وثائق سوريا
كلمة لطفي الحفار في حفل تأبين الشريف حسين بدمشق عام 1931
كلمة لطفي الحفار في حفل التأبين الذي جرى بمناسبة الأربعين على وفاة الشريف حسين بدمشق في الثالث عشر من تموز عام 1931م.
نص الكلمة:
في عهد عبد الحميد والجاسوسية تبسط ظلها الثقيل، وظلامها القاتم على جميع الأرجاء والأنجاء ومحاربة الفكرة القومية من أقوى الدعائم التي يقوم عليها بنيان دولة الظلم والإرهاب.
في ذلك العهد الذي كان حرباً على كل حركة قومية أو فكرة حرة كنا على مقاعد الدرس نهمس في تمجيد العرب ولغتهم ونرجع فيما بيننا في زوايا البيوت ورؤوس الجبال إلى درس تاريخ الأمة العربية ورجالها، وقوادها وشعرائها والدعوة للانضمام إلى هذه العقيدة القومية، وكان يعد ذلك وقتئذ جريمة كبرى ترتعد من أجلها الفرائض.
كان رجل النهضة العلمية يومئذ أستاذنا المرحوم الشيخ طاهر المغربي الجزائري يشجعنا ويبث هذه الفكرة بمختلف الأساليب والوسائط المعروفة عنه وكان تلامذته في مصر والآستانة ودمشق يعملون في الخفاء حتى تمكنا ونحن بصفة عشر شاباً من تأسيس جمعية النهضة العربية، ولكنها لم تكن لتسطيع أن تعمل عملاً منتجاُ وسيف الجاسوسية والإرهاب مصلت فوق الرؤوس، وكان سير هذه الفكرة يقتصر على بثها وإلقائها بين تلامذة العرب الذين نتأكد ميلهم وشغفهم لذكر شيئ من أمجاد الأمة العربية ولكن مثل هذا العمل الضئيل لا يؤدي إلى النتيجة التي نتحمس من أجلها والدولة العربية كل آمالنا، وما في هذه الأمة ذات المجد الأثيل قدوتنا.
سير ضعف وآمال تائهة وشباب متحمس ليس إلا. ثم أعلن الدستور العثماني فاحتفلت به جميعة الاتحاد والترقي في دمشق، وفي اليوم التالي أعلنت أول جمعية قومية جمعية النهضة العربية نفسها، واحتفلت بإعلان الحرية في مقهى القوتلي. وكانت من خطباء تلك الحفلة ومن الذين استشهدوا في سبيل هذه العقيدة المرحومين سليم الجزائري، وأسعد الطرابلسي، جرجي حداد، وصلاح الدين القاسمي، والأمير عادل الشهابي، ومن الأحياء السادة الدكتور شهبندر، محب الدين الخطيب، رشدي الحكيم، سامي العظم، وهذا العاجز خطبنا وهتفنا للحرية.
ونحن لا نكاد نصدق أننا نستطيع أن نهتف لإعلان الحياة النيابية ومن ورائها نسعى لتحقيق الهدف الأسمى والغاية المقدسة ثم قام بعض رجالات العرب والضباط العسكريين بتأسيس الجمعيات العربية الأخرى.
توالت الحوادث التي لا مجال لسردها الآن وأعلنت الحرب العامة وانخرطت الدولة العثمانية في أوارها، وكانت الفكرة القومية تتقدم وتنمو وأصبح معظم الشباب المتعلم من أنصارها والعاملين في سبيلها، وكانت حركة النادي العربي في الآستانة التي قام بها تلامذة العرب المتحمسين للقضية العربية وعقد المؤتمر العربي في باريس من الرجال العاملين للمطالبة بحقوق أمتهم وبلادهم والدور لا يزال دور النشوء والتدرج.
وفي هذه البرهة من الزمن والحرب العامة تتلظى في الشرف والغرب قام جمال باشا السفاح كما تعلمون يعمد إلى وسائل الضغط والإرهاب والإبعاد والإعدام وكان يخشى نتائج هذه الفكرة القومية التي ربت ونمت وهو لا يدري كيف يحاربها.
