النشأة والدراسة:
ولد محمد أبو الخير الجندي في حمص عام 1863م.
والده رئيس بلدية حمص محمد افندي بن سليمان آغا الجندي.
من إخوته: عزت الجندي، أدهم الجندي، جودت الجندي، صادق الجندي.
تلقّى علومه الابتدائية في مكاتب الصبيان بالمدينة.
درس المرحلة الإعدادية (الرشدية) في حماة، وحصل على شهادتها بدرجة جيد جدًا في 30 حزيران 1878م، بالتزامن مع دراسته لعلوم اللغة العربية على يد الشيخ محمد عارف المنير الحسيني من علماء دمشق واستحصاله على إجازة علمية منه.
وكان حينها قد أتقن اللغة التركية تحدثًا وكتابةً إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى اللغة الفارسية.
تدرّجه في السلك الإداري العثماني:
انتظم في سلك الدولة الرسمي بعد تعيينه بوظيفة مقيّد قلم التحريرات في سنجق حماة بولاية سورية في السابع عشر من آب 1879م، ثم عيّن في قلم تحريرات ولاية سورية بدمشق في الثالث عشر من شباط 1882م، فيما عيّن أثناء استمراره بوظيفته كاتبًا فخريًا للهيئة الإتهامية التابعة لمجلس إدارة ولاية سورية في الثالث عشر من آب 1887م.
تم تعيينه معلمًا للغة التركية العثمانية في مدارس الخانكية والياغوشية الابتدائية بدمشق في الثالث من كانون الأول 1887م، مع ممارسته لوظائفه الرسمية ذاتها في دوائر الدولة. وبقي يدرّس اللغة العثمانية في المدارس المذكورة إلى أن قدّم استقالته في شباط 1890م.
تم تحويل مأموريته ليتسلّم وظيفة الباشكاتب (الكاتب الرئيسي) للمحكمة الابتدائية المركزية بولاية سورية، وذلك في السابع والعشرين من نيسان 1890م واستمرّ فيها حتى حزيران 1892م.
أسندت إلى عهدته علاوةً وكالة تحرير المقاولات في المحكمة المركزية في السابع والعشرين من أيلول 1890م، وتسلّم الوظيفة أصالةً في آب 1892م واستمرّ بها حتى حزيران 1900م.
تم نقله في تموز 1904م إلى ولاية بيتليس شرق الأناضول فعيّن مديرًا للتحريرات في سنجق موش، فأبدى في وظيفته تلك اقتداره وحسن خلقه وصبره، بحسب تذكرة متصرفية السنجق المذكور.
ثم عيّن مديرًا لتحريرات سنجق كنغري (تشانقرى) في منطقة قسطمونو في التاسع والعشرين من كانون الثاني 1906م، كما أحيلت إلى عهدته رئاسة هيئة إسكان المهاجرين وسُمّي معاونًا للمدعي العمومي في مجلس الإدارة، فلوحظ كمال صدقه واستقامته وإقدامه وغيرته من قِبل الإدارات العليا.
عيّن بعدها مديرًا لتحريرات سنجق دينزلي غرب الأناضول في الخامس عشر من تشرين الثاني 1906م، كما أحيلت إليه رئاسة هيئة المعارف في سنجق دينزلي فأدّى وظيفته بكل استقامة وكفاءة.
ثم نُقل إلى سنجق آيدين غرب الأناضول في السادس والعشرين من أيلول 1907م فعيّن مديرًا لتحريراتها.
وشغل منصب متصرف سنجق آيدين بالوكالة من السابع من آب وحتى السادس والعشرين من أيلول عام 1909م.
عُيّن أخيرًا محررًا لمالية الحرم النبوي الشريف في الثاني من تموز 1910م، إلا أن هيئة التنسيق أبطلت قرار تعيينه بعد شهر واحد، ليُخرج أخيرًا من السلك الإداري تمامًا في العاشر من تشرين الأول 1911م.
نفيه إلى الأناضول:
خلال الحرب العالمية الأولى أصدر جمال باشا قراره الشهير بنفي القافلة الأولى من العائلات العربية إلى الأناضول، فسيقت عبر القطار الحديدي إلى المنفى دون أن تُعطى المهلة الكافية لتصفية علاقاتها، فكان أبو الخير الجندي وبعض إخوته وأبناء عمه ضمن القافلة الأولى. وأقام في مدينة إسكي شهير وسيوري حصار مدة سنتين ونصف، كان خلالها موضع إعجاب كبار الشخصيات التركية بعلمه وفنونه. وحينما صدر العفو عن الشيوخ والأطفال ومن ثم الانسحاب العثماني من سورية عاد المترجم إلى حمص.
