إياد محفوظ – التاريخ السوري المعاصر
الحاخام إبراهام زعفراني
الولادة والمنشأ
ولد إبراهيم زعفراني عام (1921) بحي بَحْسيتا العريق في حلب.
تربى في كنف أسرة دينية معروفة، يعدّ والده الحاخام سليم زعفراني واحداً من كبار رجال الدين في مدينة حلب، وعضواً في المحاكم الدينيّة في حقبة الأربعينيّات من القرن الماضي، حيث كان الحاخام سليم الشخص المسؤول عن إقامة مراسم الزواج وتوثيقها في تلك الفترة لما كان يتمتع به من دراية وخبرة في قضايا الزواج والأسرة لدى الطائفة الموسوية.
هذه الأجواء التي غلب عليها طابع البيئة المحافظة شجعت إبراهيم على دراسة الشريعة الموسوية لدى أربابها في الكنائس اليهودية التي كانت منتشرة في كثير من الأحياء الحلبية داخل الأسوار أو خارجها، على أنّ هذا لم يمنعه من الانخراط في الحياة المهنية المنتجة، فقد أتقن علم المحاسبة بصيغته التقليدية القديمة، وهو حساب “دوبيا” أو كاتب دوبيا”.
الجانب المهني
دفعته الظروف الحياتية الصعبة إلى سوق العمل في سن مبكرة نسبياً، فقد اشتغل في بداية مسيرته المهنية في أوّل مطبعة حديثة أنشئت في حلب، وهي (مطبعة الكمال)(1) لأصحابها آل جويجاتي، الذين كانوا يملكون عقاراً واسعاً يقع شمال ثانوية المأمون في شارع القدسي بحي الجميليّة.
كما نال الحاخام إبراهيم زعفراني شهرة واسعة في الأوساط التجارية الحلبية، فإنّ إجادته لمهنة المحاسبة فضلاً عن أمانته المعهودة أتاحتا له العمل لاحقاً لدى كبار التجار والصناعيين المنتمين إلى مختلف الطوائف الدينية في المدينة، ومنهم السيد مصطفى هنيدي، والسيد جورج بدرو، والسيد زاريه كالبانيان، ثم لدى الصراف كارو، وأخيراً عمل فترة من الزمن في السبعينيّات من القرن الفائت في شركة يملكها الدكتور محمد بشير مكي، التي تختص بصناعة مساحيق التنظيف ومنتجاتها.
لم تتوقف حياته المهنية عند هذا الحد، بل أصبح مع تنامي سمعته الطيبة واحداً من أولئك الذين يلجأ إليهم الناس ليحتكموا لديه في حل خلافاتهم التجارية.
سأعرض تالياً حادثة جرت تفاصيلها في منتصف الثمانينيّات من القرن العشرين، حين وقع الخلاف على الإرث بين أفراد أسرة حلبية معروفة، وهذه القصّة رواها لي صهره السيد جاك شقالو، الذي كان يعمل محاسباً لدى الحاج مصطفى النايف، أحد كبار الشخصيات التي تعمل في تجارة السجاد في مدينة حلب.
اعتاد جاك شقالو اصطحاب دفاتر الحسابات والمستندات الملحقة بها إلى منزله في أيام الخميس من كل أسبوع لاستكمال الحسابات يوم الجمعة بدلاً من يوم السبت الذي لا يعمل فيه كما هو معروف.
