وثائق سوريا
كلمة شكري القوتلي بعد أداء القسم رئيساً عام 1948
كلمة شكري القوتلي بعد أداء القسم رئيساً عام 1948
نص الكلمة:
حضرات النواب المحترمين
أرى وأنا مدعو باسم الدستور إلى أداء القسم المعظم بعد أن جددت هذه الأمة ممثلة في دار ندوتها رآستي للجمهورية السورية، أن أمهد للقسم العظيم ببيان أعرض فيه لمحات من الحديث عن تلك السنين الخمس التي اضطلعت في أثنائها بالرئاسة الأولى.
وأن أعرض كذلك لمحات من الحديث عما أهدف إليه وأعمل في سبيله في إبان الرئاسة الثانية، مستلهماً في ذلك تاريخ الوطن، ومطامحه السامية، ومثله العليا متكلاً على الله، مستنداً إلى ثقة الشعب، معتمداً على روح الأمة، ومسترشداً بتجارب الماضي، مستنيراً باقباس الإيمان الراسخ بأنه مهما أدلهمت الخطوب، وطالت حلكة الليل، فإن المستقبل للعرب، وأن مطالع المجد العربي الآتي نجدها إن شاء الله في أعقاب هذه المحن.
منذ سنوات خمس، وفي مثل هذا اليوم، ألقت هذه الأمة الكريمة على كاهلي أمانة مقدسة، استعنت بالله القادر، وبروح الأمة على أدائها.
وكلكم تذكرون وسط أية أعاصير سارت السفينة، وكلكم تعلمون من نبأ تلك العواصف من أعلم، فلم تكن البلاد تتمتع بسيادتها، ولم يكن لها من الاستقلال حتى اسمه، ولا من السلطان القومي حتى رسمه، ودخلنا في دور نضال شاق اقتضى دأباً وحزماً وسهراً، وتطلب حكمة وهمة وحذراً، وظللنا نننزع الصلاحيات من السلطان الأجنبي انتزاعاً، ونمارسها ولما يتقلص ظله، حتى كانت أزمة تسليم الجيش، وكان التعنت من الجانب الأجنبي، وصلابة من الجانب الوطني، وإصرار من لدنه على منحه القواعد العسكرية وعلى التقاعد حول ما أسماه بالمصالح الجوهرية، وإباء من جانبنا غير مشوب بتردد، وعزة لا يعتريها وهن، وقطعت المفاوضات فلاذ بالاستفزاز، واعتصمنا بالصبر، ثم كان العدوان ينصب على الآمنين في كل بلد، فما فت في العضد، وما أوهن الجلد، فكانت مجزرة أيار واستهدفت الندوى للتدمير، وسدنتها للقتل والتمثيل.
فوقفنا الوقفة التي يرضى عنها الشرف، وغضبنا الغضبة التي تمليها الكرامة، وظللنا ندعو إلى الثبات، ونبث روح المقاومة، غير غافلين عن هز الضمير العالمي، في المحافل الدولية، ومناشدته النصرة، وتأليبه على قوى الشر، منتهزين ما كان من مبادئ الحرة في أعقاب الحرب من حرمة علمتنا مأساة فلسطين أنها كانت مصنوعة غير أصلية، ووالينا الرحلات إلى الأقطار العربية الشقيقة، فيوما في الحجاز وآخر في مصر، ويوماً في العراق وآخر في لبنان، واجتمعنا بأولى الأمر منهم، وبأقطاب من ساسة الحلفاء المنصورين في سلك المنظمة الدولية وشفعنا ذلك بجهود دبلوماسية محكمة دائبة، أسفرت عن تبؤئنا مكانتنا في مؤتمر سان فرانسيسكو واشتراكنا في وضع ميثاقه، ورحنا ننشد الآخذ بمبادئه في قضيتنا العادلة.
ولكن الأجنبي أصر على موقفه، واشتط في عناده، فاستلهمنا يقظة الأمة، وصلابة نوابها في الاعتراض عليه، والتنديد به، والشكوى لدى مجس الأمن منه، حتى حملنا ذلك المجلس على التوصية بالجلاء.
واشتركنا أثناء ذلك كله في الجهود التي بذلت لتأسيس الجامعة العربية، ونفخر أننا وقفنا في هذا المجال القومي الوقفة المرجوة من بلاد هي مهد الفكرة العربية، ومكان عودتها، واستوائها على سوقها، مثوى الطلائع من شهدائها، وشاء الله لهذه الجهود كلها أن تكلل بالظفر، فكوفئت سورية على عظيم تضحياتها، وعديد شهدائها وقوة يقينها، وصدق بلائها، بجلاء الجيوش الأجنبية جلاء تاماً غير مقيد بشرط، ولا منوط بقيد.
