قراءة في كتاب
قطار العلويين السريع: ترويض الوعي الجديد
صقر أبو فخر- صحيفة العربي الجديد 18 أيلول 2017
صدر حديثًا كتاب لافت للمؤلف حسان القالش بعنوان “قطار العلويين السريع: الوعي السياسي والنشأة والتطور، 1822-1949” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017). ويبدو ذلك العنوان كأنه ما برح يتناسل بين فترة وأخرى منذ أن أصدرت أغاثا كريستي روايتها البوليسية الموسومة بعنوان “جريمة في قطار الشرق السريع” (1934). وعلى هذا الغرار كتب جنكيز تشاندر “قطار الرافدين السريع” (2014) عن تجربته في حركة فتح وهجراته بين العواصم خصوصًا اسطمبول ودمشق وبيروت. ومهما يكن الأمر فإن هذا الكتاب بحث جاد في نشأة الوعي السياسي لدى العلويين كما تطور بين 1822 و 1949، واستكشاف تجلياته كما ظهرت في توق أبناء هذه الطائفة إلى الاندماج في الدولة السورية الحديثة (ص10). أما لماذا اختار الكاتب سنة 1822 كنقطة انطلاق لبحثه، فالجواب هو أن تلك السنة شهدت صراعًا بين والي دمشق ووالي طرابلس على الموقف من العلويين، وأراد والي دمشق كسب العلويين إلى جانبه وإدخالهم إلى الدين الرسمي للدولة العثمانية على المذهب الحنفي. ثم جاءت حملة ابراهيم باشا على سورية في سنة 1831 لتجعل الدولة العثمانية ميالة إلى التفاهم مع الدروز الذين قاتلوا جيش ابراهيم باشا منذ دخوله سورية، ومع العلويين الذين انتفضوا على الحكم المصري في سنة 1834. وقد أنهى الكاتب بحثه في سنة 1949 التي يعتبرها خاتمة مرحلة آباء الاستقلال وانتقال السلطة السياسية في سورية إلى الجيش جراء الانقلاب العسكري الذي نفذه حسني الزعيم ضد الحكم المدني في تلك السنة.
ويتحدّث المؤلّف حسان القالش كذلك في ايضا عن نشوء الزعامات العشائريّة التي أسّست مكانًة مهمّة لها لدى السلطات العثمانيّة، وتحديدًا بعد احتلال جيش إبراهيم باشا لسوريا سنة 1831، حيث اتخذ العلويين آنذاك موقفًا معاديًا للمصريين بعد تحالفهم المؤقت مع العثمانيين، وتعود أسباب هذا التحالف كما جاء في الكتاب إلى رغبة العلويين في الانتقام من والي طرابلس “بربر آغا” الذي لعب لاحقًا دورًا مهمًا في القضاء على الانتفاضة العلويّة المتمثلة آنذاك بعائلة “آل شمسين”. ولكنّ تحالف العلويين مع العثمانيين، والذي كان مؤقتًا بطبيعة الحال، لم يدم طويلًا، إذ أنّ السلطات العثمانيّة كانت متنبهًة إلى توسع نفوذ الزعماء العلويين، ولعلّ أبرزهم في تلك المرحلة، أي ما بعد رحيل المصريين، إسماعيل خير بك، زعيم عشيرة المتاورة الذي بدأ يفكر مع توسع نفوذه بالانفصال عن السلطنة العثمانيّة، مما استوجب لدى العثمانيين القضاء عليه، حيث وجدو آنذاك صدام العائلات السنيّة مع إسماعيل خير بيك نتيجة رفضهم لحكم زعيم علويٍّ لهم فرصة في القضاء عليه بالاشتراك مع تلك العائلات. وأظهرت تلك المرحلة المضطربة أنّ العلويين لا يزالون بعيدين عن تشكيل طائفة واحدةٍ متراصّة بعيدًا عن الانتماءات العشائريّة.
التصورات المغلوطة
خضع العلويون، مثلهم مثل جميع الطوائف المنشقة على الإسلامين السني والشيعي، لتشويهات كثيرة جدًا استهلها الإمام الغزالي بكتابه “فضائح الباطنية”، ولم تنتهِ تلك التشويهات حتى بدايات القرن الحادي والعشرين، وظل كثير من الباحثين الجديين والمؤرخين المرموقين يستندون في أبحاثهم إلى كتاب “الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية” الذي وضعه سليمان الأضني في سنة 1863، وإلى كتب الرحالة والمبشرين الذين لم يتمكنوا من جلاء حقيقة تلك الطائفة وعقائدها السرية وتأويلاتها الباطنية للنصوص الإسلامية وطرائقهم المسلكية الغارقة في الزهد والتصوف. ومع أن عشرات الكتب عن العلويين قد ظهرت منذ صدور كتاب “تاريخ العلويين” لمحمد أمين غالب الطويل (صدر بالتركية في سنة 1919 وبالعربية سنة 1924) إلا أنها جميعها لم تبدد التصورات المغلوطة والشائعة والمستقرة، وظل العلويون، علاوة على الدروز والإسماعيليين والإيزيديين، عرضة للريبة والشكوك الأمر الذي جعلهم إحدى أحجيات المشرق العربي.
في أي حال، فإن هذا الكتاب بحث تمهيدي في شأن هذه الطائفة ومواطنها الأولى وهجرات أبنائها من وادي التيم إلى جبل اللكام وجواره جراء خلافاتهم مع الدروز، ومن منطقة الضنية في شمال طرابلس غداة فتوى ابن تيمية الحراني ضدهم (سنة 1305 ميلادية). وهذه الهجرات المتمادية والاضطرابات المتراكمة طوّرت لديهم فكرة “المظلومية العلوية” (ص 22). أما الأساطير المؤسِّسة للوعي السياسي عند العلويين فهي حكايات الحروب والهجرات والأبطال من عصر مؤسسي المذهب أمثال أبو شعيب محمد بن نُصير العبدي البكري النميري، وحسين بن حمدان الخصيبي، والحسن بن يوسف المكزون السنجاري، حتى صالح العلي وثورته ضد الفرنسيين، وكذلك قصة سلمان المرشد وإعدامه. وهذه الروايات كلها كانت توقظ باستمرار غريزة البقاء المتأصلة في الوعي الجمعي عند العلويين، وتحمي، إلى حد كبير، هويتهم الدينية.
إخضاع الأقليات
في 1/9/1920 أعلن الفرنسيون، في سياق استغلالهم مسألة الأقليات السورية، تأسيس دولة للعلويين في منطقة الساحل السوري، واللافت أن الجنرال غورو أعلن، في اليوم نفسه، تأسيس دولة لبنان الكبير. ومنذ ذلك التاريخ صار أتباع محمد بن نصير يُعرفون باسم “العلويون”، وكان ذلك بداية تعزيز الهوية العلوية وتلاشي تسمية “النصيريين”. واللافت أيضًا أن دولة العلويين تلك التي ضمت في إطارها أعدادًا مهمة من المسيحيين والسُنّة لم تشهد أي نزعة انتقامية ضد السنة على الرغم من التاريخ المثقل بحكايات الاضطهاد السني للعلويين (ص120). ومهما تكن حقيقة الحال، فإن الكتاب يتصدى بالعرض والتحليل لمسألة الأقليات في سورية، ولموقع العلويين في إطار هذه المسألة، ويستنتج، بصورة تدعو إلى الاستغراب، أن مسألة الأقليات لم تكن موجودة في السنوات الأولى للانتداب الفرنسي، وهي بدأت في الظهور بعد نهاية الثورة السورية الكبرى في سنة 1927 التي قادها في سنة 1925 سلطان باشا الأطرش (ص201). ويشير الكاتب إلى نشرة “آسيا” الصادرة باللغة الفرنسية وإلى رئيس تحريرها روبير دوكيه مهندس سياسة الأقليات في سورية، والذي كان يكره الإنكليز ويزعم أنهم هم مَن ابتدع فكرة القومية العربية لإرضاء الأمير فيصل بن الشريف حسين، ولتأسيس مملكة عربية يحكمها مع سلالته. ومدفوعًا بكراهيته للإنكليز اقترح دوكيه على حكومة بلاده الإسراع في إنشاء دولة لبنان الكبير، وتقسيم سورية إلى دويلات صغيرة (ص202).
يركز المؤلف، في نطاق تفتيشه عن البراعم الأولى للوعي السياسي عند العلويين على جذور المظلومية العلوية، وعلى جدلية الاتصال والانفصال بين بلاد العلويين والدولة السورية الأم، ويعرض في هذا الحقل المعرفي أسباب عداء الكتلة الوطنية السورية للعلويين وللدروز معًا، ثم لمواقف العلويين واتجاهاتهم السياسية ومعاركهم الفكرية، ويُفرد مبحثًا مهمًا لقضية لواء الإسكندرون واتصاله بالقضية العلوية، ويخلص إلى الاستنتاج أن الكتلة الوطنية بقيادة شكري القوتلي وجميل مردم وسعد الله الجابري اتبعت سياسة سيئة في منطقة العلويين مع تعيين إحسان الجابري (شقيق سعد الله) محافظًا لتلك المنطقة، فراح يؤلب العائلات والعشائر بعضها على بعض، ويقرّب مُلاك الأراضي من السلطة أمثال آل شريتح، وهم من السُنة، وجاءت محاولة تسجيل الأراضي كأملاك خاصة لآل شريتح لتتجاهل وجود الفلاحين من الطائفة العلوية على تلك الأراضي وتنكر عليهم حقوقهم المتوارثة. وهنا عمد سلمان المرشد إلى الاستيلاء على أراضي قرية سطامو ووزعها على فلاحيها، فجردت حكومة الكتلة الوطنية هجومًا على معقل سلمان المرشد في قرية جوبة برغال سقط فيه عدد من القتلى، وكادت الأمور تتطور إلى حرب مذهبية.
