عام
جولة نائب المبعوثان لطفي فكري الانتخابية في دمشق عام 1912
عمدت قوى المعارضة التركية إلى دمج أحزابها في حزب معارض لجمعية الاتحاد والترقي وتحت اسم (حزب الحرية والائتلاف). وشن هذا الحزب حملات عنيفة ضد سياسة الاتحاديين المركزية.
تصاعد هذا التيار وتحت الضغط وافق السلطان على حل المجلس وأصدر إرادة بذلك في الخامس من كانون الثاني 1912 جاء فيها: ( بموجب المادة السابعة من القانون الأساسي والتي تخولنا فسخ المجلس، وبموافقة مجلس الأعيان فقد أصدرنا إرادتنا بفسخ مجلس المبعوثان على أن يجري انتخاب المجلس الجديد خلال مدة ثلاثة أشهر ولغرض تنفيذ ذلك أصدرنا إرادتنا إلى الصدر الأعظم لإجراء ما يقتضي.
تحدثت بعض المصادر عن ملاحقة الاتحاديين لقادة حزب الحرية والائتلاف المعارض ويرهبونهم كعبد الرحمن الشهبندر، شكري العسلي، كما حاولوا تلفيق التهم ضدهم قبيل الانتخابات. كما عمل الاتحاديون إلى استمالة وجهاء سورية من المناوئين لحزب الحرية والائتلاف من أمثال محمد باشا العظم، وعبد الرحمن اليوسف، سليم الكزيري، وعلاوة على استمالة بعض النواب السابقين أمثال خالد البرازي نائب حماة وسعد الدين المقداد نائب حوران.
فيما شرع بعض النواب السابقين بالإعداد والتحضير للانتخاب وقاموا بجولات انتخابية في بعض المدن في ولايتي سورية وحلب.
في مطلع شهر شباط عام 1912 قام النائب لطفي فكري بجولة انتخابية إلى دمشق. وبهذه المناسبة أقام الحزب الحر المعتدل مهرجاناً خطابياً في حديقة الأمة مساء السبت العاشر من شباط عام 1912م.
افتتح الحفل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بكلمة قال فيها: (ما وقفت بجانب مبعوث إلا وشعرت بنفسي احتراماً نحوه. لا لأنني أعبد القوة بل لأنني احترم آراء شعب أنابه عنه. إن رجلاً انتخبه خمسون ألفاً لحري بالاحترام. نعم! قد يخطئ الشعب في بعض الأحايين وينتخب من ليس كفوءاً ولكننا نحترم الرأي العام لأن صوته يتنزل من وحي إلهي. الأفراد أقرب للخطأ من الشعوب، وهذا هو المعني الحقيقي لما ورد: “لا تتفق أمتي على ضلالة”.
أيها السادة! جرت العادة إذا أراد أحد أن يقدم الآخر أن يقول: إنه فلان بن فلان، تعلم في المدرسة الفلانية، ونال الرتبة الفلانية، والوظيفة الفلانية.. وهو ذو ثروة ومجد.
كل ذلك لا يعد امتيازاً لأحد. نعرف كثيرين ممن حصلوا في المدارس العالية، وليس لهم ميزة عن العامة. ما معني الرتبة الفلانية؟ منصب واه كان يدفع عليه الرجل مبلغاً فيناله. ما معني الوظيفة؟ كم من موظف بل كم من صدر أعظم خان وطنه. ما معنى الثروة؟ ما هذا الظل الزائل الذي يفتخر به البشر.
ليس الغنى الحقيقي بالأصفر الرنان بل الغني في القلب. لذا فإنا إذا قدمت لكم خطيب هذه الحفلة أضربت عن هذه الأوصاف جميعها ووصفته بشجاعة القلب.
الشجاعة هي أن يقدم المرء على القيام، وساروا سيراً حثيثاً توصلا إلى بغيتهم فقام بوجههم من قال لهم: على رسلكم أيها الخونة! إلا يسمى هذا شجاعاً؟
هذا الشجاع هو خطيبنا الكريم لطفي بك فخري الذي ترونه أمامكم).
ثم استمر في ذكر مزايا لطفي فكري وبعد انتهاء عبد الرحمن الشهبندر من الكلمة تقدم “لطفي فكري” إلى كرسي منصة الخطابة، وقال : (أبداً كلامي بأداء واجب الشكر إلى أهالي دمشق المحترمين الذين آنست منهم من آثار الاحتفاء وإكرام الوفادة مالا أنساه إلى الأبد. كما أني أشكر حضرة الخطيب الذي قدمني إليكم، وأحسن ظنه بي، وأرجو منكم معذرة إذا لم أتمكن من الجهر بالصوت أكثر من هذا الحد.
أيها الكرام! أنا الآن ذاكر لكم تاريخ حياة الدستور خلال أربع سنوات بغاية الاختصار ودواعي ما طرأ عليه من التحول ولما يترتب عليكم القيام به في الانتخابات.
