا “بالا” والوسامين العثماني الثالث والمجيدي الأول ونجله فؤاد بك الحائز على الرتبة الثالثة عن امتنانهما الكبير لما نالاه من إنعامات وترقيات سلطانية.
بينما يشير التقرير المؤرخ في 22 تموز/ يوليو من العام 1908 الذي رفعه أحمد ممتاز پاشا متصرف نجد إلى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني إلى التطور العمراني الذي شهدته حلب في العهد الحميديّ، وامتداد عمرانها خارج نطاق المدينة القديمة، والذي يعود الفضل فيه – على حد وصفه – إلى الجهود الحثيثة التي تبذلها الحكومة السنية، وإفادتها من الخدمات الجليلة التي يسديها اثنان من كبار أعيان المدينة؛ أحدهما عبدالرحمن زكي پاشا المدرّس، والآخر مرعي پاشا الملاّح. كما يتضمن التقرير إشادة أحمد ممتاز پاشا بالوجيهين المدرّس والملاّح، وبما كانا يتسمان به من الاستقامة ورفعة المكانة بين أهالي حلب.
كلمة أخيرة!
لقد تمكن بعض الباحثين في الآونة الأخيرة من أن يرفدوا المكتبة العربية بكتب وبحوث ودراسات تتناول تاريخ حلب في الحقبة العثمانية المتأخرة بالاعتماد بصورة رئيسة على مؤلفات كبار مؤرخيها أمثال الغزي والطباخ، والتقاويم العثمانية (السالنامات) أحياناً، وإنما من دون رجوعهم للوثائق الأصلية المحفوظة في الأرشيف العثماني؛ فبقيت أعمالهم قاصرة. والواقع إن أي محاولة لكتابة التاريخ في العهد العثماني تهمل وثائق الأرشيف العثماني ستبقى ناقصة، وبعيدة كل البعد عن الأسس العلمية التي تقوم عليها الكتابة التاريخية، والشروط التي يجب أن تتوافر فيها.
المراجع: