سلايد
عمرو الملاّح: مئوية رحيل السلطان عبدالحميد الثاني.. سكة حديد الحجاز وآثارها على عمارة دمشق وعمرانها
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
أصبحت مدينة دمشق في القرن السادس عشر مركزاً لإحدى ولايات السلطنة العثمانية. وكان لموقعها باعتبارها ملتقى لقوافل الحجاج من مختلف بقاع العالم الإسلامي أهمية بالغة في الجغرافيا السياسية للسلطنة بوصفها “باباً للكعبة” على نحو ما كانت تدعى في الحوليات التاريخية التركية العثمانية.
ولذلك أخذت تضطلع بدور محوري في استراتيجية وإدارة واقتصاد الحج العثماني بشكل خاص، والسلطنة العثمانية بشكل عام.
وقد شهد العام 1864 ولادة فكرة إنشاء خط حديدي يصل دمشق بالمدينة المنورة يستعاض به عن طريق القوافل الشاق الذي يستغرق السفر به أربعين يوماً؛ وذلك بإيجاد وسيلة سفر عصرية يتوافر فيها السلامة والأمان. بيد أنه نتيجة للصعوبات المالية التي اكتنفت تنفيذ هذا المشروع في ذلك الحين بقي حبراً على ورق.
إنطلاق المشروع
شهدت نهاية عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر إحياء فكرة إنشاء خط حديدي يصل دمشق بالمدينة المنورة على يد رجل الدولة الدمشقي أحمد عزة باشا العابد، ثاني أمناء سر السلطان عبد الحميد الثاني الذي أقنع السلطان عبد الحميد الثاني بضرورة النهوض بهذا المشروع الضخم الذي ينطوي على أبعاد اقتصادية وسياسية.
كما يمكن إدراج ذلك ضمن الخطط الطموحة التي وضعها السلطان عبدالحميد لإنشاء شبكة متكاملة من السكك الحديدية الضخمة التي تربط العاصمة اسطنبول بالولايات. ولا يخفى ما لهذه هذه الشبكة من تأثير على التنمية الاقتصادية والإدارية في المدن والبلدات والقرى التي كانت تمر فيها هذه الخطوط، ومنها خط بغداد-حلب-استانبول المتصل بأوروبا، وكذلك خط حلب-حماة-دمشق، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه المشروع من أهمية عسكرية تتمثل في إحكام السيطرة على مناطق الحجاز والبحر الأحمر واليمن، وتعزيز قوة الإدارة المركزية للدولة العثمانية في هذه البقاع الجغرافية ذات التوتر السياسي.
وأعلن السلطان عبدالحميد الثاني في العام 1900 عن إقامة سكة حديد الحجاز أو ما عرف باسم “السكة الحميدية الحجازية”.
وقد ناهزت تكلفة تنفيذ المشروع منذ انطلاقته الفعلية في العام 1900 حتى وصول أول قطار إلى المدينة المنورة في صيف العام 1908 خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية. واعتمدت الدولة في تمويله على التبرعات من مختلف الحواضر الإسلامية.
والواقع إن خط سكة حديد الحجاز كان المشروع الاستراتيجي الوحيد الذي مول بوساطة التبرعات العثمانيّة والإسلامية، ونفذ بأيدي العثمانيّين أنفسهم. ولئن اضطرت إدارة السلطان عبدالحميد للاستعانة بخبراء ألمان لإنجازه، فإنه بني عثمانياً باستثناء القاطرات والعربات المرتبطة بمستوى التطور الصناعي.
استمرت سكة حديد الحجاز تعمل بين دمشق والمدينة قرابة تسع سنوات استفاد من خلالها الحجاج والتجار على حد سواء.
ونظراً لاستخدام الخط الحجازي في بعض الأغراض العسكرية العثمانية، فقد تعرض إلى كثير من الأضرار والتخريب إبان الثورة العربية الكبرى.
وفي العام 1917 انضم ضابط الاستخبارات البريطانية الشهير لورنس إلى الثوار العرب فحرضهم على نسف الخط، ومنذ ذلك الحين لم تفلح المحاولات لإعادة تشغيله أو تطويره وتحديثه.
