بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
من مذكرات معلم في الريف.. (نايفه)
في التسعينات من القرن الماضي كنت معلماً في إحدى القرى الريفية النائية، فكان طلابي مجموعة من البنات والصبيان، أصغرهم (خلف) طفل في السابعة وأكبرهم (نايفه) فتاة في الرابعة عشرة من العمر ابنة مختار القرية، كانت تجلس طوال الوقت شاردة الذهن تراقبني وتتأمل حركاتي وانا اشرح الدرس.
في إحدى المرات قررت أن اوقظها فناديتها : نايفه !! فجفلت وقالت : نعم أستاذ !!
قلت لها : أعيدي ما كنت أقول؟ تلعثمت وأحمر وجهها ولم تُحِر جواباً، تركتها لأنها كانت خارج التغطية ولم تكن منتبهة الى الدرس أصلاً.
في أحد الأيام انتهى الدوام وانصرف جميع الطلاب باستثناء (نايفه) التي تلكأت في الإنصراف وتشاغلت بجمع كتبها، وبدأت تبحث و (تبحبش) في حقيبتها واسقطت بعضاُ من كتبها على الأرض، ثم التقطت دفتراُ من قاع الحقيبة وقالت لي وعلائم الإضطراب بادية على وجهها : أستاذ !! ممكن تعلمني طريقة حل هذه المسألة؟.
وبدأت تقلِّب صفحات الدفتر وتعمَّدت ان تريني وروداُ ملونة وقلوبٌ مغروس فيها سهامٌ تنزف دماً !! قمطني قلبي وقلت لها : لم لا تؤجلين الموضوع الى الغد؟
قالت : دقيقه فقط أستاذ ، استغربت من اصرارها وشعرت بأن الموضوع فيه (إن)، وأن موضوع المسألة مختلق، وان وراء الأكمة ما وراءها، استعذت بالله من الشيطان الرجيم وخطر لي ان أنهرها وأطردها، لكنني آثرت الحكمة والتروّي، ففتاةٌ مراهقةٌ في قرية يؤمن أهلها بالعار والثأر قنبلة من الممكن ان تنفجر فتدمر ما حولها، نشف ريقي فاخذت جرعة من الماء وبدأت أشرح لها المسألة بشكل سريع ومقتضب والفتاة سارحة النظر في وجهي وأغلب الظن أنها لم تكن منتبهة لما أقول، كانت عيني تراقب الباب، فلو رآنا أحدٌ من اهل القرية لوحدنا لحصلت الكارثة؟
أنهيت شرح المسألة ولم أسأل نايفه عن استيعابها، وقلت لها: إذهبي الآن فقد تأخرت عن المنزل، قامت بتثاقل وحملت حقيبتها وابتسمت في وجهي ملوَّحة بيدها وهي تخرج: باي أستاذ !! ، بت أضرب أخماساً بأسداس ، ما قصَّة هذه الفتاة معي؟
وقررت أن التزم معها جانب الجدّ والحذر، بعد أيام عادت حليمة لعادتها القديمة، ففي نهاية الدوام خرج الجميع وبقيت (نايفه) جالسة على مقعدها متشاغلة بترتيب حقيبتها والإضطراب بادٍ على حركاتها، ثم سألتني وبدون مقدمات: هل أنت متزوِّج استاذ؟ فوجئت بسؤالها وخطر لي ان اوبِّخها واطردها، لكنني ضبطت أعصابي وقلت لها: ليس بعد ، قالت : هل عندك خطيبة؟
قلت : لا . قالت : هل تحب الأغاني أستاذ؟ قلت لها : أي اغاني؟ قالت : أنا أحب أغاني هاني شاكر؟ وتعجبني أغنية : (شاور وانا ملك ايديك)، صعد الدم الى راسي (واخ على هالمصيبه !!).
تلفتت حولي وقلت لها : إذهبي الان فأهلك سوف يسألون عنك، تصنَّعت الخوف وقالت : ( ياي !! اي والله تأخرت !!) و قامت وهي تتصنع الظرف ولوَّحت لي بيدها : باي أستاذ !! من أين أتتني هذه البليَّة؟ إن سايرتها فسوف تعتبر الموضوع قصة غرام ترويها لرفيقاتها وتفلفل وتبهِّر على مزاجها، وان عنَّفتها وطردتها حقدت علي وقامت بتأليف قصص من نوع آخر، وربما تدَّعي انني الاحقها منذ زمن وانني واقع بغرامها وتجعل مني كازانوفا القرية !! ويصل الخبر الى والدها المختاااار، فيغضب وينسى الودَّ الذي بيننا ويهجم علي مشهراً بندقيته (الكسرية) في وجهي ويصرخ : التار ولا العار ولك يا قليل ال ( ..) !! وينقض علي ابن أخيه ( عفاش ) الشاب ضخم الجثة فتصغر قيمتي في القرية ويذهب كل ما بنيته من حسن سيرة واحترام ادراج الرياح، وأخيراً وجدت أن أفضل قرار هو الفِرار والانتقال من هذه القرية . جهزت طلب النقل لأرفعه في الغد الى المديرية.
في اليوم التالي لم تحضر نايفه الى الدوام !! سألت عنها رفيقاتها فقالوا لي : تركت المدرسة ، فقد تمت خطبتها لإبن عمها (عفاش) وعرسها بعد أسبوع.
خيييي !!
قمت بتمزيق طلب النقل ودخلت غرفة الإدارة وسجدت ركعة شكر لله، وقررت أن أعمل (مولداً نبوياً) في مسجد القرية وأوزع الحلويات .
في اليوم التالي حضر المختار الى المدرسة يدعوني بكل حفاوة وترحيب لحضور كتب كتاب ابنته (نايفة) على ابن اخيه (عفاش) باعتباري أحد وجهاء القرية.