شاءت الأقدار أن ينتقل الحاج مصطفى النايف إلى جوار ربه في أحد أيام الجمعة، فبقيت دفاتر الحسابات في منزل السيد جاك إزاء هذا الحدث الطارئ، وما انتهت فترة العزاء حتى دبّت الخلافات بين الورثة، فقد طالب السيد محمد النايف من جاك تسليمه دفاتر الحسابات والوثائق جميعها كونه الابن البكر للمتوفى، وربما كان هذا الأمر ليبدو طبيعياً لولا معارضة أخوات محمد البنات وأزواجهن السيد عبد الفتاح النايف، والسيد عبد السميع النايف، الذين طالبوا بدورهم من المحاسب أن يقوم بتسليمهم المستندات جميعها، وهنا وقع السيد جاك شقالو في حيرة من أمره لحساسية الموضوع وخطورة تبعاته إنْ لم يحسن التصرف، فاقترح عليهم أن يتولى حموه (والد زوجته) رجل الدين المعروف إبراهيم زعفراني الموضوع، ويقوم بدراسته، والفصل فيما بينهم، وفعلاً وافق الجميع على هذا الاقتراح لما كان يتمتع به السيد زعفراني من سمعة عطرة وأمانة مشهودة، وهذا ما كان، حيث استطاع أن يحل الخلاف القائم بينهم على نحو ودّي، ويعطي لكل ذي حق حقه.
الجانب الاجتماعي
إنّ تجاور العائلات المسلمة واليهودية بالسكنى في عمارة واحدة بحي الجميليّة كان أمراً شائعاً ومألوفاً، وفي أحيان كثيرة نجد هذا التقارب في الطابق نفسه، وهذا ما تميزت به بناية صفرا، فقد سكن في البيت المجاور لمنزل الحاخام إبراهام زعفراني، أسرة السيد محمد القاسم، وفي الدور الأول قطنت أسرة القاضي المعروف فاضل بصمه جي (رئيس محكمة النقض العليا في سورية)، وأسرة الكوراني، وقد امتازت علاقة العائلات الأربع بحسن الجوار، والاحترام المتبادل، حيث اعتادت نساء المبنى لا سيما السيدات (ضياء يكن، فورتينه نفتالي، وعريفة قولي) ارتشاف قهوة الصباح بشكل شبه يومي في إحدى شرفات بيوتهن.
نشير إلى أنّ هذه البناية التراثية ما زالت موجودة حتى الآن، أمّا عائلة صفرا الحلبية الثرية فسوف نقوم بالحديث عنها في موقع آخر من هذا الكتاب.
الجانب الأخلاقي
تمتع السيد إبراهيم زعفراني بسمعة طيبة كرجل دين معتدل، مما جعله يكسب احترام وتقدير الآخرين، ويحتل مكانة اجتماعية مرموقة بين أهالي حي الجميليّة من اليهود والمسلمين.
في يوم من الأيام تناهت إلى أسماع الخواجة إبراهيم أخبار تدعو إلى الريبة والقلق، حيث دارت الشكوك حول دكان القصاب (أبو صطيف الشوا) المختص ببيع اللحم الحلال لليهود (الدخيا)، الذي كان يأتي إلى محله بعد ذبحه وفق تعاليم الشريعة الموسوية تحت إشراف مندوب الكنيس في مسلخ المدينة، فقد سرت شائعة بين أوساط الأهالي تفيد بأنّ القصّاب (أبو صطيف) يقوم بخلط لحم اليهود الحلال باللحم الذي كان يبيعه لزبائنه المسلمين، ولحساسية الموضوع كان لا بدّ للخواجة إبراهيم أن يبادر إلى حلّ سريع، من شأنه أن يدفع القصاب (أبو صطيف) إلى التوقف عن هذه التجاوزات غير المبررة.
هدته حكمته ورصانته إلى اتباع الحسنى معه، فدعاه إلى منزله لتناول كأس من الشاي، لم يتأخر القصاب في تلبية الزيارة فهو يكنّ لجاره السيد زعفراني الحب والاحترام.
ما إن وصل أبو اصطيف إلى منزل الحاخام زعفراني حتى قدم له الأخير كأساً من الشاي، متظاهراً بإضافة بضع قطرات من الويسكي فوق الشاي، ثم قال لأبي صطيف:
– هل ما أقوم به حلال؟
فانتفض أبو صطيف هاتفاً:
– أعوذ بالله، أكيد الويسكي حرام.