ميدالية السكة الحجازية
أصدر السلطان عبدالحميد في العام 1318 هـ/ 1901 إرادة سنية باستحداث ميدالية تقديرية تحمل اسم “السكة الحجازية” (حميديه حجاز تيموريولي مداليه سي)؛ وذلك في مؤشر على الحوافز المعنوية التي وضعتها الدولة العثمانية لإنجاح هذا المشروع.
ووفقاً للإرادة السنية فإن الميدالية هذه كانت تمنح لمن يقوم بخدمة حسنة أو يتبرع بإعانة مالية لا تقل عن خمس ليرات ذهبية عثمانية من الذكور والإناث على السواء، ومتى توفي حامل هذه الميدالية تنتقل إلى أكبر أولاده من الذكور، وإذا لم يكن له أولاد ذكور فلأكبر أولاده من الإناث، ويحق لوارثها أن يعلقها بلا استئذان.
وكانت ميدالية “السكة الحجازية” في ثلاثة أنواع: ذهبية وتمنح لمن يتبرع بأكثر من مائة ليرة ذهبية عثمانية، وفضية وتمنح لمن يتبرع بخمسين ليرة إلى مائة، ونيكل وتمنح لمن يدفع خمس ليرات إلى خمسين. وأما الذين يقومون بخدمات حسنة مشكورة، فيمنحون أحد هذه الأنواع على نسبة درجة خدمتهم.
وقد نقش على أحد وجهي الميدالية هذه العبارة: (ميدالية خاصة بأولي الحمية الذين خدموا الخط الحديدي الحجازي الحميدي)، وعلى الوجه الآخر الشعار العثماني وتاريخ استحداثها (1318 هـ).
وكانت الميدالية تعلق على الجانب الأيسر من الصدر، وتعلقها الرجال والنساء بشريطة ذات لون أحمر أو أخضر، غير أن الشريطة التي للنساء كانت على شكل زهرة.
خط الاتصالات البرقية ونصب ساحة المرجة
منحت الدولة العثمانية الأولوية لمد خط الاتصالات البرقية بين حاضرة السلطنة العثمانية اسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق مصاحباً للمواقع المرسومة لخط السكة؛ وذلك منذ الإعلان عن مشروع سكة حديد الحجاز في العام 1900.
وعهد إلى الفريق الأول صادق باشا المؤيد العظم (المتوفى سنة 1911) بمهمة تمديد هذا الخط البرقي، الذي كان من أهم التجهيزات والأعمال الإنشائية التي واكبت إقامة سكة حديد الحجاز.
واضطلع الوالي العثماني الإصلاحي التنظيماتي آنذاك الوزير حسين ناظم باشا (1854-1927) الذي ولي سورية أول مرة في تموز من العام 1897 وامتدت ولايته حتى آذار من العام 1906 بدور محوري في تيسير وصول الأدوات البرقية من أعمدة وأسلاك إلى المدن والبلدات التي سيمر الخط البرقي عبرها بمساعدة العشائر الأردنية.
وقد شكل تأمين خط السكة قبل تأسيسه بالأسلاك البرقية أولوية كبيرة نجحت فيها الدولة. وأنيطت بحكومة ولاية سورية إدارة الخط البرقي بمساعدة العشائر الأردنية، التي كان يقع نفوذها ما بين قضاء السلط ولواء الكرك التابعين لولاية سورية. وضمنت الدولة بذلك سرعة الاتصالات وربط أجزاء الدولة بعضها ببعض بزمن قياسي، تهيئة للمباشرة بمد خط السكة، في الوقت الذي بدأت فيه مرحلة جمع التبرعات تعطي نتائج ملموسة وسريعة، في إشارة على نجاح المشروع.
كما أقيم بدمشق نصب تذكاري يتوسط ساحة المرجة (الشهداء لاحقاً) تخليداً لذكرى تدشين الاتصالات البرقية بين حاضرة السلطنة العثمانية اسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق، صمّمه المعماري الإيطالي ريموندو دارونكو. وما يزال هذا النصب التذكاري الفريد من نوعه إلى يومنا هذا أحد الرموز المهمة لدمشق.
ويتكوّن النصب من قاعدة بازلتية مربعة الشكل تتضمن تاريخ إقامته في العام (1325 هـ/ 1907 م)، وتحتوي على أربعة صنابير لمياه الشرب. ويعلو القاعدة البازلتية تلك عمود من البرونز تلتف حوله أسلاك البرق بوصفها رمزاً لمناسبة إقامته، وفي قمة العمود قاعدة مربعة أخرى تحمل أنموذجاً مصغراً لمسجد سراي يلدز في اسطنبول.
