وثائق سوريا

كلمة محمد كرد علي في حفل إفتتاح غرف القراءة في دمشق عام 1908م

كلمة محمد كردعلي صاحب صحيفة المقتبس في حفل إفتتاح غرف القراءة في دمشق في السابع عشر من كانون الأول عام 1908م.

ساداتي الأخوان:

معذرة إليكم عما تسمعون من لكنة في لساني وعجز في بياني، فهذه أول مرة وقفت خطيباً في جماعة.

ربما كان اجتماعنا اليوم أبها الأفاضل، أبرك اجتماع اجتمعناه وغرض جدي نحونا نحوه وما آخال في العالم مطلباً أشرف من إنارة العقول ولا مقصداً أسمى.

نحن الآن نفتتح نادياً علمياً كلنا به مبتهجون، وحق لنا أن نبتهج لأننا نعتقد أن داءنا من جهلنا لا يشفينا منه إلا ترياق المعارف فبوركت تلك الهمم الشماء التي كانت سر اجتماعنا وابتهاجنا.

كان صديقي الفاضل محمد الدين افندي الخطيب أحد أعضاء هذه الجمعية العاملين أول من أطلعني في مصر منذ زهاء سنة على غرض جمعية النهضة السورية فخشيت في سري العاقبة، وسألت له ولأخوانه السلامة من عيون الحاسدين والجاهلين، ولم أتمالك أ شرت إليه بأن يكتموا أمرهم حتى عن أهلهم وأصدقائهم.

ولكن سرعان ما فرج الله عن هذه الأمة فنفس من خناقها بإعلان القانون الأساسي، وأصبح أبناؤها أحراراً في اجتماعهم، أحراراً في أقوالهم وأفعالهم في صحفهم ومصنفاتهم.

من كان يظن والعهد ليس ببعيد أننا نجتمع هنا وأمامنا طائفة من الجرائد العثمانية والمصرية والأجنبية وقد كتبت إلا قليلاً بلسان الحرية المفرطة أو المعتدلة، وقد كنا زهاء أربعة أشهر نخاف على أنفسنا وذوينا البوادر فيما إذا قرأنا جريدة من التي يسمونها بالممنوعة أو المضرة لئلا يحبس صاحبها شهوراً، وربما أعواماً وكذلك كان شأن من عرف على ذاك العهد بإقتناء الكتب ولاسيما العصرية منها.

فالحمد لله ثم الحمد لله على أن وفق الأمة العثمانية إلى الخلاص من براثن المراقبين والمتجسسين، والشكر الكثير على أن رفع الضغط عن عقولنا فتمكن أعضاء هذه الجمعية من القيام جهراً بما كانوا يأتونه سراً، فأسسوا على التقوى دعائم هذه الغرف ليستقى من مواردها العذبة كل صاد إلى المعارف فقااموا بعمل شريف نم على مداركهم، وسجل عليهم بأنهم رجال أفعال الأقوال، وشيوخ في عقولهم، وإن كانوا شباناً في أجسامهم.

دخل أعضاء هذه الجمعية والحق يقال في روح الإصلاح الحقيقي، وهم يريدون إدخال بني قومهم فيه وعلمتهم دراسة الكتب الحرة والصحف الحرة أننا لا ننهض إذا لم تزل عن أبصارنا غشاوة الجهل المطبق التي سدلها وحرص على أن تبقى مستدلة أبد الدهر أغبياء ولاة الأمر في الدولة السالفة.

علم اخواني القائمون بهذا المشروع الجليل أن في هذا الشعب المحبوب ممن صفت نفوسهم من كدورات البيئة وكثافة المحيط، وأنهم أذكياء مستعدون بالفطرة لقبول كل خير لو أمكنتهم الحال أن يزدادوا علماً ويقتبسوا جديداً، فأنشئوا هذه الغرف، وهم على مثل اليقين من أنهم إذا علموا فيها عشرة أشخاص في السنة يعد عملهم من أقوى أدوات الإصلاح.

