مقالات
حمزة رستناوي: شخصية أبو الهدى الصيادي
حمزة رستناوي- الحوار المتمدن*
لماذا أبو الهدى الصيادي؟؟
– قد يكون أبو الهدى الصيادي أشهر شخصية صوفية- بالمعنى الاجتماعي السياسي- في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين في العالم الإسلامي
– لعبت هذه الشخصية دورا ً مهما ً في صياغة المشهد الثقافي و السياسي للبلاد العربية إبان فترة ما اصطلح عليه النهضة العربية .
– إن الأسئلة التي تثيرها دراسة شخصية أبو الهدى ما تزال مطروحة حتى الآن بشكل أبو بآخر:
كعلاقة المثقف بالسلطة , و علاقة الدين بالقومية ,و العلاقة مع الغرب , و كذلك حجم التناقضات الداخلية في المجتمعات العربية الإسلامية بين الشعبي و النخبوي, بين العقلاني و الخرافي, بين الإصلاحيين و المحافظين .
و دراسة شخصية أبو الهدى تصلح كمثال نموذجي حول توظيف الايديلوجيا الدينية الصوفية الطرائقية في خدمة السلطة, و استغلال المشاعر النفسية و العواطف الدينية من قبل المستبدين ؟
– لا نجد علم في الثقافة أو السياسة في النصف الثاني للقرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين إلا أتى على ذكر أبو الهدى الصيادي على سبيل المثال لا الحصر : عبد الرحمن الكواكبي – محمد كرد علي- الزهاوي- معروف الرصافي- إبراهيم المويلحي- جمال الدين الأفغاني- محمد عبده- رشيد رضا- عبد الله النديم – السلطان عبد الحميد – مدحت باشا – إبراهيم هنانو- قسطاكي الحمصي..الخ
-معظم ما كتب عن أبو الهدى الصيادي كان حول حقيقة نسبه و قد تم إغفال النتائج التي من الممكن الاستفادة و البناء عليها.
– إن الجدال حول حقيقة نسبه هو خارج إطار الدراسة – لا يخصني- و هو جدال إن دل على شيء فهو يدل على انحطاط فكر المتجادلين , و أقتبس هنا قول منسوب للنبي محمد ” ذالك علم لا ينفع , و الجهل به لا يضر”
– سأدرس – في هذا المقام- أبو الهدى الصيادي كشخصية عامة و ليس كشخصية تخص فرد أو أسرة أو طائفة أو جماعة؟
أولا ً: سيرة ذاتية
هو محمد أبو الهدى بن حسن وادي بن علي خزام ولد في خان شيخون 1849
– عين نقيبا ً للأشراف في جسر الشغور, ثم نقيبا ً لأشراف حلب, و لمع نجمه في عهد السلطان عبد العزيز
” عم السلطان عبد الحميد” و قضى ثلاثين عاما ً في خدمة الدولة العثمانية يدافع عن السلطان عبد الحميد و يؤكد واجب المسلمين في مؤازرة السلطان
– ووصل إلى منصب شيخ مشايخ دار الخلافة و مستشاراً للسلطان عبد الحميد.
– أهين في آخر حياته عقب الانقلاب على السلطان عبد الحميد 1908 , و دفن في التكية التي ابتناها في بشكطاش في الأستانة 1909 و نقل جثمانه عام 1937 إلى حلب و دفن في الزاوية الصيادية إلى جانب قبر أبيه” حاليا ً دار الإفتاء قرب القصر العدلي.
– سيرة أبو الهدى هي سيرة رجل انتقل من خان شيخون قرية متواضعة في ولاية حلب , إلى اسطنبول حاضرة الإمبراطورية العثمانية من درويش يرتزق من ضرب الدف و التكسب بالرقى , إلى مستشار للسلطان عبد الحميد و شيخ مشايخ دار الخلافة حيث الجاه و النفوذ و المال و المؤامرات.