واحتفلنا واحتفلت الدنيا العربية معنا يوم الفتح الأغر في السابع عشر من نيسان سنة 946، وجعلناه عيداً وطنياً، واتخذناه مفتح عهد جديد، وفجر بناء وإنشاء، وتشييد غير ناسين ما تعقده الدنيا العربية علينا من رجاء وما تنطيه بنا من أمل، وأن علينا رسالة قومية سامية لابد لنا من شرف أدائها.
ولقد أخذنا نعني بترقية البلاد واعلاء مستواها، وادركنا يقيناً أن العمل الإنشائي العمراني يتطلب جهوداً قد تكون أشق مما بذلنا للظفر بالاستقلال، ولاسيما أن الأمة العربية، هي في مطلع نهضتها حديثة العهد بممارسة سيادتها، وليس الهدم كالبناء، ودور الانتقال أدق الأدوار وأشقاها بل هو أخطرها وأجلها والاستقلال أداة خير وواسطة اسعاد وسبيل رقي وضمانة عزة.
وشرعنا نعمل في حقل الإصلاح، وقطعنا في مضمار الرقي ما استطعنا من أشواط، ففي المعارف مثلاً أبدلنا ما وضعه المستعمرون من مناهج قومية، وازداد عدد المعاهد ازدياداً ملحوظاً وفجرنا ينابيع العلم للناهلين، حتى تضاعف عدد رواده اضعافاً وأرسلنا البعثات إلى مختلف الأنحاء.
وفي المجال الاقتصادي لم نأل جهداً في تشجيع إنتاج البلاد وتسهيل الشؤون التجارية فتأسست عشرات من الشركات، وقامت مشاريع صناعية وزراعية عديدة، ونعمنا في قضائنا بزوال الامتيازات الأجنبية والقضاء على المحاكم المختلطة، وأصلحنا الجهاز القضائي، ووضعنا عدة قوانين إصلاحية خطيرة هي في دور الإنجاز.
وفي الشؤون الإجتماعية وضعنا قانوناً للعمل نعم العمال بالملموس من آثاره وعنينا بمكافحة الأمراض واشترعنا القوانين والأنظمة الصحية.
ولا أحدثكم عن العمران وما شدنا من دور للعلم، ومن مستشفيات ومصحات، وغيرها من المؤسسات العامة على أن ذلك كله لا يمنعني من الجهر بأن الشوط الذي قطعناه في مضمار التقدم، هو دون ما ننشده، ودون ما نطمح إليه، وكلها نأمة تبدو في مجال الانتقاد الصحيح القائم على نزاهة القصد وصحة المنطق إنما هي آية ما في نفوس الأمة من رغبة الوثوب، ونزعة التسامي، وجب أن تلقى من لدن السلطات الحاكمة ما تستأهله من اهتمام، ولا يضير الأداة كبوتها، وإنما يضيرها أن تسترسل في الخطأ وأن تمعن فيه وأن تصدق عن الإصلاح والا تأخذ العبرة من التجارب، وهذا ما أرجو أن ننزه أنفسنا عنه.
على أن جهدنا في الميدان السياسي الخارجي جاء متفقاً مع طموحنا فقد أصبنا فيه نجاحاً ملحوظاً ورأى العلم أن سورية حين تبوأت مكانتها عضواً في مجلس الأمن قد استطاعت أن تؤدي في كفاية واخلاص للحق رسالة سامية وللأخوة القومية خدمة مذكورة “تصفيق”.
أيها السادة أرجو أن نوفق في عهد الرئاسة الثانية إلى إصلاح مالم يتم إصلاحه في عهدنا الأول، وأن نستفيد من التجارب الماضية، وإني لأرجو فيما أرجو أن يتم إصلاح الجهاز الحكومي إصلاحاً يكفل لنا المقدرة على النهوض في هذا الوطن، والسير فيه نحو العلاء.
حقاًُ، إن واجب الواجبات أن نعمل ما استطعنا، لرفع مستوى الأمة العلمي والاقتصادي والاجتماعي، وأن يكون عملنا وليد الدرس لا الارتجال وأن نلوذ فيه بالاختصاص وبقواعد العلم والفن، وان نفسح المجال أمام الأقليات، وما أنا الآن بسبيل رسم الخطط للمستقبل ولا بتلاوة منهاج حكومي فذلك شأن الحكومة تعرضه عليكم وتقولون فيه كلمتكم، ولكنني أحببت أن أطلع الأمة ممثلة في نوابها على ما يجيش في صدري، وما ترمي إليه جهودي، رجاء أن اطمئنها إلى أن الرجل الذي وضعت فيه ثقتها وسلمته أمانتها لن يتردد في أداء الأمانة ولن يحنث بعهده الذي عاهدها عليه من سير مصلحتها ودأب في سبيلها.
