مقالات
عبد الهادي النجار: تذكار من معركة حلب
عبد الهادي النجار – البيئة والتنمية 6 حزيران 2016
في صباح يوم السبت 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1918 أحكمت القوات العربية سيطرتها على مدينة حلب بمؤازرة من القوات البريطانية. وقد كان لانسحاب القوات الألمانية وهزيمة قوات مصطفى كمال، الذي سيعرف لاحقاً باسم كمال أتاتورك، دور حاسم في إعلان دول المحور استسلامها وإنهاء الحرب العالمية الأولى بعد 15 يوماً على خسارة العثمانيين معركة حلب.
سنوات الحرب العالمية الأولى جعلت مدينة حلب ملتقى دولياً غير مسبوق، لكثرة جنسيات القوات المتحاربة. وهي التي كانت على الدوام مرصد أوروبا الأهم لجس نبض الأحداث في آسيا كلها، نظراً لدورها التجاري بين الشرق والغرب. هنا التقت الجيوش القادمة من مصر والحجاز والعراق وبلاد الشام وأوستراليا والهند وشمال أفريقيا وبريطانيا وألمانيا وتركيا. وقبل تصادم هذه الجيوش زارتها الروائية أغاثا كريستي واستطلعها لورانس العرب.
أنهكت الحرب وسنوات القحط الشرق بأسره، ولم تكن مدينة حلب في حال أفضل من شقيقاتها الشاميات، ولذلك تركت بصمتها المتعبة تذكاراً دائماً، ليس فقط على أجساد أبنائها، وإنما أيضاً على وجوه وأذرع العسكر المتصارعين على أرضها. وهكذا عرفت “حبة حلب” طريقها إلى الشهرة عالمياً مع عودة الجنود إلى بلدانهم. ومن اللافت أن يضم المتحف الحربي الأوسترالي عدداً من الصور لإصابات جنود التاج البريطاني بحبة حلب أو “الليشمانيا” خلال أحداث الحرب العالمية الأولى.
داء الليشمانيات هو مجموعة من الأمراض التي تتسبب بها طفيليات أولية من جنس الليشمانيا. وتتفاوت مظاهر الإصابة بهذا المرض. فمنها آفات جلدية تشفى تلقائياً وقد تترك ندوباً واضحة كما في “حبة حلب” التي تعرف في العراق باسم “حبة بغداد”. ومنها آفات غشائية تؤثر على أغشية الأنف والفم والبلعوم وينتج عنها عجز وضرر كبير. ومنها آفات حشوية تطال الطحال والكبد ونخاع العظم والغدد اللمفوية، وعادة ما تكون قاتلة إذا أهمل علاجها، وتعرف هذه الآفة عالمياً بالحمى السوداء أو Kala Azar.
لندرك مدى انتشار الليشمانيات حول العالم، يكفي أن نعلم أن الحمى السوداء هي المرض الطفيلي الأكثر فتكاً بالبشر بعد الملاريا، ومع ذلك فهي تعتبر مرضاً مهملاً بالرغم من خطورتها وانتشارها في 47 بلداً مدارياً أهمها الهند وبنغلادش ونيبال والسودان والبرازيل.
تنتقل الليشمانيات بشكل رئيسي عن طريق نوع من الحشرات يعرف بذبابة الرمل. تقوم الأنثى المصابة بنقل العدوى من الحيوانات “المستودعة” التي هي عادة قوارض الصحراء كاليرابيع والجرذان إلى الإنسان، أو من إنسان مصاب إلى إنسان آخر. وبشكل عام، يعتمد انتشار المرض على توافر الظروف البيئية المؤاتية التي تتيح تكاثر ذبابة الرمل وتفشي القوارض وعدم اتخاذ التدابير الوقائية كاستخدام “الناموسيات” ومكافحة القوارض وذباب الرمل.
تصنف سورية على أنها موطن لأنواع محددة من الليشمانيات (المدارية والكبيرة)، وسريان المرض فيها مستمر منذ سنوات بعيدة، وقد تفاقم خلال سنوات الحرب الراهنة. وأدى غياب المرافق الصحية في الكثير من التجمعات السكنية، وبشكل خاص ضمن مخيمات اللاجئين، مع تراجع الأنظمة الوقائية والرقابية والعلاجية، إلى حصول تفشيات كبيرة في الليشمانيات داخل سورية وضمن مخيمات اللجوء في الدول المجاورة.
وتظهر أعراض المرض على أقل من 30 في المئة من الذين يصابون بعدوى الليشمانيا. ومن يظهر عليه المرض يكتسب مناعة تدوم طوال الحياة بعد الإصابة والشفاء من العدوى بالليشمانية الكبيرة أو المدارية. ولذلك فإن المقاتلين الأجانب الذين لا يملكون المناعة الكافية هم الأكثر عرضة لمخاطر الإصابة، تماماً كما كانت الحال أيام الحرب العالمية الأولى.