ومما هو جدير بالذكر في هذا السياق أنه التبس الأمر على بعض المؤرخين والباحثين المتخصصين في عمارة دمشق وعمرانها في أواخر العهد العثماني؛ فنسبوا إقامة نصب ساحة المرجة، وقد سبقت الإشارة إليه، في العام 1325 هـ/ 1907 م إلى الوالي العثماني الإصلاحي التنظيماتي الوزير حسين ناظم باشا.
ولكن تاريخ إقامة نصب ساحة المرجة في العام 1325 هـ/ 1907 م إنما كان في واقع الأمر موافقاً لتاريخ إشغال الوزير إبراهيم شكري باشا (1857-1918) منصب والي سورية في الفترة الممتدة من 18 آذار من العام 1906 ولغاية كانون الأول من العام 1908؛ وذلك وفقاً للحوليات التاريخية التركية العثمانية.
بينما تذكر الترجمة الرسمية لسلفه الوزير حسين ناظم باشا أنه حول في العام 1906 من ولاية دمشق إلى ولاية بيروت، ثم أعيد إلى ولاية سورية في العام 1908، بينما عين سلفه ابراهيم شكري باشا والياً على بيروت.
سكة حديد الحجاز وآثارها العمرانية على مدينة دمشق
عهد السلطان عبدالحميد الثاني إلى ولاة سوريا ومركزها (عاصمتها) دمشق الإشراف على تمديد خط دمشق- معان الحديدي البالغ طوله (459) كيلومتراً، بالإضافة إلى جمعهم التبرعات من المناطق الواقعة ضمن حدود ولايتهم.
وقد تعاقب على ولاية سوريا في الفترة موضوع البحث الممتدة من الانطلاقة الفعلية لمشروع خط سكة حديد الحجاز في العام 1900 وحتى وصول أول قطار إلى المدينة المنورة في صيف العام 1908 كل من الوالي الوزير حسين ناظم باشا الذي امتدت ولايته من تموز 1897 ولغاية آذار 1906، والوزير إبراهيم شكري باشا الذي امتدت ولايته من آذار 1906 ولغاية كانون الأول 1908.
ويعد الوزير حسين ناظم باشا من خيرة ولاة دمشق العثمانيين، بل ولعله أبعدهم شهرة وذيوع صيت في العصر العثماني المتأخر.
وقد تميز عهده بالإصلاح والتنظيم والعمران والسيرة الحسنة، مما يدل على إدراك السلطان عبدالحميد ضرورة الإصلاح وواجب حسن اختيار ولاتها من بين رجال الدولة المشهود لهم بالكفاية والاقتدار.
ارتأى الوزير حسين ناظم باشا بثاقب نظره أن يقتصد في تكاليف مشروع سكة حديد الحجاز بتوفير أجور العمال، إذ استدعى المواطنين المكلفين بالخدمة الإلزامية لإنجازه، واستفاد مما اقتصده بإنشاء عمائر زادت من أهمية مدينة دمشق، ووسعت خدماتها، مستفيداً من خبرات المهندسين الألمان وغيرهم الذين جاؤوا للإشراف على مشروع الخط الحجازي.
وقد أسفر هذا التعاون عن إنجاز العديد من مشروعات البنى التحتية، ومن بينها إحداث كلية للطب التي تعد النواة الأولى للجامعة السورية في العام 1903، وجر مياه عين الفيجة إلى دمشق قبيل انتهاء مدة ولايته مطلع العام 1906.
كما شهدت ولاية حسين ناظم باشا الأولى تلك ترميم العديد من الأوابد التاريخية، ومنها إشرافه على ترميم وإصلاح الجامع الأموي بعد الحريق الكبير الذي أصابه في العام 1893. فضلاً عن قيامه بتغطية سوق الحميدية الشهير بالتوتياء والحديد بدلاً من سقفه الخشبي القديم لحمايته من الحريق.