فرصة عظيمة قد اتيحت والعمل الواجب قد دق وقته وانصرفت الآمال تحوم حول الأمير العربي الشريف الرابض في بطحاء مكة لإعادة تلك الدعوة العربية المقدسة التي قام بها جده النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك الدعوة التي نشأت من تلك البقاع الطاهرة.
لم تخب آمال هذه الأمة بفقيدها الحسين بن علي، ولم ينقطع حبل الرجاء من إعادة بنيان الدولة العربية المتهدم لأنه قام معلناً ثورته الكبرى بإيمانه الصلب وعزيمته القوية وسار في سبيل الله يحمل وراءه الغاية المقدسة.
انتقلت القضية العربية بعد أن كانت تمشي مشي السلحفاة أولاً وبعد أن دخلت في دور الدعوة والتقدم ثانية، انتقلت بفضل هذه الثورة المقدسة، وأصبحت في دور عملي دقيق. تلك الوثبة الكبرى التي تقدمت بالقضية العربية تقدماً عظيماً وانتقلت بها من دور الأمل والخيال إلى دور التأسيس والأعمال.
هنا موضع العبرة وموقف التذكير والتفكير.
أيها السادة:
أنا اعتقد أن جميع الذين رافقوا تطور القضية يعتقدون معي أن ثورة الحسين بن علي قد تقدمت بالأمة العربية، بتحقيق أغراضها الكبرى ربع قرن على الأقل فهو الذي وضع دعائمها ونادى بتأسيس الدولة العربية وبحقوق أمته وبلاده في الفرصة المناسبة وهو الذي أخلص لها الإخلاص التام وناضل وراء تحقيق غاياتها السامية نضال الأبطال وكان المثل الأعلى في التضحية بمعناها الحقيقي، وكان هو وعرشه وآله ضحية ثباته واخلاصه في خدمة أمته وبلاده وكفى.
ولا عجب إذا رأينا الأمة العربية في جميع أقطارها تحتفل في هذا اليوم بذكرى هذا الملك العظيم لتتخذ من ذكراه درساً عملياً في جهادها الآتي وإذا كان الزمن لم يساعده لتحقيق ما سعى إليه فيكفيه أنه كان واضع الأساس لبنيان الدولة العربية التي نادى بها، واحتفظ بحقوقها وأحلها محلاً دولياً، وحياة الأمم والشعوب كما تعلمون لا تقاس بعشران السنين.
وهذه الأمة الألمانية والإيطالية وتاريخهما يشابه كثيراً ماضينا وحاضرنا وأرجو الله أن يكون التشابه تاماً في مستقبلنا وأعظم مثال لنا، فعلينا أن نتابع العمل، وأن نقتدي بإخلاص هذا المليك الجليل وثباته وقوة إيمانه فإذا قام كل منا بواجبه وإذا غرسنا في قلوب أبنائنا وأحفادنا مبادئ ثورة الحسين بن علي والعمل في سبيلها، وإذا تضافرت أيدي ملوك الأمة العربية وأمرائها وزعمائها وكلهم يعمل في هذا السبيل بإخلاص، وإيمان فستذكر الأجيال المقبلة مليك العرب الحسين بن علي كما تذكر إيطاليا غاريبالدي وكافور، وقد جعلوا من إيطاليا الممزقة وطناً إيطالياً موحداً.
وكما يذكر الألمان بسمارك مؤلف الاتحاد الألماني، وسيأتي في المستقبل أمثال هؤلاء القادة من رجال الأمة العربية من يعمل عملهم ليتم هذا البنيان الذي وضع أساسه الحسين بن علي مادمنا نقدس اخلاصه ونقتدي بأعماله، والأعمال الكبيرة في التاريخ لا تكون لحاضرها بل لمستقبلها.
المراجع والهوامش:
(1). حفل تأبين الشريف حسين بن علي في دمشق عام 1931
(2). صحيفة البيرق- لبنان، العدد الصادر في 15 تموز عام 1931م.
المراجع والهوامش:
(1). حفل تأبين الشريف حسين بن علي في دمشق عام 1931
(2). صحيفة البيرق- لبنان، العدد الصادر في 15 تموز عام 1931م.