هاشم الأتاسي حياته – عصره ..
مقدمه
لم يكتب هاشم الأتاسي أية مذكرات خلال حياته المديدة، كما لم يصدر أيّ كتاب خاص عن مجمل حياته، بالرغم من أهمية شخصيته تاريخياً والأدوار القيادية الكبيرة التي قام بها في سوريا والأقطار العربية المجاورة خلال أكثر من ستين عاماً، وفي أوقات حاسمة لمفاصل تاريخية مهمة.
ومنذ فترة طويلة يحثني الكثير من الأصدقاء والأقرباء أن أقوم بكتابة سيرة حياة هاشم الأتاسي، لمعرفتهم باهتمامي بالتاريخ، ولظنهم بأنني كحفيد هاشم الأتاسي أملك الكثير من المعلومات والوثائق والصور عن حياته، وبالتالي يمكنني المشاركة في توضيح وإنارة بعض المفاصل المهمة في تاريخ سوريا الحديث.
لكنه لم يجمع وثائقاً أو صوراً لنفسه، ولا أبناؤه جمعوا له، مع الملوك والرؤساء وغيرهم من الزعماء، كما يفعل معظم الزعماء أو أبناؤهم، فهو وأبناؤه لم يهتموا بذلك، وما بحوزتي من وثائق وصور قليل.
من ناحية أخرى، كنت أفضل قيام أي شخص آخر مختص بالتاريخ الحديث لسوريا، يتميز بالموضوعية والدقة التاريخية والتجرد ولا يمت بصلة قرابة لهاشم الأتاسي بكتابة سيرة حياته، فلا ينتقص أحد من موضوعية الكتاب. وقد تعودنا مع الأسف، في بلادنا الكتابة الدعائية في مثل هذه السير الذاتية التي تهتم بشكل أساسي بتعظيم صاحب السيرة.
ومن جهة أخرى لكي لا يمسني أنا شخصياً أي شعور بأنني أكتب هذه السيرة الذاتية لجدي بغية التفاخر العائلي أو لعصبية عائلية أو غيرها، فقد كنت دائماً أنا وإخوتي وأبناء عمي بعيدين عن كل أنواع الزهو والتفاخر، ونذكر دائماً بيت الشعر القائل:
لا تقل أهلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد فعل
لكن أحداً آخر لم يقم بهذا العمل.
خلال أعوام عديدة مضت قرأت كثيراً من الكتب التاريخية الاختصاصية، العربية والفرنسية والإنكليزية، وقد نُشرت أخيراً في بعض هذه الكتب وثائق تاريخية فرنسة وإنكليزية عن فترة الانتداب الفرنسي على سوريا، أفرج عنها أخيراً بعد أن كانت محفوظة بشكل سرّي وغير مسموح بنشرها.
كما قرأت الكثير من المذكرات بالعربية لبعض رفاق هاشم الأتاسي في الجهاد من الرعيلين الأول والثاني ومن الأجيال الأصغر سناً التي مارست العمل العام خلال حياته.
وكنت، وبسبب ولعي بالتاريخ منذ طفولتي، أستمع دائماً باهتمام بالغ لكل ما يذكره والدي أو أعمامي أو بعض من أصدقاء والدي ممن شارك في الحياة العامة في وقت ما خلال حياة جدي من أحداث تاريخية، وأحفظ في ذاكرتي تفاصيل هذه الأحداث كما رُويت.
فقررت منذ عدة أعوام كتابة سيرة حياته.
كنت أكتب بعض الفقرات ثم أنشغل بأمور أخرى في حياتي المهنية الأصلية كمهندس، وأنقطع عن الكتابة لفترة من الزمن. ثم قررت أخيراً إنهاء هذا الكتاب.
خلال كتابتي حاولت قدر المستطاع التزام الموضوعية والصدق والتجرد من أية عاطفة في سرد الأحداث. ولم يكن لي أية غاية أو غرض سوى استذكار الحقيقة، فكنت أقارن بين مختلف الروايات لكل حدث، وأدقق التواريخ والوقائع آخذاً بعين الاعتبار مدى مصداقية الكاتب المنقول عنه هذا الحدث، وأحاول ترتيب هذه الوقائع بشكل زمني، ثم أقارن بينها وأحللها وأعلق عليها بمنطق ناقد عقلاني دون الوقوع في فخ القناعات المسبقة أو الأفكار الجامدة الجاهزة.
