سلامة عبيد: حكومة جبل الدروز – الدروز والحرب العالمية الأولى
العقيدة الدرزية تشدد على الترفع عن هذا العالم الفاني، وتركز اهتمامها في “دار الحق” وكل ما تطلبه لأتباعها من هذه الدنيا، الحرية، وأقلها عدم الإزعاج والكفاف عن العيش فكل طموح إلى سلطة أو عز في هذا العالم مخالف للعقيدة.
لم يتقيد الدروز بهذا المبدأ وأكثريتهم الساحقة جهال. فانصرفوا إلى هذه الدنيا، وإن لم يكن انصرافهم كلياً، وطمحوا في أن يكون لهم شأن، فنشأت لهم زعامتان متعاضدتان: الزعامة الروحية والزعامة الزمنية. إلا أن هذه الزعامة الزمنية لم تتطرف لإنشاء وطن لها، أو قومية خاصة بها، وأقصى ما صبت إليه أن تحافظ على كيانها كرأس لطائفة معينة لها تقاليدها ومعتقداتها.
وإذا تحدثنا عن حب الدروز للاستقلال، فلا نعني به الاستقلال السياسي بمعناه الواسع وإذا أنهم يعتزون بديرتهم، فلا يعني هذا أنهم يتغنون بتلك البقعة من الأرض كوطن واضح المعالم والحدود، فإن وطنههم واستقلالهم هو أقرب إلى وطن العشيرة واستقلالها.
كانت هجرة الدروز الرئيسية الأولى إلى الجبل سنة 1711 على إثر معركة “عين داره” بين الحزبين العربيين الدرزيين القيسي واليمني.
وكانت الهجرة الثانية الرئيسية سنة 1811 على أثر نزوح مئات العائلات الدرزية من جبال حلب إلى جبال لبنان ومن ثم إلى جبل حوران.
وكانت هجرتهم إلى الجبل المقفر الموحش الثاني والذي تسوده حياة القلق، وشريعة الغاب وتفرض عليه الطبيعة موارد رزق محدودة كانت هذه الهجرة التي أسماها أحد الكتاب “النفي الاختياري” تطلعاً إلى حياة تسودها الحرية والكرامة وإن كان لهذه الحرية والكرامة معرضة لقسوة الطبيعة وبؤسها ومرارة القلق والكفاح من أجل الاستقرار.
لهذا كانت الحرية والكرامة عندهم أثمن من الوطن ومن ثم أثمن من الحياة.
كانت حياة هؤلاء النازحين سلسلة دامية من الكفاح من أجل الاستقرار، وكانت مشاكلهم مع جيرانهم من البدو والحضر لا تنتهي إلا أن أشد ما تعرضوا له من محن كان الحملات العسكرية التي تنطلق نحو معاقلههم مرة من وإلي مصر الألباني ومرات كثيرة من ولاة دمشق أو الأناضول العثمانيين.
ولقد ظل الجبل خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر معقلاً لكل ثائر أو مناوئ للسلطة العثمانية، وملاذاَ لكل طريد أو فار، وظل من بين المناطق العربية القليلة التي لم يستطع العلم العثماني أن يستقر فيها رغم الحملات العسكرية المتلاحقة والتي كانت تمنى بالهزيمة تلو الهزيمة.
إلا أن العثمانيين كانوا لا يتورعون عن النكث بالوعود والعهود، وقد اشتهروا بالمكائد التي يدبرونها بلا وازع من ضمير أو أخلاق، وكان لطرقهم في الغدر والنفي والشنق أثر عظيم في نفور قلوب السكان من الدولة التي حاربتهم وحاربوها مراراً. ولهذا عندما أعلنت الحرب العالمية الأولى لم يدع الدروز للسلطان بالنصر، ولكنهم عملاً بالمثل الشائع “عند اختلاف الدول إحفظ رأسك” لزموا الصمت، حتى إذا ما أعلنت الثورة في الحجاز، وتقدمت القوى العربية وجدت هؤلاء الموتورين استعداداً للنضرةن وإن تكن محدودة فالمنطقة لم تكن حيادية، كما يزعم لورنس، فقد كانت مركزاً هاماً لتهريب السوريين والأرمن للالتحاق بالجيش العربي وتقديم العلومات والمؤونة لهذا الجيش، ولم يكتف الجبل بهذا القسط من المساهمة، بل أنه راح يستقبل بالترحاب رسل الأمير فيصل.