أيها السادة:
لقد أشرت إلى جهودنا في تأسيس الجامعة العربية، وأرى لزاماً علي أن أدعو إلى تقويتها، وإلى توطيد أركانها، وإلى السير بها قدماً حتى تستطيع أن تصبح في هذه الأزمات الدولية عزيزة الجانب موفورة الحساب، وحتى تتهيأ لها الوسائل التي تجعلها أداة صالحة فعالة لتوحيد جهود العرب وتنظيمها وتوجهها.
وقد علمتنا الأحداث الأخيرة أنه لن ينجينا نحن العرب من أية محنة تنزل بنا سوى اعتصامنا بحبل اتحادنا وتعاوننا تعاوناً جدياً وثيقاً، نرجو أن تكون الجامعة العربية بحاله الرحب وميدانه الفسيح “تصفيق”.
وسورية التي تقدس أواصر العروبة وتربطها بشقيقاتها العربيات لن تتقاعس عن كل ما يمكن هذه الأواصر، وما يقويها وما ينميها حتى تستطيع هذه الأمة الحيلولة دون الاستهتار بها، ودون الاستهانة بوجودها.
أيها السادة:
إن أخطر ما أحدثكم عنه هو قضية فلسطين العزيزة، إن قضية فلسطين هي الشغل الشاغل الذي يستأثر منا بالجهد الأول، بل بالجهد كله.
إننا نعلم أن الدفاع عنها وإنقاذها لا تفرضه الأخوة القومية فحسب وليس هو استجابة لصرخة الدم، واستغاثة العروبة الجريحة..
إنه دفاع عن سورية نفسها “تصفيق” وإنقاذ لمستقبلها.. إنه دفاع عن شرف الأمة العربية وكرامتها.. إنه دفاع عن مستقبلها ووجودها ..
وعلى ضوء هذا الإدراك التام لحقيقة القضية الفلسطينية ومدى خطورتها، أخذت سورية على نفسها أن تبذل فوق الجهد، وأن تضحي بالأنفس والأموال والثمرات في سبيل إنقاذ فلسطين.
ولا يجدي الآن أن أحدثكم عن الجهود التي بذلناها في الحقل السياسي، ولا عن مواقفنا فيما عقد من مؤتمرات وإجتماعات ولا عن عظيم مساهمتنا المادية في كل عمل أريد به إنقاذ فلسطين، ولا أسهب في الحديث عن مدى إهتمامنا ورعايتنا للأخوان الذين أخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً فلجأوا إلينا نجاة بأنفسهم من التنكيل الوحشي الذي اثر عن العدو، ونزلوا بيننا ضيوفاً أعزاء فكلكم تعلمون أن سورية ضربت في هذا الشأن بالسهم الأوفر، وكان نصيبها من هذا الواجب التنصيب الأضخم.
وهنا استمطر شآبيب الرحمة علىى شهدائنا الأبرار الأخيار الذين افتدوا فلسطين بدمهم وضربوا لنا وللأجيال القادمة أشرف الأمثال ببسالتهم وتضحياتهم، فسلام عليهم في الخالدين، وهنيئاً لهم رضوان الله مع الصديقيين.
وتحية طيبة أزجيها باسمي وباسمكم إلى جيشنا المرابط على الحدود “تصفيق”، قادة وضباطاً وجنوداً مشيداً بشجاعته منوهاً بصدق بلائه وبسالته، وأزجي مثلها إلى جيوش الدول العربية الشقيقة التي آلت على نفسها ألا تغادر فلسطين حتى تنجو من ظلم الظالمين.
وبعد فهذه قضية فلسطين في المرحلة الخطرة الدقيقة من أدوارها ووجب الجهر على الملأ أن سورية لن تتخلى في حال عن واجبها لإنقاذ فلسطين، واستخلاصها، كما وجب القول الأكيد الجازم أن المعركة لما تنتهي، وليس فينا من يزعم أنها انتهت، فإذا وجد فهو انهزامي مزعزع العقيدة ضعيف الإيمان أجدر بصفوفنا أن تظهر منه.