و ما كان لهذه النقلة أن تتم لرجل لا يملك نصيبا ً كبيرا ً من الدهاء و الطموح و الإرادة
يقول عنه محمد كرد علي” و ما كان في الواقع غير رجل وصل إلى ما وصل إليه بمواهبه و جربزته ” أي خداعه” و ما كان لنغمة الإصلاح مكان في نفسه, و لا لتوسيد أعمال الدولة للكفاة شأن عنده, بل كان هواه في تكثير عدد أنصاره, و إرضاء المرتزقة الذين تأدبوا في كل زمان أن يعيشوا على عاتق الملة حَلمَة ً طفيلية تمتص الدم, و تعرق العظم, و المصلحون أفراد في كل أمة , و أبو الهدى ما ادعى أنه منهم , فهو قد نشأ على حب الطريقة و التغني بالجمال , و الغرام بالخلوات و بقي طول اتصاله بالسلطان لا هم له في الظاهر إلا بث دعواه و إثبات نسبه, سعي لما فطر عليه, و أخذ من نفسه و لا ينفق الإنسان إلا مما عنده” “1”
و بعد أن كثر المشككون في نسبه إلى النبي لجأ إلى فتوى طريفة للجم ألسنة المشككين يقول ” لا ينبغي التفتيش عن أنساب الأشراف, و لا البحث عن صحتها, و يلزم احترام من طعن في نسبه , أكثر ممن لم يطعن في نسبه, يريدون بذلك إذا لم تقم حجة صريحة قاطعة شرعية تقضي بعدم صحة النسب, و ذلك خوفا ً من أن يؤذى رسول الله صلى الله عليه و سلم “”2” و تكتسب قضية النسب أهمية كبيرة – بمقاييس ذلك العصر – إذا عرفنا الامتيازات السلطانية التي كان السلطان يخص بها هذه العائلات المباركة, كالإعفاء من الجندية و إسباغ الأوسمة و المناصب لهم , إضافة إلى المكانة الدينية و الاجتماعية لهؤلاء الأشراف, و تمييزا ً لهم عن بقية رعايا الإمبراطورية من غير الأشراف و ربما الأنجاس؟؟؟
فأبو الهدى يرى أن المشككين في نسبه للرسول , هم لا يسيئون له فقط بل هم يسيئون للرسول؟ و كأن النبي محمد لم يقل ” لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ” و قوله تعالى ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم ”
و يذكر محمد راغب الطباخ ” و إنا- و أيم الله- لنأسف على ذكائه المفرط , و سعة مداركه , و فضله الجم , و ما أوتيه من واسع الجاه, و رفيع المكانة لدى السلطان عبد الحميد , أن يصرف ذلك في ترويج بضاعته و نفاق سلعته… و لو كان صرف عنايته إلى إصلاح الأمة الإسلامية , و لم شعثها, و إنه و الحق يقال ممن توفرت لديه الأسباب و تمهَّدتْ له السبل , و مدت له السعادة يدها, و انقادت له أزمتها , لأتى في ذلك بالآيات البيِّنات , و لحمدت سيرته في دنياه , و جوزي بالحسنى في أخراه, و خلد له في بطون الأسفار ذكرى حسنة تتناقلها الأجيال” “3”
ثانيا ً: ما هي الظروف الموضوعية التي أتاحت لأبي الهدى أن يلعب هذا الدور؟
كان السلطان عبد الحميد يحاول أن يقف في وجه التيارات المعارضة لسياسته
و هذه تشمل
1- الإصلاحيون : أمثال جمال الدين الأفغاني و محمد عبدة و عبد الله النديم و عبد الرحمن الكواكبي و مدحت باشا و غيرهم ممن كان يدعو إلى “المشروطية ” و إعادة العمل بالمجلس النيابي و إجراء إصلاحات سياسية واسعة في الإمبراطورية, و قد كان أبو الهدى خصما ً عنيدا ً لهم, و علاقات غير مستقرة معهم