تعيينه متصرفًا لحوران وحادثة خربة غزالة:
صدر قرار تعيينه متصرفًا لحوران بتاريخ 25 أيار 1920م.
وبحسب ما يرويه أخوه المؤرخ أدهم الجندي عن حادثة خربة غزالة:
عقب الاحتلال الفرنسي لسوريا أرسلت السلطة المنتدبة قوة مؤلفة من عشرين جنديًا من السنغال إلى حوران، فمانع الحوارنة مجيء هذه القوة وهاجوا وأجبروها على العودة في القطار، فاهتمّ الفرنسيون بهذا التحدي الذي يحول دون توطيد كيانهم الانتدابي في تلك المنطقة، ورأى المرحوم علاء الدين بك الدروبي رئيس مجلس الوزراء في ذلك العهد أن يقوم بزيارة حوران لتهدئة الخواطر، ورافقه في تلك الرحلة المرحوم عبد الرحمن باشا اليوسف رئيس مجلس الشورى لوجاهته ونفوذه على الحوارنة نظرًا لصلات المودّة بينه وبين المرحوم فارس بك الزعبي أحد زعماء الحوارنة، وعطا بك الأيوبي وزير الداخلية، والشيخ عبد الجليل الدرة والشيخ عبد القادر الخطيب وأحمد بك الخاني مرافق رئيس الدولة، ومنير بدرخان. ولما اتصل خبر هذه الزيارة بالسيد أبو الخير أبرق إلى وزير الداخلية يعلمه بأن الشعب الحوراني في هياج وأن الوضع الراهن يستوجب تأجيل الزيارة ريثما تهدأ الحالة، ولما علم باصرار الحكومة على المجيء عززها ببرقية ثانية بيّن فيها خطورة الحالة والعدول عن الزيارة مؤقتًا. فالبرقية الأولى وصلت إلى وزير الداخلية، والثانية لأمرٍ ما تأخر تسليمها دقائق معدودات كان خلالها رجال الحكومة المشار إليهم قد ركبوا القطار بطريقهم إلى درعا.
أما الحورانة في درعا فقد ثاروا على الحكومة وامتطى فرسانهم الخيول وصاروا يطلقون النار إرهابًا، فهرب الموظفون وبقي المتصرف أبو الخير الجندي يجابه الموقف، ولكن الهياج بلغ منتهاه، وشاعت الأخبار أن رجال الحكومة سيوزعون الأموال على زعماء العشائر وانتشرت هذه الفكرة بين العوام، فبتّ الرأي بوجوب قطع الطريق على رجال الحكومة في محطة خربة غزالة ونهب الأموال قبل أن يستأثر الزعماء بالنصيب الأوفر منها، مع أن مهمة وفد الحكومة هي تهدئة الخواطر وإزالة التوتر دون أن يكون هناك أي مبلغ من المال أو فكرة لتوزيع شيء منه.
ولما وصل القطار الذي يقلّ رجال الحكومة هاجمه الحوارنة، وقتل علاء الدين بك وعبد الرحمن باشا اليوسف على يدهم.
ولما رأى تجّار محطة خربة غزالة هذا المصير المؤلم اندفعوا بسائق العاطفة والعصبية- وهم من حي الميدان بدمشق- واحتاطوا بعطا بك الأيوبي ورفاقه وأخفوهم في بيوتهم. وقد فتّش الثائرون على صناديق الذهب في عربات القطار فلم يجدوا إلا الخيبة والندم لما فرط منهم.
ويضيف السيد أدهم الجندي:
“وبالطبع فإن كل ما يقتضي على الحكومة عمله في مثل هذه الأحوال هي إقالة المتصرف، فأبلغ المترجم [أبو الخير] بتاريخ 6 شباط 1921م قرار عزله بداعي أنه لم يقم باتّخاذ التدابير الواجبة للحيلولة دون وقوع ما حدث، وتناست برقياته وهي تشير إلى خطورة الحالة وإرجاء الزيارة لوقت ملائم.”
