مقالات
سورِية في أَوراق تشرشل.. كِتَابٌ يُحَمِّلُ تشرشل مسؤولية الثقوب في جسدنا
سورية في أوراق تشرشل - العلاقات السورية - البريطانية 1940 - 1945
شهدت سورية أحداثاً مصيرية خلال الحرب العالمية الثانية التي أزيحت فيها بريطانية كقوة عظمى لصالح ظهور الولايات المتحدة الأميركية التي دخلت في ساحة الهيمنة السياسية العالمية منافسة الاتحاد السوفيتي.
وتعتبر دراسة تلك الأحداث المصيرية التي طالت سورية أو جرت على أرضها من أصعب الأبحاث والدراسات لعدة أسباب، أهمها أنها تتناول مخاض محاولات إنتاج السياسة وطنياً بالدرجة الأولى قبل إنتقال إنتاجها إلى نموذج الحكم الفردي الذي بدا واضحاً في سورية من خلال المغامرات العسكرية لاحقاً، فضلاً عن عدم توفر المصادر الكافية، أو موت تفاصيل كثيرة مع أصحابها.
وفي إطار تلك المحاولات يعد كتاب “سورية في أوراق تشرشل – العلاقات السورية – البريطانية 1940 – 1945” الذي صدر مؤخراً للكاتب الدكتور سامي مبيض محاولة للشروع في تناول محور أساسي وحامل بارز لتطور الأحداث في سورية إستناداً إلى دراسة التأثير والتعاطي البريطاني الأمني والعسكري والسياسي على سورية، ضمن إطار السياسة التي نسجها ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني.
يسلط الكتاب الضوء على علاقة تشرشل بالدولة السورية في أثناء رئاسته الأولى التي امتدت من أيار 1940 وحتى تموز 1945م، دون الدخول في ولايته الثانية لأن الملف السوري يومها أصبح بعيداً عن اهتماماته، التي حصرت بإيران والإنقلاب على الدكتور محمد مصدق، وصعود نجم الرئيس جمال عبد الناصر في مصر.
صدر الكتاب عن “دار رياض نجيب الريس” مطلع شهر أيلول 2024، ويقع في 223 صفحة من القطع المتوسط، توزعت على عشرة فصول وخاتمة حملت عنوان “اللعب بالنار”.
وركزت فصوله على العلاقات وسياسة تشرشل في المرحلة الأولى من رئاسته، الممتدة من أيار 1940 حتى تموز 1945، واستثنى المرحلة الثانية التي كانت اهتماماته موجهة إلى قضايا أخرى مثل إيران وجمال عبد الناصر.
كانت البداية بعنوان “لو فنيت دمشق” العبارة التي نسبت للرئيس القوتلي خلال مقابلته اليتيمة مع تشرشل،وهذه البداية كانت مقدمة عن تشرشل وبداية تعاطيه مع سورية، ومحاولاته التدخل فيها.
وأما الفصل الأول فهو بعنوان :(البدو أولاً ثم التجار)، ويتناول بداية علاقة تشرشل مع دول الشرق الأوسط والمسلمين عموماً، ويرصد فيه الكاتب التحول الذي طرأ على فكره، وتقلبه للدين الإسلامي بعد الرفض. ثم ينتقل إلى موقف تشرشل السياسي والعسكري في نهاية الحرب الأولى وكيف عارض التدخل البريطاني المباشر، ودعى إلى تخفيف وتخفيض الوجود العسكري البريطاني في المستعمرات مع تقويتها مالياً واقتصادياً، ولتنفيذ رؤيته أراد التعامل مع وكلاء محليين تكون تبعيتهم له بشكل مباشر وحصري ويكون ولائهم للإمبراطورية البريطانية، فظهر الأردن والعراق بعد انعقاد مؤتمر القاهرة عام 1921م.
ويعود الكاتب في الفصل الثاني إلى سقوط باريس بيد الألمان، وظروف سورية في عهد حكومة فيشي الموالية للألمان والوعود النازية للسوريين بالاستقلال وإعادة لواء اسكندرون. وعرج على الصراعات والتناحرات الأوربية على الاراضي السورية ومن ثم أحداث تحرير سورية من النازية وإتفاقية عكا عام 1941 التي تضمنت انسحاب قوات فيشي من سورية.
وخصص الفصل الثالث للحديث عن بريطانيا والشيخ تاج الذي عاد مؤخراً إلى سورية بترتيب من قبل الإنكليز بعدما انسحب سابقاً وبهدوء من الفلك الفرنسي، ثم أورد قصة تعيينه رئيساً بدعم من بريطانيا وليس فرنسا كما هو سائد.
والطريق إلى قصر المهاجرين كان عنوان الفصل الرابع، الذي روى تجربة الرئيس السوري الثاني، شكري القوتلي، مع تشرشل ومساعدوه وعلى رأسهم سبيرز.
علاقة القوتلي العميقة مع الجنرال سبيرز خصص لها الكاتب فصلاً كاملاً تناول فيه تدخلات سبيرز في الحياة السورية. وقدم قراءة سريعة لأبرز ما جاء في مذكرات سبيرز عن سورية والسوريين، فمثلاً أورد وصف الأخير لبعض السوريين مثلاً عندما وصف حسني البرازي رئيس الحكومة بتاجر المخدرات.
وجاء الفصل السادس للحديث عن الليدي سبيرز وسيدات سورية ودور العقيلة وتواصلها مع سيدات دمشق، وزوجات رجال الدولة السورية وبناتهم. كما نقل الكاتب بعض ما جاء في مذكراتها مثل وصفها للرئيس القوتلي وللسيدة عقيلته بهيرة الدالاتي، ولم يغفل الكاتب هنا الإشارة إلى وفاة أسمهان وماذا قال سبيرز عن وفاتها أو عند قتلها.