فهم بتقربهم من السلطان عبد الحميد لمحاولة إقناعه بإجراء الإصلاحات السياسية و الدعوة إلى الجامعة الإسلامية يفسدون عليه حظوته عند السلطان, و يورد أحمد أمين في معرض حديثة عن جمال الدين الأفغاني” ووجد له في الأستانة خصما ً لدودا ً هو أبو الهدى الصيادي الذي أتقن الحيل و الدهاء و الدسائس و المؤامرات, و الغلبة على عقل السلطان, ما لا ينفع معه إخلاص جمال الدين و صراحته و نصحه, ففسدت حياة السيد , و فسد ما بينه و بين السلطان و ضاع كل أمل له في التعاون معه على الإصلاح” “4”
و كذلك يورد على لسان محمد عبده في إحدى رسائله قوله ” ما كان يضر ُّ السيد لو مهد لإصلاحه و هو في الأستانة بالسعي عند السلطان في إعطاء أبي الهدى الصيادي خمسمائة جنيه, و نيشانا ً لابنه و أخيه , فإذا رأى أبو الهدى أن السيد يخدمه فإما أن يواتيه و إما ألا يناوله” و لكن أنَّى للسيد أن يطلب هذا البُطل, و هو يعتقد أن أبا الهدى سافل دنئ إذا طلب له شيئا ً فالشنق؟””5″
2-الوهابيون: : كان السلطان عبد الحميد يصارع الوهابية التي شكلت خطرا ً سياسيا ً داهما ً على الإمبراطورية , و قد وجد السلطان عبد الحميد ضالته في التصوف كمعارض تقليدي للفكر الوهابي, فقرب إليه عددا ً من رجالات التصوف كالشيخ محمود أبو الشامات و الشيخ محمد ظافر المدني شيخي الطريقة الشاذلية
و قرب إليه أبو الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية, و أغدق عليهم الأوسمة و المناصب
و يورد محمد سليم الجندي ” و قد كان السلطان يخشى على سلطانه في البلاد العربية من الوهابيين, و يحذر أن يتغلب عليه صاحب هذه الدعوة, فاتخذ – أي السلطان- من أبي الهدى صارفا ً يصرف الناس عن النظر إلى هذا المذهب, و شاغلا ً يشغلهم عنه, ففتح بابه لكل طالب , و أصاخ بسمعه إلى كل قصد , فكان الناس يؤمّونه من كل حدب و صوب للقاء حاجاتهم , و جر مغانمهم , و دفع مغارمهم. و كان أبو الهدى يبذل ماله, و قلما رجع أحد من قاصديه بالخيبة و كان السلطان يساعده على تحقيق رغائبه” “6”
3- القوميون : كان أبو الهدى يحمل السلطان على الاعتقاد أنه صاحب النفوذ الأكبر في الولايات العربية , رضاه رضا العرب , و أن عرب السلطنة العثمانية في قبضته يحركهم كما يشاء, حيث كان أبو الهدى يساعد قاصديه من العرب في الأستانة فهذا يطمع في رتبة, أو تقليد وسام , و هذا يطمع في إثبات نسب, و هذا يطمع في تيسير أموره في الأستانة كما حدث مع الشاعر قسطاكي الحمصي أثر دعوى أقامها على المصرف العثماني أثر خلاف مالي عام 1898 و ما قصده أحد من أبناء البلاد العربية إلا آزره , و حمى بنفوذه على سبيل المثال لا الحصر الرصافي و الزهاوي و المويلحي و استضاف إبراهيم هنانو في الأستانة عندما ذهب إليها بقصد الدراسة حيث كان أبو الهدى يساعد قاصديه من العرب ,و لذلك عاداه دعاة القومية العربية بفرعيها القومية العربية الإسلامية و ممثلها الكواكبي الذي كان يدعو إلى خلافة عربية إسلامية عاصمتها مكة المكرمة” انظر كتاب أم القرى”, و كذلك دعاة القومية العربية العلمانية المتأثرة بالفكر القومي في أوربا كأعضاء الجمعية العربية الفتاة و سائر الجمعيات السرية الأخرى ؟
و قد حصد أبو الهدى بهذا الدور الذي لعبه عداء سائر دعاة الفكر القومي من غير العرب كالقوميين الطورانيين , و القوميين الأكراد و غيرهم .