اعتقد العلويون أن الاضطهاد التاريخي الذي حاق بهم منذ الدولة السلجوقية على أقل تقدير حتى الانتداب الفرنسي قد شارف على الأفول مع بزوغ دولة الاستقلال. لكنهم اكتشفوا أن أول حكومة استقلالية برئاسة سعد الله الجابري التي تألفت في 26/4/1946 لم تضم أي علوي (أو أي درزي أيضًا). وتعرض صالح العلي لاستقبال مهين حين جاء إلى دمشق للاحتفال بجلاء الجيش الفرنسي عن سورية، فقد حجزت الحكومة له غرفة في فندق من الدرجة الثانية. وكانت ثالثة الأثافي اقتياد سلمان المرشد إلى دمشق وإعدامه كي يكون عبرة لغيره، وخصوصًا للدروز.
كوابح الاندماج الوطني
صُدم العلويون بسياسة الكتلة الوطنية التي قادت مفاوضات الجلاء عن سورية مع الانتداب الفرنسي. وكان من الصعب عليهم الاندماج بقوة في النظام السياسي السوري بعد الجلاء، لأن الحزب الوطني الذي أسسه نبيه العظمة وضم إليه بقايا الكتلة الوطنية التي تهتكت في معمعان النضال في سبيل الاستقلال كان يمثل الأعيان الدمشقيين، فيما يمثل حزب الشعب بزعامة رشدي الكيخيا الأعيان الحلبيين (ص344). وهؤلاء الأعيان هم ورثة أعيان الشام الذين قاوموا إصلاحات إبراهيم باشا (مساواة المسلمين بالمسيحيين)، ورفضوا الإصلاحات العثمانية (غولخانة في سنة 1839 وتنظيمات 1856) التي تمثلت بالدستور ومرسوم المساواة بين رعايا الدولة العثمانية، وتمترسوا حول مؤسسة الأوقاف والشبكات الدينية التقليدية، واندلعت جراء ذلك الحوادث الطائفية في جبل لبنان ودمشق وحلب في سنة 1860. ومن جهة أخرى يعزو الكتاب برودة موقف الكتلة الوطنية من قضية لواء الإسكندرون إلى ضآلة عدد السُنة العرب في اللواء (10%)، وإلى غلبة أعداد العلويين والمسيحيين الذين كانوا يشكلون النسبة الكبرى من سكان اللواء (38%). ويشدد الكاتب على أن شكري القوتلي كان أول مَن أفسح في المجال أمام الجيش للتدخل في السياسة عندما أنزله إلى الشوارع بلباس الدرك للمشاركة في تزوير الانتخابات عام 1947، ثم أعلن الأحكام العُرفية بعد الهزيمة الفلسطينية في سنة 1948، واستدعى حسني الزعيم وجعله قائدًا للجيش وكلفه حفظ النظام العام (ص 362).
* * *
في 16/12/1946 أعدمت السلطات السورية سلمان المرشد في ساحة المرجة بدمشق، وبموت المرشد انتهى عصر الزعامات العشائرية العلوية، وراح المتعلمون والموظفون الذين برزوا في عهد الانتداب الفرنسي يبحثون عن طرائق مغايرة للاندماج في الدولة على الرغم من الكوابح الكثيرة التي وضعتها الكتلة الوطنية وأعيان المدن الأساسية في وجه الأقليات المختلفة. ووجد أولئك المتعلمون من أبناء العلويين أنفسهم أمام طريقين للاندماج الوطني وللتعبير عن وعيهم السياسي الجديد: الأحزاب الأيديولوجية ذات الطابع المساواتي كالبعث والشيوعي والسوري القومي الاجتماعي، أو الجيش (ص343). وبين الجيش والأحزاب كان فصل جديد يُكتب في تاريخ سورية المعاصر؛ فصل اختلطت فيه التطلعات والأحلام والمصالح والصراعات أيما اختلاط، فأُعيقت العلمانية والديمقراطية، وحيل دون الاندماج الوطني، حتى شهدنا ما علمتم وذقتم من ويلات.