كل منا يذكر أن إعلان المشروطية قبل أربع سنوات كان عيداً ملياً لا يقاس به غيره من الأعياد عم به السرور في داخل الممالك العثمانية وخارجها حتى أنني كنت حينئذ في الديار المصرية فجئت إلى أزمير فما كنت أصادف أحداً فيها، ممن أعرفه ولا أعرفه، إلا ويهجم علي فنقبل بعضنا بعضاً قبلات اخلاص وجنان. فسحت الصدور للإخاء والمودة حتى أن عصابات البلغار والروم وغيرها في الروم ايلي ألقت السلاح وصافحت الجند وتناست ما بينهما من الثارات والدماء.
حييت الآمال في الأمة وأصبح كل فرد يترقب في العمل. ولكن تلك الآمال ما لبثت أن أخذت تنطفئ الواحدة تلو الأخرى إذ عقبت ذلك العيد الميمون سلسلة أفعال مظلمة ما كانت تنتظر صدورها من المشروطية.
لا يسع المجال أن أسهب في القول عن هذه الأعمال غير أنني أذكركم ببعضها: ففي المقدمة قضية جمع الأسلحة من أهالي الروم إيلي. وأن أولئك البؤساء لم يكن أحد منهم أميناً على عرضه وحياته وماله فكانوا يتخذون السلاح للدفاع، نعم السلاح لا ينبغي أن يحمله سوى الجند، وموظفو الأمن، ولكن ماذا يصنع الأهالي إذا لم تكفل لهم الحكومة مسئلة أمنهم، ألا يلتجئون إلى السلاح؟
أسفرت قضية جمع السلاح عن أغبرار الأهالي في الروم إيلي من مسلمين ومسيحيين وانتقلت هذه القضية إلى صفحات الجرائد الأوربية فحركت علينا الرأي العام الأوربي وكان ما كان.
أما مسائل حوران والكرك فهي بين أيديكم تشاهدونها عن كثب. وأخيراً حدثت حرب طرابلس الغرب المشؤومة.
تسلسلت هذه الحوادث خلال أربع سنوات فقضت على آمال الشعب، وما المسبب لها إلا سوء إدارة الحكومة. ولا نرجو حداً يقف بوجه سيئات الحكومة الحاضرة سوى الانتخابات الذي أنتم في صدده فإذا حسنت نتيجته فثمة الحياة، وإلا فتلك الحوادث تستمر في التسلسل وتودي بنا إلى الدمار لا سمح الله.
أيها السادة: ينبغي للإنسان أن يكون منصفاً قبل كل شيئ فأنا إذا تكلمت عن الفرقة المعارضة لنا فليس من الحكمة أن أغادر الأنصاف وراء ظهري. إن الرجال الذين تتألف منهم الحكومة والفرقة الاتحادية هم من ذوي النية الحسنة ولا ريب بأنهم لا يرضون بانقراض الدولة لا سمح الله.
فخطيئتهم يمكن تعليلها جميعها بعلتين:
الأول، قلة التجربة وأن الأهالي خدعها بهم إذا اعتقدوا أنهم موجدو الدستور.
والثاني، عدم تعيينهم خطة يسيرون عليها في إدارة المملكة، ولهم الحق في ذلك لأن وضع خطة قطعية عقب إعلان الدستور لم يكن من الأمور السهلة.
هذا السبب الثاني يمكننا عطفه على المحيط أكثر من الأشخاص فتأثير المحيط لم يولد مع الاتحاديين حتى الآن فكراً معيناً عن إدارة المملكة وقد مضى على المشروطية زهاء أربع سنوات.
تعرفون جيداً ما هو قانون الولايات، هذا القانون لم يخرج حتى الآن من المجلس ولكن كونوا على ثقة من أنه وإن خرج لا يبدل شيئاً من الحالة الحاضرة، لماذا؟ لأن الذين سنوه لم يلاحظوا ما توجه عليهم من الإعتراضات في هذا الصدد من قبل المعارضين.
ولعبت بهم الأوهام والخيالات وراحوا يتخذون “عدم المركزية” حجة علينا ويعتقدون لجهلهم بالإدارة أن فيها خراب المملكة ودمارها فهذا ما دعى لتأخير قانون الولايات حتى الآن.
ولو نظرنا إلى أعمالهم في إصلاح الولايات لما رأيناها تتعد على تبديل النظار والولاة والمتصرفين، على حين أن هذه التبدلات الفرعية لا تجدي نفعاً والأساس لم يتغير. فالناظر مثلاً لا يمكن أن يسير سيراً حسناً مالم يكن لديه قانون كامل يستنبط منه خطته.
بسبب ذينك الأمرين المار ذكرهما لم يتمكن الاتحاديون من أحداث إنقلاب حقيقي في أعمال الحكومة ولكنهم لم يعترفوا بقصورهم بل أخذوا يسخطون على كل ما انتقد أفعالهم وليس من شأن الرجال أن يغضبوا من الانتقاد فأخذوا يصموننا بأننا خونة، وأننا جناة وأننا.. وأننا..
وكل ذلك لم يوقفنا عن السير نحو غايتنا واعتمادنا على الأمة المتأففة من أعمال الحكومة. ولم تقف التهمة عندنا فقط بل العرب والروم والبلغار والأرناؤوط كلهم اتهموا بتهم لا صحة لها من ذا الذي يرضى منكم معاشر السوريين بوصمة الميل عن العرش العثماني.