ثالثا ً – هل كان أبو الهدى رجل سياسة أم رجل سلطة أم رجل علم؟
لعب أبو الهدى دورا ً سياسيا ً أكثر منه دينيا ً و علميا ً فركز دعوته على وجوب طاعة أمير المؤمنين خليفة المسلمين و أن طاعته من طاعة رب العالمين , و الخروج عليه من الخروج عن الدين , و دعا للالتفاف حول السلطان عبد الحميد لتبقى راية الدولة و الإسلام عالية , و دعم هذه الدعاية بالمنامات و الكرامات و الليرات و قد ألف أبو الهدى الصيادي عددا ً من الكتب في وجوب طاعة خليفة المسلمين منها
1- داعي الرشاد لسبيل الاتحاد و الانقياد
2- بهجة الزمان في مآثر خليفة سيد ولد عدنان
3- تاريخ الخلفا ورَّاث النبي المصطفى
و للطرافة نورد هنا مقتطف من كتاب” ذخيرة المعاد ” لأبي الهدى يصف فيه علاقته مع السلطان عبد الحميد يقول ” و في سنة أربع و تسعين بعد المائتين, تشرفت بخدمة سيدنا و مولانا أمير المؤمنين , حارس كلمة الشرع المبين خليفة سيد المخلوقين , الملك المنصور المعان, السلطان الغازي عبد الحميد خان ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان أيده الله بالنصر, و خذل أعداءه ,و ذلك حين ما قدمت دار السعادة العلية فأصعدني بعلي ِّ توجهاته إلى أعلى المراتب العلمية ..” “7”
و لم يكن لأبي الهدى : اهتمامات سياسية بالمعنى المصطلحي لكلمة السياسة ” أي إدارة شؤون البلاد بمقتضى القانون و لغاية العدالة و الاهتمام بالشأن العام” و لكنه كان رجلا ً محبا ً للجاه, و قد أمن إليه السلطان عبد الحميد لمعرفته ذلك الطبع و قربه إليه, فنبذه الإصلاحيون من العرب و الترك و كذلك أعداء السلطان …و استفاد أبو الهدى من علاقته المميزة مع السلطان لترسيخ جاهه, و رأس ماله المادي أحيانا ً و المعنوي غالبا ً, يقول عنه محمد سليم الجندي ” لم يكن له مطامع سياسية , كان رجلا ً محبا ً للجاه, باذلا ً المال في سبيل الجاه و السمعة , و يتضح من ذلك أنه كان لا يتدخل في سياسة السلطان و حكومته و لا يتدخل فيما لا يعنيه , و كان أكبر همه أن يكثر حوله الأنصار و الأشياع و المريدين و الخلفاء, و أن يفيد كل واحد منهم بما استطاع من مال أو وسام أو إعفاء من العسكرية أو تعمير مدفن أو تكية أو ما شاكل ذلك, و أقصى أمانيه نشر دعوته و تغليب طريقته الرفاعية
و أصحابها على غيرهم من أصحاب الطرق” “8”
و رغم تعدد موارد أبو الهدى المادية ووفرتها ” لم يكن أبو الهدى ذا وفر بل كان كثير الديون , إذ اضطرته مواقفه مع خصومه إلى الاستمرار على التبذير , ثم كلفه بالتشبه بأهل السماحة , و إظهار الأريحية و الجري على سنن الكبراء من السلف , في إجازة المادحين و فتح باب داره للقاصدين من الضيوف و الدراويش , كان يستنفذ ما في خزانته , فيقترض من رجل صيرفي اسمه توفيق أفندي الداغستاني, هذا و لم ينل صلة من عبد الحميد إلا فرقها على الخاصة من شيعته , القائمين بأمر دعوته” “9”
و ليس فيما تركه من أثر يدل على تبحره في علم ديني أو دنيوي , ترك ما بين 82 رسالة و كتاب وفق ما ذكر في سيرته التي دونها بنفسه” “10”