فعاجله السيد زعفراني بكلمات حاسمة:
– ولكنه حلال بالنسبة لنا.
ثم أضاف:
– كيف إذن تخلط اللحم في دكانك وتبيعه لجماعتنا على أنّه لحم حلال؟
فردّ عليه أبو صطيف:
– إنّ اللحم الآخر أيضاً حلال، ومذبوح حسب الشريعة الإسلامية.
ولكي يقطع الشك باليقين طلب الخواجة إبراهيم من السيد (أبو صطيف) أن يسأل إمام جامع الصديق عن الموضوع، ويتبين الأمر.
وما إنْ سأل الشيخ حتى أجابه فوراً، وبصورة لا لبس فيها:
– إنّ ما تفعله هو الغش بعينه، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قال: من غشّ ليس منّا.
وهنا انتشر الخبر في الحي، حيث وصل كلام الشيخ إلى الحاخام عن طريق حلاق الحارة السيد (أبو زكي)، ومنذ تلك الواقعة تمكنت حكمة السيد زعفراني من تعطيل ممارسات (أبو صطيف) التي كان يغلب عليها الجهل والاستهتار.
الجانب الأسري
انتقلت أسرة الحاخام إبراهام زعفراني للإقامة في حي الجميليّة في الأربعينيّات من القرن الفائت، حيث سكنت بداية في منزل يقع في بناية تعود ملكيتها لآل نحماد في شارع إسكندرون مقابل مقر نادي صف الضباط القديم بالقرب من تقاطع الصومعة، ثم انتقلت الأسرة لاحقاً إلى مسكن آخر في بناية آل صفرا الكائنة في شارع إسكندرون بجوار “كافتيريا أنترانيك”، وفي هذا البيت تزوج الخواجة إبراهيم من السيدة فورتينة نفتالي، حيث أنجبا فيه ستة أطفال (ثلاثة أولاد، وثلاث بنات).
سليم الابن الأول من مواليد عام (1949)، احترف مهنة المحاسبة أسوة بوالده وجدّه، حيث عمل مديراً مالياً لدى مؤسسة (بللو) لصناعة النسيج، وتركها عام (1992) إزاء هجرته إلى مدينة (نيويورك) في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد عمل بداية بوظيفة محاسب في أكبر بنك في المدينة وهو (Republic Bank Of New York)، وذلك لاكتساب الخبرة والتأقلم مع الحياة الجديدة، ثم شغل منصب مدير مالي لشركة كبيرة مختصة بتجارة الحلي والمجوهرات.
الابن الثاني نسيم من مواليد (1952)، تابع دراسته في كلية العلوم بجامعة حلب إثر حصوله على الشهدة الثانوية، إلّا أنّ الأقدار دفعته إلى مغادرة بلده عام (1973)، حيث أكمل دراسته الجامعية في أحد البلاد الأجنبية، وحصل على شهادة عليا في علوم الفيزياء.
أمّا الابن الأصغر يوسف، وهو من مواليد (1957) فقد فضل العمل في مجال صياغة الذهب، إلى أن رحل عام (1979) إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يعمل الآن مديراً تجارياً في إحدى شركات الإلكترونيات المشهورة في مدينة نيويورك.
في حين نالت الفتيات الثلاث (بيلا، كامو، لينا) شهادة الثانوية العامة من مدرسة الجاندارك (معهد المحبة)، الموجودة في حي العزيزية.
بيلا من مواليد عام (1951)، تزوجت من التاجر المعروف السيد ألبير نقّاش، الذي كان عضواً في مجلس الطائفة الموسوية بحلب، وقد غادرا بلدهما عام (1992) إزاء الظروف الحياتية الصعبة المعروفة، وانتقلا للإقامة في حي بروكلين بمدينة نيويورك، حيث تابع السيد ألبير عمله المهني في تجارة الأحذية.