متصرفية الفرات:
انتخب أبو الخير الجندي لاحقًا ممثلًا لحمص في المجلس التمثيلي في أعوام 1923-1924-1925م، وقد ترشّح عام 1928م نائبًا عن حمص في الدورة التشريعية الأولى للمجلس النيابي، إلا أنه لم يتمكّن من الفوز، خاصةً بعد معارضة أهالي حمص ترشحه ومطالبته بالانسحاب كي لا يؤثر على انتخاب الوطنيين الثلاثة: هاشم الأتاسي، شكري الجندي، ومظهر رسلان.
ثم عيّن بتاريخ 17 تموز 1929م متصرفًا لدير الزور، وكانت محافظة الجزيرة منضمة إليها في ذلك الوقت، فبقي فيها حتى أحيل إلى التقاعد بتاريخ 21 آذار 1931م. وما زال أهل الفرات يذكرون عهده بالخير والثناء.
مؤلفاته:
أتمّ في شبابه ترجمة وشرح لكتاب القدوري في الفقه، وله كذلك رسالتان واحدة في العقيدة والعبادات والأخلاق وأخرى في حقوق الصحبة، وله ديوان شعر منظوم لم ينشر. وهذا بحسب ما جاء في ترجمته الرسمية من الأرشيف العثماني.
وقد ورد في “أعلام الأدب والفن” أن له مؤلّف تاريخ العترة النبوية كان قد كتبه أثناء تواجده في المدينة المنورة، وألّف في منفى الأناضول “تاريخ العباسيين” علّق فيه على المغالطات الموجودة في كتب التاريخ التركية.
وكان قد درس البيان والبديع والمنطق على الشاعر المرحوم (الهلالي الحموي) عندما كان موظفًا في حماة عام 1879م، وتأثر بروحه وأسلوبه.
ومن نظمه قصيدة جاء فيها:
فتكت بعادل قدّها المشهور… ورنت بفاتر لحظها المشهورِ
حوراء لما ان أراشت جفنها… كم من قتيل ضاع إثر أسيرِ
ناديت لما ان شهرت بحبها… يا خير أيامي بها وشهوري
فنه:
كان المترجم يهوى الفن الموسيقي والأصوات الجميلة، مرهف الحس والشعور. تفنّن في نظم الموشحات البديعة وتأثرت ألحانه بالأنغام التركية لطول إقامته في استانبول والأناضول. ولازم الفنان أبو خليل القباني خلال مدة إقامته في حمص بمعية والده محمد افندي الجندي، وارتشف من فنه. والموشّح الخالد “دار من تهواه دار” هو من نظمه وتلحينه، وهذه بعض أدواره:
دار من تهواه دار إن تكن بالحب دار عاذلي دعني وشأني هائمًا في كل دار
اطلعت شمس المحيا في الدجا شبه الثريا فاسقني صافي المحيا من لماذا الخمار
وهذا موشّح من نغمة الحجاز:
حلّت ليلة القدر … مذ بانت أخت البدر..خلف الستر
وحد خلاقًا صور … مجلاها الباهي الأنور ..والمحيا
جل من فيه أظهر … شامات تحكي العنبر.. أعطريا
مه يا عذولي عذرًا … في حبي خود عذرًا… مريميا
لو زارت يومًا كسرى … أضحى في الهوى قسر… قيصريا
وهذا وشح من نغمة الكردان:
صبا قلبي لليلى ولم تعرف … غرام هدّ حيلا ألا تنصف
فكم شقت مرائر ولم تسعف … أصارتني قتليلًا غدا الموقف
سلوا منها عن الدم خضاب الكف … ودمعي سال عندم ولا اوكف
فما حبي بجائر لما استنكف … وحسبي فيه أعدم اما ينكف
وله موشحاته كثيرة منتشرة في الأقطار العربية ومحفوظة من قبل أهل الفن.
وفاته:
مرض على اثر إصابته بنزلة صدرية حادة لم تمهله أكثر من يومين. وفي يوم الخميس التاسع من شهر كانون الأول 1939 وافته المنية بحمص، ودفن بمقبرة عائلته بجوار الصحابي الجليل خالد بن الوليد. وقد رثاه ابن عمه الشاعر محي الدين الجندي بقصيدة مطلعها:
عجيب من الدنيا الوثوق بعهدها… وكأس الردى ما من مذاقته بد
وجاء فيها:
هو السيد الجندي والعلم الذي… أرانا جحيم الحزن من بعده البعد
أبا الخير من طابت مآثره له… مآثر لا يقوى على حصرها عدّ