و رسائله تدور حول إثبات نسبه إلى الرفاعي و سلالة النبي, و هذا ما شكك به الكثيرون من حساده و أعدائه و المهتمين بهكذا قضايا, فلقد مكنه هذا الانتساب من الوصول إلى مكانة دينية و اجتماعية و سياسية رفيعة و سأذكر عددا من كتبه في ذلك
1- قلائد الزبرجدْ في حكم الغوث الشريف الرفاعي أحمد
2-قلائد الجواهرْ في ذكر الغوث الرفاعي و أتباعه الأكابر
3- تنوير الأبصارْ في طبقات السادة الرفاعية الأخيار
4- الفجر المنيرْ فيما ورد عن لسان الغوث الرفاعي الكبير
5- الكوكب الزاهرْ في مناقب الغوث عبد القادر و غيرها كثير
و ألف أبو الهدى الكثير من الرسائل كانت بمثابة مختصرات و هوامش على علوم الأقدمين في الفقه و العقيدة و التصوف كانت الغاية منها التدريس و الذكر و ليس البحث و التفكير مثل:
– طريق الصواب في الصلاة على النبي الأواب
– ضوء الشمس في شرح قوله”ص” بني الإسلام على خمس”
و هل يقاس هكذا نتاج فكري سمته الاجترار و التمجيد و الخرافة و إثبات النسب
بنتاج معاصريه كعبد الرحمن الكواكبي صاحب ” طبائع الاستبداد و أم القرى ” ؟!
رابعا ً: كرامات أبو الهدى
كان سلاح أبي الهدى في مناوأة خصومه قداسة الدين , و للدين أثره و سحره في نفوس السلاطين , و كان الشيخ يزوِّد مولاه السلطان كل يوم بعجيبة من العجائب , فآونة يبلِّغه سلام النبي”ص” و رضاه , ثم يدَّعي لأبيه, و لنفسه كرامات لا وجود لها , و كان عبد الحميد محبا ً لهذه الأشياء و يظن أنها أقرب الوسائل لاستدامة حكمه , و بهذه الوسائل قويت سيطرة أبي الهدى على عبد الحميد , و تمكنت بينهما الألفة الروحية , حتى أن خصوم الصيادي لما صارحوا السلطان بأن هذه البضاعة التي يبيعها له ليست إلا نوعا ً من الخزعبلات قال لهم :
” عجبت لهؤلاء الخونة, يحسدون شيخي , و ليس فيهم من يليق به أن يكون من خدَّامه , يكتبُ إليَّ الواحد منهم كتابا ً يطلب فيه بدرة َ مال , أو رتبة لا تكاد تذكر , و هو مع ذلك يتعسَّف الحيل , و لا يهتدي إليها سبيلا ً . أما أبو الهدى فإن سألني عن ثقة ٍ و ظرفٍ , و لا يتدنَّى بقدره إلى طلب ما يكون مشاعا ً, يمكن أن ينازعه فيه غيره , بل يطلب مني ما يفتخر الشريف نيله , فهو الأميرُ و هم الصعاليك “11”
– و يورد و لي الدين يكن نادرة رواها له الكاتب المصري إبراهيم بك المويلحي قال:
” كنت ذات يوم عند أبي الهدى , و قد غصَّ مجلسه بقوم من أصحابه و شيعته , و كلهم جلوس كأن على رأسهم الطير, فأخذ أبو الهدى يحدثنا بأمر وقع لأبيه قال : رحمة الله على سيدنا الوالد , ما أظرف ما كانت تصدقُ به كراماته , خرج ذات يوم شديد الهاجرة في حلب يريد التنزه , فاشتد عليه القيظ, و علم أنه لم يصب في اختياره وقت النزهة , فاثني راجعا ً إلى باب داره, حتى إذا وافاه, جلس على عتبته من فرط ما أصابه من التعب , و أخرج منديلا ً له , و جعل يمسح به عرقه المتصبب على جبينه , و إنه لكذلك , إذ برجل يقود حمارا ً له , عليه زنبيلان ً مملوآن خيارا ً , فاشتهت نفس سيدي الوالد من ذلك الخيار , و سأل البائع أن يزن له منه رطلين … و لما انتهى من وزن الخيار , و أخذ ثمنه و هم بالانصراف , التفت فما راعه إلا زنبيلاه, و ليس فيهما خيارة واحدة , فأخذ الرجل ينوح و ينتحب , و يقول أين ذهب هذا الخيار؟؟
و لم يمر بنا أحد فنقول سرقه!