الابنة الثانية كامو وهي من مواليد (1960) انتسبت إلى كلية العلوم الاقتصادية بجامعة حلب إثر حصولها على الثانوية العامة عام (1977)، ومن ثَمّ تزوجت من السيد جاك شقالو الذي كان يعمل مديراً مالياً في معامل الصباغ الشهيرة، وهو أيضاً عضو في مجلس الطائفة الموسوية بحلب، وقد غادرت حلب مع زوجها وأولادها عام (1992) بصورة رسمية إثر محادثات السلام في مدريد، واستقرت مع أسرتها في منطقة بروكلين بمدينة نيويورك، وقد عمل زوجها جاك أيضاً محاسباً في البنك نفسه الذي اشتغل فيه أخوها سليم لمدة سنتين بغية اكتساب خبرة البلد، ثم اتجه إلى العمل الحر في تجارة الساعات.
أمّا الابنة الصغرى لينا وهي من مواليد عام (1963)، فقد تركت مدينتها حلب برفقة أخيها يوسف عام (1979)، وتوجهت إلى مدينة نيويورك، حيث تزوجت من رجل الأعمال المصري الخواجة (جو خضري).
نهاية المطاف
دون رغبة منه غادر السيد إبراهيم زعفراني حلب مع أسرته عام (1987) بسب الظروف القاسية المعروفة، واستقر في مدينة نيويورك، حيث تابع حياته كرجل دين في إحدى كنائس حي بروكلين العريق.
وافته المنية إثر حادث دهس أليم عام (2004)، تاركاً وراءه سيرة عطرة وسمعة طيبة سواء في مسقط رأسه بحلب، أو في موطنه الجديد بنيويورك، في حين ما زالت زوجته السيدة فورتينة نفتالي وأولادها وحفدتها جميعهم يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما عيونهم وقلوبهم وعواطفهم ترنو إلى حلب الشهباء موطنهم الأم.
تقول المهندسة رفيف زينو:
في بداية الثمانينيّات انتقلت أسرتي للإقامة في شارع إسكندرون بحي الجميليّة، وصادف أنّنا سكنّا في بناية تقع مباشرة أمام عمارة آل صفرا.
الغريب في الأمر أنّني طوال سنوات عديدة لم أكن أعرف أنّ ثمّة رجل دين يهودي يسكن في الجهة المقابلة لمنزلنا، ولكن ما أذكره تماماً أنّ هذا الشخص كان يخرج من المبنى حين يتنفس الفجر نسمات الصباح الأولى وهو يحمل في يده كتاباً، يبدو أنّه كان الكتاب المقدس، ويتجه صوب الشارع المجاور.
لم يمنعه البرد القارص، أو الأمطار الغزيرة، أو الحر الشديد يوماً قطّ من مغادرة منزله إزاء تفتح أنوار الصباح، وكنت أشعر بأنّ بريق طيفه يسبق خطواته التي كانت ممهورة بالحكمة والبركات، بل هي أعمق من أن توصف، ولكن إلى أين، فعلاً لم أكن أدري.
الآن أدركت لِمَ كانت مشاعري ترافق هذا الرجل الوقور على نحو عفوي، ولا يزال خياله يداعب ذاكرتي بين الفينة والأخرى على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود ونصف على رحيله.
يقول إلياهو إلياهو:
شكراً أستاذ إياد، لقد عبّرت في مقالتك بصدق عن الحب الذي كان سائداً بين أبناء البلد جميعهم، صباح الخير، تفضل يا جار، القهوة على النار، صباح الورد والياسمين، والابتسامة الحلوة بين الجيران من أوّل الحارة إلى آخرها، هذه الأمور موجودة فقط في حلب، أشكرك على مقالك الرائع، وإنْ أراد ابن الحاخام إبراهام أن يكتب مقالاً عن والده لما استطاع أن يكتبه بهذه الصورة البديعة كما فعلت.
انظر:
إياد محفوظ: المطربة فيروز الماميش