وسيشهد عهده أيضاً تشييد أبنية مهمة ما زال أكثرها قائماً، ومنها الثكنة أو القشلة الحميدية (كلية الحقوق حالياً)، والسرايا الجديدة (مقر وزارة الداخلية حالياً)، ودائرة الأملاك السلطانية (دائرة الشرطة والأمن العام)، ومشفى الغرباء الحميدي (مركز رضا سعيد للمؤتمرات حالياً)، وطبابة المركز (صيدلية المشفى الوطني) في ساحة المرجة (أزيلت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي ويرتفع مكانهما حالياً بناء الشربتلي)، ودار الوالي ناظم باشا (القصر الجمهوري سابقاً) وغيرها.
ولقد واصل خلفه الوزير إبراهيم شكري باشا النهج الإصلاحي العمراني ذاته، ولا سيما على صعيد مشروعات البنى التحتية التي أنجزت في عهده ونسبها الباحثون في تاريخ دمشق إلى سلفه ناظم باشا خطأ. وذلكم هو أمر لا يقلل، بالطبع، من أهمية منجزات ناظم باشا وما قام بتشييده من عمائر فخمة ما زال بعضها قائماً إلى يومنا هذا.
وأما منجزات الوزير إبراهيم شكري باشا على صعيد البنى التحتية في الفترة (1906-1908) فقد شملت: إدخال الكهرباء في العام 1907، وتسيير الحافلات الكهربائية (الترامواي) في العام 1907، وتدشين خط الاتصالات البرقية بين حاضرة السلطنة العثمانية اسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق، وإقامة نصب المرجة التذكاري في العام 1907، وتدشين الخط الحديدي الحجازي مع وصول أول قطار إلى المدينة المنورة في صيف العام 1908.
مبنى محطة الحجاز
يقوم بناء محطة الحجاز في حي القنوات، ومن هنا جاءت التسمية الرسمية (محطة القنوات)، وإن كانت التسمية الأولى هي الأكثر شيوعاً.
لم تسعفنا المصادر التاريخية بشيء عن تاريخ تشييد هذا البناء بدقة باستثناء ما ذكره مؤرخ دمشق محمد كرد علي في كتابه المرجعي “خطط الشام” من “أن الخط الحديدي الحجازي كان ينتهي في محطة القدم القريبة من دمشق عام 1908 للميلاد .. إلى أن بنيت محطة القنوات بذاك التاريخ في قلب دمشق على طراز عربي وغربي حديث وبشكل جميل.”
ومن ثم وجدنا أن الأمير محمد علي توفيق في كتابه “الرحلة الشامية”، الذي يصف فيه الرحلة التي قام بها في ربوع بلاد الشام في العام 1910، يقول: “خرجنا من المحطة ( المقصود محطة الحجاز) فركبنا… العربات، وقصدنا تواً إلى فندق فيكتوريا… ولم يكن ليصادفنا في الطريق الذي كنا نمر منه ( أي من محطة الحجاز إلى فندق فيكتوريا) ما يلفت نظر السائح …. غير تكية للمولوية ( أي جامع المولوية القديم قبل تجديده الموجود حاليا في الطرف الغربي لشارع النصر) وذلك النهر العظيم نهر بردى… وكانت المسافة منذ ركبنا العربات حتى وصلنا إلى النزل ( أي فندق فيكتوريا ) لا تتجاوز الدقائق.”
في ضوء ذلك يمكننا الاستنتاج بأن مبنى محطة الحجاز قد شيد في الفترة ما بين العامين 1908-1910. وهو ما أثبته المؤرخ د. قتيبة الشهابي.
قام بتصميم هذا المبنى وأشرف على تنفيذه المعماري الألماني مايسنر باشا، كبير مهندسي السكة الحجازية يعاونه المهندس المعماري الإسباني فرناندو دي أراندا (1878-1969).
وقد روعي في تصميمه المزج بين طراز العمارة الأوروبية من حيث الكتلة العامة، وتأثيرات الريازة العربية الإسلامية المتمثلة بالزخارف والأقواس والأعمدة والفتحات التي احتوت عليها الطبقة الثانية.
المراجع :
- الرحلة الشامية، الأمير محمد علي باشا؛
- خطط الشام، محمد كرد علي؛
- الروضة البهية في فضائل دمشق المحمية، عز الدين عربي كاتبي الصيادي؛
- منتخبات التواريخ لدمشق، محمد أديب آل تقي الدين الحصني؛
- مرآة الشام، عبد العزيز العظمة؛
- دمشق تاريخ وصور، د. قتيبة الشهابي؛
- فيرناندو دي أراندا، أليخاندرو لاغو وبابلو كارتاخينا.