واشتهرت قريتنا القرية وعنز، في هذه الفترة، بمعونتهما العلنية للجيش العربي. فقد كان نسيب بك البكري ينام في الغرفة نفسها التي كان ينام فيها جمال باشا الصغير في قرية عنز، وكانت هذه القرية ملتقى بعض زعماء الحركة العربية، إذ وصلها في أوائل أيلول عام 1918 خليل السكاكيني رئيس الجامعة النصرانية في القدس.. والدكتور قدري وأحد أفراد آل حيدر، ورفيق بك التميمي مدير مدرسة التجارة في بيروت، وكان يظهر أن خليل السكاكيني رئيسهم. وقد عنوا لأول مرة في الحرب الأنشودة الوطنية بحضور كل الأهالي، وألقيت عدة خطب وقد حدثني سلطان باشا بأنه رفع العلم العربي في قريته “القرية” بحضور تحسين قدري ونزيه المؤيد قبل دخول الحلفاء إلى سورية.
كما أن كوكبة من فرسان الدروز كانت على رأي القطعة العربية التي دخلت دمشق، وهي التي رفعت أول علم عربي على سراي دمشق.
وما كادت الجيوش العربية والحليفة تدخل دمشق، حتى بدأ الصراع بين الحلفاء أنفسهم من جهة وبين العرب أنفسهم من جهة ثانية، ومن بين العربي وبين الحلفاء. وجاء بعض تجار دمشق يشكون من تعديات الجيش العربي، فقام عوده أبو تايه يتهم متطوعة الدروز فرد عليه سلطان بعنف، وهكذا اضطر سلطان ورجاله إلى الانسحاب من دمشق.
عاد سلطان إلى الجبل ولكنه ظل محافظاً على تقديره واحترامه للأمير فيصل وعلى أمله في العهد الجديد، وراح يتوسط لإبن عمه سليم باشا الأطرش الذي كان قد أظهر ميوله العثمانية، ناعتاً الجيش بأنه “علبة عطارة” وقد نجح سلطان في مسعاه، فاعترف بسليم باشا زعيماً للدروز ، وبنسيب الأطرش ممثلاً عنهم في دمشق.
كان الإنكليز راضين إلى حد، عن الحكومة العربية الجديدة ولكن فرنسا كانت غضبى، وراحت تتهم إنكلترا بأنها تدعم هذه الحكومة الفتية للقضاء على النفوذ الفرنسي في الشرق. وتوسلت بشتى الوسائل لتنفيذ اتفاقية سايكس – بيكو وإخضاع “المنطقة الشرقية” لنفوذها.
بدأت الإدارة الفرنسية تطالب الحكومة العربية بقبول بعض المستشارين الفرنسيين في دوائرها فقبل فيصل بمستشارين اثنين إلا أن الرأي العام لم يستحسن حتى وجود المستشارين وراحت مطالب الفرنسيين وتحرشاتهم تتوالى، مما أقنع الأمير فيصل بأنه لا يوقف فرنسا عند حدها إلا القوة. وكان يشعر دائماً بأنه في حاجة إلى هذه القوة، فراح يستفتي زعماء البلاد في كل مناسبة ليتأكد من التفافهم حوله. فكانت أجوبتهم لا تختلف في جوهرها عن جواب ممثل الدروز في دمشق، “نحن جميع عشائر سورية العربان والدروز نضحي حياتنا تجاه خدمتك وخدمة الأمة العربية، والمحايد عن ذلك يكون خاين الناموس والشرف والعرب”.
ولكن كثيراً من عشائر سورية، العربان والدروز، وشخصيات كثيرة من رجال فيصل أنفسهم كانوا قد تعرضوا لشتى الإغراءات الفرنسية المعنوية والمادية.
رأينا أن الأكثرية في سورية كانت تكره فرنسا. وكان الدروز من أشدهم تخوفاً منها إلا أن فرنسا استطاعت أن تستجلب قسماً من زعمائهم لأسباب كثيرة، وبطرق شتى.
أما هذه الأسباب التي حدت ببعض زعماء الدروز لتحويل وجوههم نحو الانتداب الفرنسي فتتلخص في النقاط الآتية:
أ- المنافسات العشائرية، وتطاحن الزعماء الأطارشة على الرياسة.
ب- تردد الإنكليز في مناصرة الحكومة العربية وتذبذبهم، مما جعل الدروز يشعرون بترجرج العهد الفيصلي.
ت- سوء التفاهم الذي ساد العلاقات بين الدروز من جهة، والحوارنة والدماشقة من جهة ثانية طوال العهد الفيصلي.
ث- الدعاية الفرنسية المغرية وقلائل هم الذين لم تجرفهم الدعاية الفرنسية.