ومع أن أحداً لم يحاول النيل من هاشم الأتاسي، بل احترمه وقدره كل من كتب في تاريخ سوريا تقريباً، إلا أن أحداً لم يكتب عنه بشكل دعائي اصطناعي، كما كُتب عن البعض من وطنيي الرعيلين الأول والثاني ومن أتى بعدهم. وفي كثير من الأحيان أُهمل ذكر مواقف هاشم الأتاسي المشرفة لعدم التغطية على هؤلاء المكتوب عنهم والمراد مدحهم، فبولغ أحياناً في تعظيم صفاتهم الحميدة، ومنحوا أحياناً أخرى من هذه الصفات ما لا يملكون، ولم يُذكر شيئاً عما أخذ عليهم.
قد يكون من أسباب ذلك عدم اهتمام هاشم الأتاسي أثناء حياته بالدعاية الشخصية له، فهو كان بطبيعته متواضعاً وينفر من مظاهر العظمة والتعظيم القريبة إلى نفوس معظم زعماء دول العالم الثالث.
كما كان في حياته حريصاً جداً على المال العام، ولم يكن يوزع آية منافع مادية أو معنوية على أي كان..
قد يكون من أسباب ذلك أيضاً كونه مستقلاً غير حزبي خلال حياته. فلا يمكن اعتبار رئاسته للكتلة الوطنية بشكل دائم منذ تأسيسها بهدف توحيد جميع الوطنيين السوريين المناضلين في سبيل نيل سوريا وحدتها واستقلالها، عملاً حزبياً سياسياً عادياً. ولما تحولت الكتلة الوطنية إلى حزب سياسي، بعد توقيع معاهدة الإستقلال وانتخابه أو رئيس جمهورية وطني وتولي قادتها المناصب الرئيسية في سوريا (1936 إلى 1939) واختلافهم مع بعض الوطنيين العائدين من المنفى، لم يدخل طرفاً بالخلاف وبقي على صلة طيبة مع خصوم الكتلة الوطنية من الوطنيين الآخرين، بل دافع عنهم أحياناً وحماهم.
فهو أراد دائماً أن يكون موقع رئاسة الجمهورية فوق الخلافات الحزبية والشخصية، والسياسات الداخلية الضيقة الناتجة عن اختلاف وجهات نظر السياسيين أو تضارب طموحاتهم.
لم يكن لهاشم الأتاسي أي خصم بين الوطنيين مهما اختلفت آراؤهم ومشاربهم وأحزابهم وقناعاتهم، كما لم يكن له مريدون (زُلْم بالعامية) يمتدحونه ويتبعونه بشكل أعمى مقابل استفادتهم منه مادياً أو معنوياً.
كان حين يعمل، يهتم بمدى فاعلية هذا العمل وفائدته للمجتمع والوطن، ويبحث دائماً عن راحة ضميره ومرضاة الله.
ينفر من الممالأة والنفاق إذا زادت عن حدود الأدب أو المجاملة العادية والدماثة، وعوضاً عن مكافأة المنافقين والمتزلفين، كان غالباً ما يعّبر عن استيائه وضيقه منهم، ويعتبر المنافقة والتزلف مضيعة للوقت والجهد المنتج، وقلة احترام لعقل المنافق له أحياناً، واستخفافاً بل واحتقاراً لعقل الجمهور الذي يود المنافِق والمنافَق له التأثير عليه.
وفي عصرنا هذا لم يعد أيّ زعيم بالدول المتطورة يستحوذ وحده على اهتمام الإعلام، ناهيك عن المبالغة في المديح والتعظيم.
ربّما كان هاشم الأتاسي سابقاً لعصره في العالم العربي والعالم الثالث في هذا المجال.. وفي مجالات أخرى أيضاً..