فتبسم سيدي الوالد و قال : كم كان بزنبيلك من الخيار؟
قال الرجل: سبعون رطلا ً فدفع إليه سيدي الوالد ثمنه, و قال أنا أكلته , فنظر الرجل في وجه الوالد مليا ً , ثم صاح: و الله إنك لقطب الزمان وغوثه , و انكبَّ على قدميه يقبلهما , فطيب الوالد الرجل , و قال : لا بأس عليك , و لكن عاهدني أن لا تبوح بما رأيت لأحد , فعاهده الرجل على ذلك و مضى في شأنه.
قال المويلحي : فما أتم أبو الهدى كلامه إلا نهض رجل ٌ في أخريات الجالسين , و قال : يا مولاي عفوا ً!
-إنه لم يكن بالزنبيلين سبعون رطلا ً, بل خمسة و تسعون , كما أخبرني به البائع نفسه
قال أبو الهدى : لله أنت ما أحفظ َ قلبكَ , و الله لقد أنسانا الزمان ذلك
قلت للمويلحي : يا إبراهيم بك, هذه ليست كرامة , و إذا صحت الرواية فأبو الهدى جمل أو ثور , و ليس بغوث و لا شيطان ” 12″
– و يورد ولي الدين يكن ” أخبرني كمال الدين الدمشقي أن العقارب في بيت أبي الهدى لا تؤذي أحدا ً, و أنه نهى دراويشه عن قتلها, فقال : دعوها , لن يصيبكم منها أذى . و قال : كثيرا ً ما ننام الليل, و في فراش الواحد منا واحدة أو اثنتان من العقارب , و لا يخطر لنا بال ٍ أنها ستؤذينا.
– و حدثني أبو الخير , و هو خليفة أبي الهدى قال : بينما نحن مع السيد في أحد أذكاره إذ أخذته سكرة , فعمد إلى حسام كان على الأرض فأخمده في صدر أحد الدراويش , حتى خرج النصل من ظهره شبرا ً, فأخذ منا الروع مأخذه , فما هو إلا أن استل الحسام , و بصق على موضع الجرح فالتأم لوقته , و لم يترك له أثرا ً “13” .
خامسا: مختارات من شعر أبي الهدى
* يمكن حصر الأغراض الشعرية عند أبو الهدى الصيادي ب:
– الاعتزاز بنفسه و الفخر بحسبه و نسبه
– المدائح السلطانية
– المدائح النبوية و هي تمثل الكم الأكبر من شعره
– قصائد وجدانية و هي أبدع ما كتب , و إن كان الغزل لا يظهر كغرض شعري مستقل و صريح عنده, إلا أنه يميل لتطعيمه و تقديمه كقصائد وجد صوفي و عشق إلهي .
- شعره بالنسبة لاتجاهات الشعر العربي في القرن التاسع عشر, على جانب كبير من الرقة و الجزالة , و يتميز بغنائية عالية , حيث كثيرا ً ما كان يغني شعره في الحلقات الصوفية و المناسبات الدينية و ينشده على المزهر !
- ديوان أبو الهدى الصيادي متوفر كنسخة الكترونية في موقع الموسوعة العالمية للشعر العربيhttp://www.adab.com
حيث نجد 133 من قصائده المجموعة من مختلف كتاباته الشعرية
• و هذه مختارات من شعره – وفقا ً لذائقي الخاصة
—— 1——–
يا غائبا ً في القلب ِ هاجرْ لمتى .. و أنتَ أحبُّ هاجرْ
أخفيتَ سرَّك َ و الهوى في باطني ما زالَ ظاهرْ
ارحمْ عشيركَ يا حبيبا ً حسنهُ فتنَ العشائرْ
ماليْ و طرفكَ و هو هذا فاترٌ و عليَّ قادرْ
فكرْ بلطف ِ جميل ِ ذاتكَ يا رقيقَ الخصر ِ حائرْ
و حياة ِ عينك ِ لم أزلْ طولَ الدجى بهواكَ ساهرْ
أبكيْ و دمعيْ ناظرٌ دررا ً ملألأة ً و ناثرْ
و إذا نظرتُ ففيْ جميع ِ البارزات ِ إليك َ ناظرْ
أودعتَ شخصك َمهجتيْ و عليه ِ من روحيْ ستائرْ
قاطعتنيْ و أنا و حقك َ غيرَ هجركَ لا أحاذرْ
و رميتنيْ بجفاكَ إن َّ جفاكَ مثلَ الليل ِ كافرْ
——-2——–
إلهي َ مسَّنيْ كربٌ عظيمٌ
و أعظمُ منهُ ظنيَ و الرجاءْ
فلا تقطعْ رجاي َ و أنتَ ربيْ
و فرِّجْ ما به ِ دهمَ القضاءْ
و أيِّدنيْ بلطفكَ و اعفُ عنّيْ
و كنْ عونيْ إذا عظمُ البلاءْ
و لا تشمتْ بيَ الأعداء َ إنّيْ
أخو ضعف ٍ به ِ ضاقَ الفضاءْ
——-3——-
جوهرُ الفخر ِ نورُ عين البرايا
منتهى سرها من الابتداء ِ
معدن المجد روح جسم المعالي
مظهر الحق في سلوك الفناء ِ
مظهر المجد هيكل السعد مولى الخلق
من قبل خلق طين و ماء ِ
صولة الله في الوجود و مجلي
نور عين الكمال في كل رائي
ترجمان الرحمان في كل شأن
و تجلى قبوله للدعاء ِ
كاف كن قبل كون كل مكين
نون كان الأمان للشفعاء ِ
صاد صبح القبول من غير شك
ميم معنى الوجود للأشياء ِ
——4——-
* يعاركنيْ الزمانُ كما يشاءُ
و بيْ للحزن ِ نشرٌ و انطواءُ
و لي قلبٌ عبثن َ به ِ اللياليْ
بفقد ِ أحبَّتيْ و الفقدُ داءُ
فأيُّ مسرة ٍ تحلو لقلبي
و لونُ الماء ِ يبرزهُ الإناءُ
تهاجمت ِ الهمومُ علي َّ حتى
جرتْ عينيْ و مدمعها دماءْ
————5————
*منَ الهوى آه ُ والصبُّ أواهُ
أفنى الهوى كليّ والقلبُ يرضاهُ
و يلاهُ من ريم ٍ في القلب ِ مثواهُ
لم ْ يشتغلْ فكري وللبُ لولاهُ
يطيبُ ليْ معنىً يفيدُ ذكراهُ
و العينُ لمْ تبصرْ و الله ِ إلاهُ
أقامَ في سرِّيْ و الروح ُ معناهُ
سادسا ً : أبو الهدى بين المجد و التمجُّيد إن خير ما يستدل فيه على تفشي الاستبداد في أمة من الأمم و شدة سطوته على أبنائها, هو استنطاق لغتها, فكلما كثرت عبارات التعظيم و التشريف و المديح بين المتخاطبين, بين الحاكم و المحكوم , كلما دل ذلك على عراقة الاستبداد و فكره في هذه الأمة, و من ثم انحطاطها
و سأذكر هنا فقرة قصيرة من كتاب الروض البسام لأبي الهدى الصيادي و ليتأمل القارئ قوله ” سيدنا, و مولانا أمير المؤمنين, رافع ألوية الشرع المبين, ناصر كلمة الإسلام و المسلمين , ملك الملوك و السلاطين, خليفة سيد المخلوقين, سلطان المشرقين و المغربين , خادم الحرمين الشريفين , المؤيد بعناية الرحمن, و المحروس بنظرة مدد سيد و لد عدنان, مولانا السلطان الغازي , عبد الحميد خان, لازال بالعز و العافية و الإقبال إلى آخر الدوران “”14”
