وثائق سوريا
محاضرة سليمان البستاني في مسرح زهرة دمشق حول مجلس المبعوثان عام 1910
دعى فرع جمعية الإتحاد والترقي دمشق إلى محاضرة لـ سليمان البستاني الأديب وعضو مجلس المبعوثان العثماني حول مجلس المبعوثان العثماني وأعماله في عامين.
ألقيت المحاضرة على مسرح زهرة دمشق في الساعة العاشرة عربية والرابعة أفرنجية يوم الثلاثاء الثلاثين من آب عام 1910م،
تناول سليمان البستاني الرئيس الثاني لمجلس المبعوثان حينها عدة محاور في محاضرته، أهمها إبراز مساوئ عهد السلطان عبد الحميد وتسليط الضوء على إنجازات حكومات وإدارات إنقلاب عام 1908م.
صحيفة لسان الحال نشرت نص خطاب البستاني مع تصرف خاص في العدد الصادر يوم الأربعاء الحادي والثلاثين من آب عام 1910م:
كلمة سليمان البستاني – بتصرف:
(أظهر ما كانت عليه الإدارة السابقة من الفساد حتى سادت الرشوة وكثر الارتكاب والظلم، وانتشرت الفوضى وتسربت الأموال إلى جيوب المستبدين ينفقونها في زيادة الاعتساف وارتكاب المحارم والموبقات.
وذكر كيف بارت الأراضي وسلبوها وتركوا مياه الأنهار التي هي حياة البلاد تصب في البحار وتحدث في طريقها مستنقعات وبحيرات تجلب على الأهالي الأمراض والحميات، وماكان من الضغط على الأفكار والأقوال حتى تمنى الإنسان أن يكون حيواناً أو أنه لم يخلق في هذه الأرض التي صبت عليها الرؤيا ونكبتها الخطوب والبلايا، فكادت تتفكك أجزاء الملك، وهرب الناس وهجروا الديار وأكثر الأدباء وحملة الأقلام لجأوا إلى الخارج مخافة الظلم والحيف فقد كانت السياحة خرقاء والعقول سمجة والأعمال وحشية لا تشتم رائحة المدنية وليس فيها شيئ من الشفقة الإنسانية والمرحمة البشرية ولو خير الناس لفضلوا الموت على الحياة وودوا لو يكونوا تراباً.
تلك السياسة الفاسدة كانت تخرب الملك وتفكك ضلوعه فقد ضعضعت أركانه وأوهنت بنيانه حتى طمحت إليه عيون الأجانب وكادت ولايات مقدونية نقلت من أيدينا وتذهب لقمة سائغة وغنيمة باردة للأجانب لو لم يتداركها أبطال الدستور ويحفظونها من براثن الليوث التي كانت رابضة حولها.
وذكر الخطيب حروب اليمن والحجاز وثورة قبائل العراق، وما كان من الألبانيين والبلغاريين واليونانيين وغيرهم من أرباب الفتن وأهل الفوضى ولاسيما كريت التي ذهبت بالفعل وباتت أحكامها تصدر باسم ملك اليونان وكل هذه المواضيع قد وافاها حقها من الشروح والإيضاحات حتى عرف السامعون ما كان يحيط بالبلاد من المخاطر والأهوال، وكيف أنها كانت على جرف من الخطر حتى أوشك الأجانب أن يلتهموها ويضموها إلى أملاكهم ومستعمراتهم فتذهب من أيدينا ذهاب أمس الدابر.
ذلك لأن جيوشنا وعساكرنا البواسل كانت تتضور جوعاً وتشكو الفقر والفاقة ولو شبت الحرب في ذلك الوقت لكان ما لديها من السلاح لا يصلح للحرب ولا يجديها في القتال نفعاً بل كان دمها الزكي يذهب هدراً ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي حفظ البلاد وصان بيضتها وسخر لها حكومة الدستور بعد أن جمع أبطال الحرية شملهم وخاطروا بأرواحهم يبذلونها في سبيل حب الوطن وخير البلاد فقاموا حكومتهم على أنقاض تلك الحكومة الظالمة فأقبلت جيوشهم من مقدونية إلى قصر يلدز حتى كبحوا جماع ذلك الطاغية وأخمدوا فتنة نيسان ومهدوا سبل الإصلاح.
وكان الناس بطبعهم ميالين إلى الإرتجاعية وقد شربوها ومرت في عروقهم مدة 30 سنة أو تزيد فكانت مهمة أنصار الحرية على غاية الصعوبة تكتنفها العقاب والمشاكل.
وكان مجلس المبعوثان تحت خطر الموت حتى أن رجاله هربوا إلى صان ستفانو وازدحموا هناك وكانوا ينتظرون الموت ساعة بساعة بل دقيقة بدقيقة كل ذلك والدماء تهدر من حولهم والمدافع تلعلع والأبطال تتجندل والناس في خوف ووجل فمن لم يهرب بعياله وأولاده استعد للرحيل بهم وقال على الدينا ومن فيها السلام.
ولا ريب أن العقبات الكؤود التي حالت دون مهمة المبعوثان ما كانت لتذلل لولا علو هممهم وفرط تفانيهم في محبة بلادهم وخير وطنهم فثبتوا أمام تلك الأهوال الجسام وصبروا طويلاً حتى ملهم الصبر وحتى قطعوا شأوا بعيداً في سبيل الإصلاح فأجروا بمدة سنتين فقط مالا يمكن أجزاؤه بالسنين الطوال حتى شهد لهم الأوربيون بما أجروه من الأمور الجسيمة وهناؤهم بالفوز الذي نالوه.
المبعوثان أتو لتدبير الملك واحياء الدولة فألفوا حكومة جديدة على طرز الحكومات المنظمة واستعانوا بالدرس والمطالعة والسهر فكانوا يصرفون إناء الليل وأطراف النهار في البحث عن نظامات سائر الحكومات ويتخذون الأقرب منها إلى طباعنا وأحوالنا وبعد تنقيحه وتحويره وتطبيقه على الشرع الشريف وما يوافق منه حال البلاد يثبتونه ويصدق عليه الأعيان وتصدر به الإرادة السنية وقد وضعوا من القوانين الجديدة أكثر من ستين أو 70 قانوناً، و كلها يجري التصديق عليها وسيعمل بها أما الباقي من القوانين التي تحتاج إليها البلاد فهو لم يزل تحت البحث.
والحق يقال أن أعمال المبعوثان كانت كلها غرر وكلها فؤائد للبلاد والعباد وقد شهد لهم الأجانب بعلو الهمم وكثير من الكتاب قابلوا بين مبعوثينا ومبعوثي سائر الدول في أول نشأتها فرأوا الفرق عظيماً والبون جسيماً فإن رجالنا قد اختمرت عقولهم بالدرس والمطالعة وكثرة ما مر بهم من الحوادث فأتوا بمالهم يأته مجلس النواب من قبلهم من وضع نظامات وقوانين ومشروعات وطنية إلى غير ذلك مما يضيق بنا دون ذكره المقام ويطول المجال.
ومن يقدر أن يجمع ما أجراه المبعوثان بدون مراجعة سجلاتهم وقيودهم فإن أعمالهم لا تكاد تحصر لأنها شملت مملكة واسعة الجوانب مترمية الأطراف في كل بقعة منها فساد يقتضى إصلاحه وفي كل عضو من أعضائها أو ضلع من ضلوعها داء يجب علاجه.
المبعوثان أتوا بما لم تره في البلاد العثمانية عين ولم تسمع به آذن فهم منقذوها من الضياع بفضل تدبيرهم وسيديد آرائهم وهم الساعون في إصلاح ما فيها من ضروب الفساد وأنواع الاختلال وكل واحد منهم يعتبر نفسه مبعوثاً عن كل الولايات بعيدة كانت أو قريبة فالخطيب مثلا هو مبعوث بيروت ولكنه اشتغل شغلاً مهماً ليس في أمور بيروت بل في أمور اليمن والحجاز ومقدونية وألبانيا والعراق وغيرها فقد سهر الليالي الطوال في ترتيب اللوائح وتنظيم القوانين فأشتغل في أمور الإدارة والإجراء في أحوال العسكرية والملكية والعدلية وفي كل ما يتعلق بالبلاد وكما فعل هو فعل غيره من المبعوثين ذوي الاقتدار والعلم بتدبير الممالك وتنسيق أحوال الدول والأمم إلى غير ذلك.
وقد قوبل خطابه بالاستحسان وتصديئة الأيدي ثم قام خطيباً حضرة فضيلتلو حسن فهمي أفندي مبعوث سينوب فتكلم كلاماً كالدرر وأغلى مظهراً أن الإسلام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنه يوجب التآلف والاتفاق مع كل الطوائف ليكونوا يداً واحدة على ترقي الدولة والوطن ونجاح الأهالي.
وقد استشهد على كلامه بالآيات الشريفة والأحاديث المنيفة وقال أن لا فرق بين المسلمين والمسيحيين وسائر الطوائف العثمانية في نظر القانون فهم أخوة في الوطنية تجمعهم التابعية العثمانية وأن الدستور أزال الفواصل والموانع من بينهم وجعلهم كالبنيان المرصوص ويزيدون الدولة قوة والوطن ارتقاء ونجاحاً.
أما مسألة الترك والعرب فهي من المسائل التي لا يلتفت إليها وإنما الجرائد جسمتها وخاضت عبابها فأكبرت أمرها ترويجاً لبضاعتها فهي بمنزلة التاجر الذي يسعى في تصريف سلعه في أسواق الكساد.
وبقدر ما سر الحاضرون من كلامه في الوفاق والاتحاد -بقدر ذلك- استأوا أرباب الجرائد منهم)(1).
(1) صحيفة لسان الحال- بيروت، العدد 6418 الصادر في يوم الأربعاء الحادي والثلاثين من آب عام 1910م.
انظر:
السوريون في مجلس المبعوثان العثماني – الدورة التشريعية الأولى (المشروطية الثانية): 1908- 1912