وأما الفصل السابع فقط تناول لقاء تشرشل والقوتلي في السابع عشر من شباط عام 1945 في مقر السفارة البريطانية بالقاهرة، وظروف هذا اللقاء. وأورد المؤلف روايات ما جرى أو محاضر الاجتماع، حيث انفرد بنشر تفاصيل الإجتماع إستناداً إلى محاضر الإجتماع الأصلية المحفوظة في مركز الوثائق البريطانية في لندن، وقد أوردها بالفصيل. كما أورد الرواية السورية التي نقلها نصوح بابيل نقيب الصحفيين عن القوتلي، ونشرها في كتابه.
الاستخبارات والشائعات كانت موضوع الفصل الثامن الذي تحدث عن انعكاس لقاء تشرشل مع القوتلي ليس على الصعيد السياسي مثل أعلان القوتلي الحرب على دول المحور إلى جانب الحلفاء، بل على مختلف مناحي الحياة. وفي هذا الفصل أيضا تحدث عن عدوان 29 أيار وتعاطي تشرشل مع الحدث ومن ثم دور بلاده في إخراج الفرنسيين من سورية.
وأما دور بريطانيا في جلاء القوات الأجنبية عن سورية فكان موضوع الفصل التاسع، الذي تضمن بعض المراسلات التي جرت بين القوتلي وتشرشل حول مباحثات الجلاء، ومن ثم الدعوات التي وجهت إلى تشرشل للاحتفال بهذا الحدث الكبير ورد تشرشل الذي خيب آمال القائمين على الأمر في سورية.
وكان الفصل العاشر والأخير بعنوان : (الكولونيلان فوكس وستيرلينغ)، تحدث هذا الفصل عن الانعطافة التي شهدتها العلاقات مع بريطانيا بعد دعم بريطانيا لقرار التقسيم في فلسطين وموقفها الداعم له. وكيف فتحت سورية أبواب وزاراتها للمستشارين الإنكليز ومنهم غورودن فوكس الذي عين مستشاراً لرئيس هيئة الأركان العامة. ثم تناول هذا الفصل تفاصيل عن ستيرلينغ الملحق العسكري البريطاني الذي كان ضابط استخبارات سابق في سورية، والذي تحول إلى الصحافة وعمل مراسلاً لصحيفة “التايمز” لإخفاء تحركه.
أهمية الكتاب:
يعد الكتاب مرجعاً قيماً لفهم السياسة البريطانية تجاه سورية والعراق في فترة الحرب العالمية الثانية. ويكشف النقاب عن جوانب تاريخية هامة أغفلتها أو وردت إشارات فقط عنها في المراجع العربية التي تناولت أحداث تلك المرحلة.
كما يشكل محاولة لتقديم قراءة وتحليل للعلاقات البريطانية وسط تداخل الأحداث على أكثر من مستوى، المستوى الإقليمي والدولي والعربي، ومستوى حركة التاريخ والمعايير العلمية الموضوعية الناظمة لها وخاصة على الصعيد العربي.
ما يميز الكتاب اعتماده على الأرشيف الوطني البريطاني، مراسلات تشرشل، وشهادات من مستشاريه الرئيسيين، مثل السفير إدوارد سبيرز. كما استند إلى المحاضر الأساسية لاجتماعه الوحيد مع الرئيس السوري شكري القوتلي عام 1945، بالإضافة إلى مذكرات القوتلي الصوتية غير المنشورة.
والكتاب في أحد جوانبه إعادة نظر للأحداث أو يقدم نظرة أخرى للحدث الذي كتب عنه باتريك سيل حول الصراع على سورية بين بريطانيا وفرنسا وأميركا.
بالإضافة إلى ما سبق فإن الكتاب كشف جوانب تاريخية فسرت بعض الأحداث في تاريخ سورية مثل نفي القوتلي إلى العراق في بداية الحرب الثانية، والتي فسرت باجتماعه في وقت سابق مع أحد أعوان هتلر في سورية “فون شيراخ”، الذي تعهد للكتلة الوطنية بتنفيذ عدة مطالب منها استعادة لواء إسكندرون وإبطال وعد بلفور.
أتبع مبيض في كتابه الجديد أسلوبه التوثيقي – السردي الذي ربما تخطى بعد التفاصيل التي لا تشكل بمفردها حقيقة، والهدف كان عدم جرح مشاعر الآخرين، ومن هذه التفاصيل ربما التي وردت في أوراق تشرشل حول الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وغيره، وربما أيضا هذا ما يفسر إغفال الإشارة له في الكتاب الذي يغطي مرحلة كان للشهبندر دوراً كبيراً فيها، انتهت باغتياله.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى توصيف الكاتب لتشرشل إستناداً إلى أوراقه، فيرى أن تشرشل يتحمل شخصياً مسؤولية كثرة الثقوب في جسد هذه الأمة، وفي هندامها الممزق، الذي لم يعد بوسع آحد أن يرقعه.
بهذه العبارات اختتم الكاتب الدكتور سامي مبيض كتابه الجديد والذي يلحظ القارئ فيه تداخل ما بين تحليلات واجتهادات المؤلف وما ورد في أوراق تشرشل.
انظر:
“سكة الترامواي طريق الحداثة مرّ بدمشق” .. كتاب يوقظ فينا الحنين ويوئد الأمل
“سكة الترامواي طريق الحداثة مرّ بدمشق” .. كتاب يوقظ فينا الحنين ويوئد الأمل
عبد الناصر والتأميم ووقائع الإنقلاب الإقتصادي في سورية