أنشئوها وسبلوها على المطالعة والمراجعة وهم مستقلون البذرة التي ألقوها اليوم ولكن تربة دمشق الزكية ستنبتها نباتاً حسناً بل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

هذه الدعوة التي قام بها هؤلاء الإخوان هي التي دعا إليها أستاذنا عالم البلاد العربية الشيخ طاهر الجزائري منذ أربعين سنة دعا إليها ودعوته كانت بسيطة جداً، و كانت عبارة عن كتاب وكتّاب فقام على الرغم من أنف الحكومة الجاهلة ومن وراءها من البله المغفلين الذين كانوا يحرمون تلاوة غير ما ألفوه من الكتب كما كانوا يحرمون الصحف والمجلات فكان نفع الله الأمة بإصلاحه يحبب المطالعة لتلاميذه ومريديه وكل من يتعرف إليه ويختلف إليه من كل مصر ينزله فيغرس غراس الإصلاح النافع بأوراق يوعز بتلاوتها ومدارس يدعو إلى تأسيسها والإقبال عليها.

كان أستاذنا يدعو إلى الترغيب في مطالعة الكتب وإقتنائها أيام كانت تباع بالأرطال على مقربة من غرفكم هذه ويبتاعها منا الغربيون بالمجان ليعمروا بها عقولهم ومكاتبهم ولطالما أشار بالانتفاع من المجلات والصحف وأوعز بعدم الجمود على القشور من العلوم، وكان من بعض أياديه البيضاء على المعارف في هذه الديار تأسيس المكتبة الظاهرية في دمشق، والمكتبة الخالدية في القدس، وسعى إلى جعلهما عامتين ينتفع بما فيهما من الأسفار الخاصة والعامة من كل ملة ونحلة ولئلا يكون العلم وقفاً على طبقة معينة، وليصبح الذاهبون إلى تينك المكتبتين مثالاً مجسماً من أمثلة التسامح وليس كالاختلاط داعياً إلى التآلف والتعاطف وإزالة سوء التفاهم.

فشيخنا الجزائري هو أول من سار على السياسة الحكيمة في التعليم والإرشاد فهو صاحب الفضل المقدم والعضور العامة الأول في جسم نهضتنا السورية ومامنا معاشر شبان هذا البلد الطيب إلا من اهتدى بهديه إن لم يكن مباشرة فبالواسطة فهو الذي اختط لنا خطة الإصلاح وقادنا إلى أكد الطرق في الوصول إليه وكان من سادتي وإخواني أعضاء هذه الجمعية المباركة أن توسعوا هذه الأيام في مضمون تلك الدعوة الطاهرية الطاهرة.

نعم نعم إن السنين تتلو السنين بل القرون تمشي إثر القرون ونحن إذا لم نتدارك أمرنا بيدنا ولم نخرج أولادنا على مناحينا لا نتزحزح عن مكاننا وليس كالتعليم يجبر كسرنا، ويسد نقصنا ومن جملة العهد الذي أخذه الله على العالمين والتعلمين أن يهبوا لتعليم غيرهم ويكثروا كل يوم سوادهم وبدون هذا لا أمل ولا حياة.

فالواجب الوطني الاجتماعي يقضي علينا أيها السادة أن نمد أيدينا للأخذ بناصر أصحاب هذه الفكرة السديدة فكرة إنشاء غرف القراءة ليكتب لها الثبات والبقاء فهم مثلوا لنا بعملهم الشريف صورة مجسمة من الإخلاص والتماسك أبانوا فيها عن آداب رافعة امتزجت بأجزاء نفوسهم فكانوا بما تم على أيديهم هم الفائزين.

المراجع والهوامش:

(1). صحيفة المقتبس - دمشق، العدد الصادر في 19 كانون الأول عام 1908م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى