مقالات
محمد شعباني: الاقتصاد السوري في التسعينيات وقانون الاستثمار رقم 10- المتغيرات والدلالات
محمد شعباني- التاريخ السوري المعاصر
نجحت السلطة في سوريا في الاستمرار في نهجها الاقتصادي القائم على التحكم بعملية الإنتاج والاستهلاك وتوزيع الدخل من خلال القطاع العام الذي توسعت به والمؤسسات الحكومية التي أحدثتها خلال ثلاثة عقود تقريباً (من بداية الستينيات إلى التسعينيات). إلا أن مع نهاية عقد الثمانينيات تراجعت المحددات التي سمحت باستمرار هذا النهج، فكان خيار السلطة هو الانزياح التدريجي نحو الليبرالية الاقتصادية، والتي كانت بالممارسة العملية رأسمالية محاسيب.
جاء نجاح السلطة في الاستمرار على نهج السيطرة على الاقتصاد عبر القطاع العام ومؤسساته خلال الفترة الممتدة من الستينيات وحتى نهاية التسعينيات مستندة إلى ثلاثة محددات، هي: تأميم ملكيات البرجوازيات الكبيرة ، واكتشاف كميات تجارية من النفط والتي تزامنت مع طفرة أسعار النفط، والمساعدات الخارجية القادمة من دول الخليج العربي ودول أوبك والتي تقدر خلال الفترة 1974-1984 بحوالي 1.5 مليار دولار سنوياً(1) (أي حوالي 16% من موازنة سورية في عام 2019)، بالإضافة إلى المنح والمساعدات من دول المنظومة الاشتراكية وبعض الدول الغربية كالمنح والقروض من الولايات المتحدة وفرنسا، وتحويلات المغتربين السوريين في الخارج*
أزمة الثمانينيات
اتى عقد الثمانينيات بظروفٍ معاكسة، إذ أدى تراجع أسعار النفط إلى توقف المساعدات العربية في منتصف الثمانينيات، وإلى انخفاض إيرادات الإنتاج المحلي من النفط، كما وأثرت سلباً على حجم تحويلات السوريين العاملين في الخليج العربي، وبالنتيجة فإن المحددات التي استندت إليها السلطة في الاستمرار في نهجها الاقتصادي قد تراجعت وفقدت الكثير من قدرتها على توفير الموارد اللازمة للاستمرار في ذاك النهج.
كشف التراجع الشديد لمصادر الريع الاقتصادي والسياسي عن السمات الرئيسية التي اتسم بها توّسع القطاع العام، من سوء التخطيط والإدارة الذي ظهر في الكثير من المشاريع الفاشلة، لعل أبرزها معمل الورق في دير الزور الذي كلف إنشاؤه 110 مليون دولار، وثبت عملياً الفشل في التخطيط له والفساد الذي اعترى تنفيذه وإدارته. وضعف الكفاءات الإدارية والتقنية، بسبب منح الأولوية في التعيين للبعثيين على حساب الكفاءات من غيرهم، وتدخل جهات وصائية متعدّدة في عمل مؤسسات القطاع العام، بما فيها أجهزة الأمن. أدى ذلك كله إلى ضعف إيرادات منشآت القطاع العام، التي عجزت عن تمويل نموّھا ذاتیاً، كما أدى إلى انخفاض استغلال الطاقة الإنتاجية المتاحة التي لم تتجاوز حدود الـ50% بين عامي 1980 و1985، واستمرت بالتراجع بعد ذلك. هذا إلى جانب تردي جودة المنتج النهائي.
أما السمة الثالثة فھي الفساد؛ الذي لا يمكن اعتباره أمراً ھامشیاً سببه “ضعاف النفوس”، بل هو منظومة متكاملة وجزء من الطريقة التي كان يدار ويخطط لها للقطاع العام، ولعل أبرز تمظهرات آليات الفساد هي عقود السمسرة والوساطة للتعاقد مع الشركات الأجنبية لبناء المنشآت العامة وتجھیزاتھا ومعداتھا، واستيراد المواد اللازمة للعملية الإنتاجية، التي كانت تلتھم جزءاً كبيراً من ثمار النمو الاقتصادي، وتعد النواة الأولى لتشكل البرجوازية البیروقراطیة. هذا إلى جانب التطبيع مع ظاھرة الرشوة، وانعدام الشفافية، وإضعاف آلية تقديم الشكاوى، وانعدام المحاسبة التي اتضحت حينما شكلت لجنة “الكسب غير المشروع” في منتصف السبعينيات، التي انتهت بإطلاق سراح من اعتقل بتهمة الفساد، وإغلاق جميع ملفات الفساد.
تميزت فترة التسعينيات عما سبقها، بالبداية الأكثر وضوحاً للانزياح التدريجي للسياسات الاقتصادية القائمة على تدخل الدولة لصالح القطاع الصناعي العام وسيطرتها على التجارة الداخلية والخارجية، إلى إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص، فبعد الإرهاصات الأولى لتلك للسياسة الجديدة في منتصف الثمانينات، أظهرت السلطات السورية بوضوح نيتها تطبيق نهجها الجديدة بعد إقرار قانون الاستثمار رقم 10 في عام 1991، والذي لا تأتي أهميته فقط من المزايا الاقتصادية التي منحها للمستثمرين في القطاع الخاص والسماح لهم بدخول فروع عديدة كانت حكراً على القطاع الاقتصادي العام، بل أيضاً من دلالته السياسية، فالقانون الصادر تزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي، أي مع أفول نجم الاقتصاد الاشتراكي في العالم ودخول اقتصاديات دول الاتحاد السوفياتي وغيرها الكثير من الدول النامية في مرحلة إعادة الهيكلة والتكيف الاقتصادي التي قدمها صندوق النقد الدولي مقابل تقديم القروض للدول النامية التي كان الكثير منها يعاني من أزمات اقتصادية خانقة.
وبهذا جاءت التطمينات لأصحاب رؤوس الأموال السورية في الداخل والخارج بالعودة للاستثمار في القطاع الصناعي دون الخشية من مراسيم تأميم منشآتهم أو التضييق على القطاعات التي يمكن العمل بها والحصة السوقية التي يمكن أن يحظو بها من خلال عملهم. ومن الأدلة الأخرى على إرادة السلطة لتغيير النهج الاقتصادي، هو توقفها عن إصدار الخطط الخمسية، وهي الخطوة التي عدها الدكتور منير الحمش “إشارة يقصد بها الإيحاء للقطاع الخاص والمؤسسات الدولية بالتحول نحو المزيد من الانفتاح الاقتصادي دون الإعلان صراحة عن ذلك”(2).
هنا تجدر الإشارة إلى تزامن إطلاق قانون الاستثمار رقم 10 مع متغيرين مهمين تركا أثراً هاماً في نمو الاقتصاد السوري وتبادلاتها الخارجية في حقبة التسعينيات، وهما: توقيع اتفاقية المدفوعات لسداد الديون السوفيتية على سوريا، واستثناء سوريا من قوانين الحصار المفروضة على العراق بعد حرب الخليج الثانية 1991، فقد تأثر النمو الاقتصاد السوري مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات باتفاق المدفوعات بين سورية والاتحاد السوفياتي (1989-1990) الذي هدف إلى دفع قسط من الديون العسكرية السوفيتية المتراكمة على سورية البالغة يومئذ حوالي 13 مليار دولار من الصادرات السورية خلال خمس سنوات، ومثلت قيمة تلك الصادرات حوالي 3 مليارات دولاراً. أي ما نسبته 23% من قيمة تلك الديون، وكان القطاع الخاص السوري هو المستفيد الأكبر من اتفاقية المدفوعات تلك. إذ بلغت قيمة صادراته خلال فترة تطبيق الاتفاق حوالي 1.5 مليار دولاراً.
وقد ارتفع نصيب صادرته من الصناعة التحويلية من 21.3% من إجمالي الصادرات السورية قبل تطبيق الاتفاق إلى 36.2% من تلك الصادرات السورية بعد تطبيق الاتفاق. وقد استحوذ القطاع الخاص على 54% من مجمل صادرات الصناعة التحويلية فقط نتيجة ذلك الاتفاق، وبلغت نسبة تغطية صادرات القطاع الخاص لمستورداته خلال فترة تطبيق الاتفاق حوالي 130% بعد أن كانت لا تتجاوز 38% ومكن نظام المدفوعات الشركات المنتجة السورية. ولاسيما الحكومية منها، من تصريف فائض انتاجها وتدعيمه بالزيادة المتواصلة في الطاقة الإنتاجية من أجل التصدير أيضاً ووصلت نسبة تغطية صادرات القطاع الاقتصادي العام غير النفطية لواردته نتيجة تطبيق الاتفاق إلى 61% بعد أنَّ كانت لا تتجاوز 22% قبل تطبيق الاتفاق إلا إن الجودة أو الجدوى الاقتصادية لم تحظيا بالاهتمام اللازم، وذلك لانعدام المنافسة الحقيقية في ذلك الوقت، ولتوجه القطاع الخاص لإنتاج أنواع معينة من المنتجات يحتاجها السوق السوفيتي، والنتيجة أنَّ اتفاق المدفوعات قد ساهم في قلب معدل النمو الاقتصادي من 9- عام 1989 إلى 8 عام 1990. إلا انه خسر في المقابل إمكانية تطوير التبادلات التجارية مع الأسواق الروسية بسبب سواء الإدارة والفساد الذي أفضى بناء سمعة سيئة عن المنتج السوري.
أمَّا عن المتغير الثاني فهو البدء بتطبيق الحصار الدولي على العراق وإطلاق الأمم المتحدة برنامج النفط مقابل الغذاء والذي سمح بموجبه لسوريا بتزويد العراق بكافة اشكال البضائع من السلع الغذائية والنسيجية وغيرها(3).
محمد شعباني باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي والعلاقات الاقتصادية الدولية
(1) زياد عربية، المعونات الإنمائية العربية الثنائية، دار نون للنشر والطباعة والنشر، القاهرة، ص 74: 82.
* حصلت سورية على قرض امريكي بقيمة 90 مليون دولار بفائدة 2% في بداية التسعينات منه 6.5 مليون دولار كمنحة لا ترد، وعلى قرض من البنك الدولي بقيمة 135 مليون دولار، وقدرت حجم تحويلات المغتربين السوريين بنحو 750 مليون دولار سنوياً في أواخر التسعينيات. انظر إلى: أيهم أسد، الاقتصاد السوري المهدور، ط1، دمشق، سورية، 2014، ص58.
(2) منير الحمش، الاقتصاد السوري في أربعين عاماً (1971- 2010)، ط أولى، منتدى المعارف، بيروت، لبنان، 2011، ص 210.
(3) أيهم أسد، الاقتصاد السوري المهدور، ط أولى، دمشق، سورية، 2014، ص 80-81.
انظر:
محمد شعباني: بنية الصناعة السورية منذ الاستقلال وحتى عشية الوحدة السورية – المصرية
محمد شعباني: الصناعة السورية منذ القرن التاسع عشر وحتى عام 1946
قانون استثمار الأموال في سورية رقم 10