أما الطرق التي استخدمتها هذه الدعاية فكثيرة، أهمها:
أ- الذهب الذي كانت توزعه المفوضية بسخاء، واعتمادها المدني دون العسكري في الخزينة الفرنسية وحدها 185 مليون فرنك.
ب- الوعود بالمناصب الرفيعة، وتعزيز مكانة الدروز المادية والمعنوية.
ت- المعاملة الحسنة التي كانوا يقابلون بها زعماء الدروز الحوارنة في بيروت، مقر المفوض السامي، فينزلون في ضيافة المفوضية، ينامون على الأسرة ويحضرون الاستعراضات العسكرية. فيشاهدون موكب المفوض الفخم يحف به حرس من أبنائهم، وبثيابهم العربية المزركشة، وسيوفههم المتوهجة.
لم تستطع الحكومة العربية أن تمنع الوفود التي كانت تتوالى “للسلام” على الجنرال غورو.. ولم تستطع الفئة المناوئة لفرنسا إيقاف هؤلاء الزعماء والمتزعمين، عند حد وقد أعماهم الذهب والوعود. ومع ذلك فقد ظهرت المناوأة للانتداب، والتردد في قبوله، واضحين في الجبل، ولم يعلن الموافقة على الانتداب الفرنسي إلا زعيم قرية واحدة في الجبل.
وبالرغم مما بذلته فرنسا من مال وهدايا، ووعود قبيل ميسلون، فإنها ظلت متخوفة من أن يحاول فيصل إثارة عشائر الدروز والبدو. فكان ذلك من أهم العوامل التي جعلت فرنسا تسرع في توجيه ضربتها. وبالفعل، فإننا نجد أن الشريف ناصر جاء الجبل محاولاً أن يثير الناس، فأخفق إخفاقاً شخصياً. ولكن ما كادت القوى الفرنسية تتحرك نحو ميسلون حتى عقد اجتماع في السويداء من أجل الدفاع عن دمشق والعرش العربي العتيد.
مشت البيارق “الأعلام الحربية” إلى المزرعة والسجن وسميع ونجران، في طريقها لنجدة الجيش العربي، ولكن ما كادت هذه الجموع تصل إلى بصر الحرير، حتى كان فيصل قد مر بدرعا بعد أن دخل الفرنسيون دمشق، رغم نصيحة الشهيد حمد البربور بنقل الحكومة إلى السويداء، استئناف الحرب.
تمركز الفرنسيون في دمشق، بعد ميسلون، فنشطت دعايتهم نشاطاً عظيماً، تمهيداً للتوسع العسكري. وهنا بدأ انصارهم في الجبل بشئ من القوة. فما كاد الحوارنة في خربة غزالة بفتكون بالوفد الوزاري الذي أرسلته الحكومة الفرنسية ويشرعون بالمقاومة ” أواخر أيلول 1920″ حتى هاجم نفر من زعماء الدروز قرية ناحته للأخذ بثأر قديم. وفي أطراف اللجان كان منصور بن سعيد نصر قد قتل من قبل البدو، فثار الدروز وهاجموا اللجان أخذاً بالثأر، بينما كانت القوى الفرنسية تزحف نحو هاتين المنطقتين.
هكذا وجد البدو والحوارنة أنفسهم بين نارين، فاستسلموا للقوات الفرنسية، ولكنهم لم يغفروا هذه الخطيئة للدروز، مما سيكون له أسوأ الأثر في ثورة عام 1925م
انظر:
سلامة عبيد: فرنسا تفرض نفسها.. (1)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مغامز صك الانتداب (2)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مخالفة فرنسا لصك الانتداب (3)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. سلطات المفوض السامي (4)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. تغيير المفوضين (5)
سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. التجزئة (6)
سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى عام 1925 (7)
سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى 1925 – حب الاستقلال والحرية (8)
سلامة عبيد: الأسباب الاجتماعية والاقتصادية للثورة السورية الكبرى- العوامل الاقتصادية – التجارة (9)
سلامة عبيد: جبل حوران – المنطقة والسكان .. لمحة جغرافية (10)
سلامة عبيد: جبل حوران – السكان (11)
سلامة عبيد: أسباب الثورة السورية الكبرى .. العزلة الجغرافية والمذهبية (12)
سلامة عبيد: أسباب الثورة السورية الكبرى .. عدم الاستقرار وحياة القلق (13)
سلامة عبيد: أسباب الثورة السورية الكبرى .. العامل الذهبي (14)
سلامة عبيد: أسباب الثورة السورية الكبرى .. دور المرأة (15)