إني أؤمن إيماناً لا يتزلزل بأنه مهما طال أمد المحنة، وأدلهمت الخطوب وتآلبت علينا قوى الشر، فلابد لحقنا من أن ينتصر وفي التاريخ عبرة للمعتبرين.
ولا يوهنن من عزائمنا أن نرى دولاً كبرى لعوامل مختلفة تؤازر الصهيونية الباطلة، وإنما ذلك يحفزنا إلى مضاعفة الجهد ويرينا أن سبيل الخلاص لن يكون إلا بتكاتفنا نحن العرب، ووحدة كلمتنا وانسجام خططنا وجودنا بالأموال والأرواح في سخاء تتطلبه معركة هي معركة الحياة أو الموت.
إنني هنا في حرم الندوة وتحت قبة البرلمان أقطعه عهداً أمام الله وأمامكم أن لا آلوا جهداً في الكفاح المسمر الدائب لإنقاذ فلسطين، وعلى ما أقول شهيد وبالنصر المبين كفيل.
“تصفيق حاد”
قلت أيها النواب أن المعركة لم تنته، وقد تكون شاقة وطويلة، وسواء قصر أمدها أو طال فنحن نخوضها بإذن الهل دفاعاً عن حقنا غير هابين ولا وجلين.
وهمنا الأول أن نوفر للمعركة وسائل النصر، ويقيني أن البرلمان السوري يدرك كل الادراك ما يستطيع أن يقوم به من عمل وما يستطيع أن يحققه من آمل، ويقيني كذلك أن حضرات النواب المحترمين يعلمون أن الظرف العصيب أخطر من أن يشغل أنفسنا في غير العمل للنص وأجل أن يحتمل انصرافاً إلى الجزئيات من الأنشغال في الثانويات من الشؤون، ونواب سورية باتحادهم وتضامنهم بائتلافهم وتعاونهم بعملهم المشترك إنما يستجيبون لمقتضيات الظرف الخطير ويمثلون حقاً روح الأمة الأبية وضمير الوطن الواعي، وهذا هو صوت النذير يدعوننا إلى إعداد العدة للخلاص، ويهيب بنا أن نكون جميعاً صفاً واحداً مرصوصاً لا صدع فيه ناسين نزعاتنا الخاصة مجردين من هوى النفس متعالين عن كل ما يشوب وحدة الصفوف لا نبتغي في كل ما يصدر عنا من جهد غير وجه الله والوطن.
“تصفيق”
حضرات النواب المحترمين:
قلت إن معركة فلسطين هي معركة الحياة أو الموت بالنسبة لنا وللعرب أجمعين.. ولابد لنا نحن الذين ندرك خطورتها من تأدية واجبنا فيها خير أداء.
ولعلني ألخص هذا الواجب بكلمة واحدة هي “التعبئة” فنحن ملزمون بأن نسارع إلى تعبئة قوانا كلها “تصفيق”.
وتجنيد كفاياتنا كلها وتحشيد إمكانياتنا كلها في سبيل النصر ولسنا في هذا بمتجنين ولا نحن بدعاة حرب أو معتدين، ولكننا رواد سلم ودعاة آمن ندافع عن أنفسنا كله، هذا السلام الذي هددته الصهيونية وعبثت في ديار هي مهد السلام ومهوى أفئدة المؤمنين من مسلمين ومسيحيين “تصفيق”.
ونحن ملزمون بأن ندعو كل فرد في هذه الأمة إلى أداء واجبه الأقدس.. فما يصح أن يتقاعس رجل أو امرأة، شيخ أو فتى عن المساهمة جهد الطاقة في مجهود النصر.
إن موازنة السلم وضرائب السلم، واشتراعات السلم وأساليب السلم لن تكسبنا النصر فلابد إذاً من تبديل شامل يؤدي إلى وضع كل موارد الدولة، وقوى الأمة في خدمة الجهاد الأقدس حتى يجئ نصر الله والفتح “تصفيق”.
وإني أهيب بكل فرد في هذه الأمة أن يدرك ما عليه في معركة الإنقاذ من واجب فيسارع إلى أدائه، فإذا أدى كل واحد منا واجبه واستجاب لصرخة الشرف كتب الله لنا الفوز ولأعدائنا الخسران المبين.
أيها السادة:
إني على ضوء ما أسلفت ويقيناً بأني وأجد من البرلمان عوناً وتأييداً ومن الحكومة عزماً وتصميماً ومن الأمة بهيئاتها وصحافتها وشيبها وشبابها استجابة وتضحية وتعضيداً، وعلى ضوء ذلك أتقدم في خطى المؤمن بالله الواثق بروح الأمة لأداء القسم العظيم.
“تصفيق”