فهو الوحيد في العالم العربي الذي استقال من رئاسة الجمهورية ثلاث مرات (1939و 1949 و1951) دون أن يكون مرغماً على ذلك. قَبل العودة عن الإستقالة مرة واحدة في أواخر كانون الأول ديسمبر 1949، بعد مناشدته من قبل جميع أعضاء المجلس التأسيسي لأسباب وطنية وبإلحاح العودة عن هذه الإستقالة.
هو الوحيد أيضاً في العالم العربي الذي رفض العودة إلى رئاسة الجمهورية مرتين (1941و 1943) بعد أن طلبت منه ذلك سلطات فرنسا الحرة المنتصرة مع حلفائها الإنكليز على قوات فرنسا المهادنة لألمانية النازية أثناء الحرب العالمية الثانية.
هو الوحيد الذي لم يجرؤ أي ضابط التطاول عليه، بل احترمه الجميع، الأقوياء والضعفاء، لماضيه الوطني الناصع.
عنف وطرد من حضرته مرتين (1951 الشيشكلي و1955 السراج) ضباطاً نافذين أقوياء يسيطرون على الجيش والقوى الأمنية، لأنهم تجاوزوا حدودهم الدستورية أثناء حديثهم معهم.
كما إنه كان الوحيد الذي قاد المقاومة والمعارضة بشكل علني، وهو مقيم بمنزله في حمص، ضد طاغية ديكتاتور في أوج قوته وجبروته، يمسك بزمام جميع الأمور في سوريا، بما فيها القوى العسكرية والأمنية. وأصدر بياناً علنياً نشرته الصحف العربية يندد فيه بكبت الحريات وينادي بضرورة إسقاط الطاغية.
مع أن هذا الديكتاتور كان أصدر بياناً بعد تقديم هاشم الأتاسي استقالته من رئاسة الجمهورية إلى المجلس النيابي السوري، يشيد فيه بوطنيته وبحكمته، ويأسف ولو ظاهرياً لاستقالته.
أخيراً وليس آخراً، هو الرئيس الوحيد الذي سلّم رئاسة الجمهورية حين انتهت مدة رئاسته القانونية إلى رئيس منتخب ديمقراطياً بشكل دستوري. عاد بعد ذلك إلى مدينته معتزلاً نهائياً العمل وهو معزز مكرم، واحتفل الشعب في مدينته باستقباله بشكل عفوي أحلى وأحر استقبال.
وهو إلى ذلك كان متواضعاً، يعيش ببساطة وتقشف دون استعلاء، على أي مواطن شريف.
لُقب “أبو الدستور” لأنه كان دائماً حريصاً على قدسية الدستور واحترام القوانين. وقد أُنجز أول دستور معاصر ديمقراطي حضاري في سوريا الطبيعية عام 1920 حين كان رئيساً للمؤتمر السوري ورئيساً للجنة صياغة الدستور في هذا المؤتمر.
كما أُنجز أول دستور لسوريا موحّدة ومستقلة بحدودها الحالية عام 1928 حين كان رئيساً للمجلس التأسيسي، وكانت سوريا تناضل لنيل وحدتها واستقلالها من الانتداب الفرنسي، وتحتلها جيوش هذا الانتداب. فعلّق المندوب السامي الفرنسي الدستور، كما علّق جلسات هذا المجلس. وتم إنجاز دستور عام 1950 حين كان رئيساً للدولة، وبقي العمل بهذا الدستور سارياً حتى إعلان الوحدة السورية المصرية عام 1958م.
كان يكتب خطبه بنفسه بشكل مختصر، يعني كل كلمة يقولها، ولا يحب ترديد الشعارات بشكل مكرر وأجوف، ما يفرغ هذه الشعارات من معانيها وقوتها.
كان يقيم الصلوات الخمس حاضراً، ويزكّي، وبالطبع يصوم، وأدّى مناسك العمرة في مكة والمدينة. لكنه مع إيمانه العميق وتمسكه الشديد بفرائض دينه الحنيف، كان يرى أن الإسلام قبل كل شيء رسالة للإنسانية تحثّ على حسن التعامل بين البشر وكرم الأخلاق من أمانة وصدق وإخلاص وتسامح، واحترام الآخرين وقبولهم بحسناتهم وسيئاتهم، والإبتعاد عن كل أنواع التعصب الأعمى، ونبذ المذهبية والطائفية.