و ليتأمل القارئ التعظيم و التشريف و المديح الذي يصف به أبو الهدى الصيادي نفسه
و سأورد حرفيا ً منقول من غلاف ثلاث كتب مطبوعة له “
—1—
كتابُ الذخيرة, في ذكر ِ السادة ِ بني الصيادْ
تأليف السيد الجليلْ, و العَلم الطويلْ, مفخر السلفْ
و بهجة الخلفْ, تاج العلماءْ, قدوة الفضلاءْ
العلامة النسابة , حضرة صاحب السيادة
و السماحة السيد محمد أبي الهدى
الصيادي الرفاعي كان الله له
وليا ً في جميع المساعي
آمين
*بمطبعة محمد أفندي مصطفى
—2—
كتاب تنوير الأبصارْ
في طبقات السادة الرفاعية الأخيارْ
تأليف النحرير العلامة و الإمام الفهامة مفخرْ
السلفْ, و حجة الخلفْ, صاحب السيادة و السماحة
مولانا السيد محمد أبو الهدى أفندي الصيادي
الرفاعي ,لا زال في الدنيا و الآخرة
مشكور المساعي
آمين
*بمطبعة محمد أفندي مصطفى
—3—
كتاب
الروض البسام في أشهر البطون القرشية بالشام تأليف
حضرة الحسيب النسيب الكامل فرع الشجرة الرفاعية العالم العلامة الفاضل
السيد محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي
حفظه الله تعالى و نفعنا بعلمه
*طبع بمطبعة الأهرام بالإسكندرية سنة 1892 مسيحية
و لنقارنه بكتاب معاصرة عبد الرحمن الكواكبي” طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد”
الذي اضطر الكوكبي إلى إخفاء اسمه الحقيقي, خوفا ً من بطش السلطان و زبانيته
و كتب على خلافها محرره هو الرحالة ك .
عام 1902
و إذا كان المجد ” هو إحراز المرء مقام حبٍّ و احترام في القلوبْ , و هو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان”
فإن “التمجُّيد خاص بالإدارات المستبدة , و هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم المستبدْ, ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية ” و بعبارة أوضح ” هو أن يصير الإنسانُ مستبدا ً صغيرا ً في كنف المستبد ِ الأعظم”
……………
1- أبو الهدى في عيون معاصريه- حسن السماحي سويدان- دار البشائر – دمشق – ص139
2- ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد – محمد أبي الهدى الصيادي – مطبعة محمد أفندي مصطفى
مغفل من التاريخ – ص 9
3- إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء- محمد راغب الطباخ – ج7 ص330- 331
4- زعماء الإصلاح في العصر الحديث – أحمد أمين –ص101
5- المرجع نفسه ص109
6- أبو الهدى في عيون معاصريه –ص166
7- ذخيرة المعاد في ذكر السادة بني الصياد – محمد أبي الهدى الصيادي – مطبعة محمد أفندي مصطفى
مغفل من التاريخ- ص69-70
8 -أبو الهدى في عيون معاصريه ص169
9- المرجع نفسه ص69
10- المرجع نفسه ص15
11- المرجع نفسه ص247-248
12- المرجع نفسه ص89-90
13- المرجع نفسه ص104-105
14- الروض البسام في أشهر البطون القرشية بالشام – أبو الهدى الصيادي – مطبعة الأهرام بالإسكندرية- سنة 1892 مسيحية – ص133
15- راجع كتاب طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد – عبد الرحمن الكواكبي – دراسة و تحقيق :د محمد جمال طحان- الأوائل دمشق ط 1 عام 2003- فصل : الاستبداد و المجد ص95.
*العدد 2115 تاريخ 30-11-2007