أنا أشعر بنفسي حقاً لأن أرد بأسمكم هذه الوصمة الشنعاء.
لنعذر أولئك إذا لم يحتملوا الانتقاد فاحتماله ليس من شأن كل إنسان ولكن مهما طال الأمد فلابد للحق من الغلبة.
أخذت قوة الاتحاديين بالهبوط يوماً فيوماً حتى خسروا مكانتكم الأولى وكادوا يضيعون الأكثرية فعمدوا إلى تعديل المادة الخامسة والثلاثين.
أيها السادة! اختلاف الفرق أكبر مظهر من مظاهر الدستور، وإذا لم يكن ليل لم يعرف قدر النهار، فسقوط فرقة من موقف الأكثرية إلى موقف الأقلية ليس بالأمر الغريب لأن تداول الأكثرية بين الفرق المختلفة من مقتضيات الدستور.
فالفرقة التي تبوء بالأقلية لابد وأن تكون أتت بأعمال أوجبت انسحاب بعض أعضائها منها فما كان أجدر بها أن تصلح الخطأ وتقوم الأعوجاج لتسترد ما خسرته لا أن تعمد إلى استعمال المكائد في سبيل الاحتفاظ بالأكثرية كما فعلت فرقة الاتحاد والترقي بتعديل المادة “35”.
تعلمون أن للحضرة السلطانية حق إغلاق المجلس ولكن بعد موافقة مجلس الأعيان. يقول الاتحاديون: لماذا نجبر الحضرة الشاهانية على طلب موافقة الأعيان ونحدد بذلك سلطته. هذه هي الحجة الأولى التي يحتجون بها على تحديد سلطة الحضرة الشاهانية ولكن لنفكر قليلاً أن السلطان مقدس وغير مسئول والعهدة تلقى على القوة الإجرائية، ولهذه القوة بمقابلة المسئولية حق كبير وهو أن الإرادة السنية لا تصدر على أمر ما إلا بعد أن يعرض هذا الأمر على الذات السلطانية.
كذلك المجلس فإنه يغلق بعد أن تعرض القوة الإجرائية “هيئة الوكلاء” أمر إغلاقه على السلطان، وإذا لم يقع العرض لا تصدر الإرادة إذا فبتبديل المادة 35 نكون وسعنا سلطة الخليفة أم سلطة الحكومة!.
الحكومة لا ترمي بتعديل المادة إلى توسيع سلطة الخليفة بل إلى توسيع سلطتها كما مرد ذكره.
يذكر المخالفون لنا سبباً آخر لتعديل المادة ذلك السبب هو ضرورة توازن القوى.
ولكن ذهل عن بال هؤلاء أن المجلس هو نائب الأمة وأن سلطة الأمة فوق كل سلطة فكيف يمكن توازن الأمة والحكومة وإذا كان للحكومة حق إغلاق المجلس تصبح حينئذ كلمتها فوق كلمة الأمة، وتخسر الأمة حاكميتها ولا يبقى من فوق بين مجلس المبعوثان ومجالس الإدارة في الولايات فكما أن مجالس الإدارة خاضعة لرؤساء الحكومة يكون المجلس النيابي خاضعاً لمجلس الوكلاء فهل ترضون بذلك؟ “أصوات كلا .. كلا”.
وإذا توسعنا في البحث قليلاً رأينا أن كل وزارة من وزارات الدول المتمدنة تسقط في السنة أربع أو خمس مرات في حين أن مجلس النواب لا..
المجلس من حيث الأهمية ومع ذلك فالمجلس منذ أربع سنوات لم يسقط وزارة: عدا حادثة كامل باشا والحكومة وأغلقته قبل إنقضاء مدته فكيف يمكننا أن نسمح للحكومة بهذا الحق تتلاعب به حسب أهوائها وتغلق المجلس من حين إلى آخر خلافاً للقواعد النيابية.
مما ذكر أيها السادة يستبان أن مسئلة تعديل المادة هي مسئلة حياة وممات للأمة، والحكومة تتلاعب تلاعباً غريباً. بالأمس سقطت وزارة سعيد باشا ثم عادت فتألفت كما كانت في حين أنه لا يجوز إرجاع وزارة بعد سقوطها فإذا فكرنا قليلاً نحكم على الأمة بلزوم المطالبة بتوسيع المادة 35 لا بتعديلها وتحديد سلطة الأمة ومنح القوة للحكومة.
أيها السادة: جاء في المثل السائر”لكل مصيبة فائدة” فعلينا أن نتسلى بالفائدة التي قد نحصل عليها من جراء المصيبة التي آلمت بنا ولا نرتقب الفائدة إلا من الانتخابات الجديدة. الانتخابات في أوربا تجري على خطة واضحة ومادة م عينة فعليكم أن تعينوا هذه المادة. وإذا كنتتم تعتقدون مثلي أن مسئلة تعديل المادة 35 هي مسئلة حياة وممات فما عليكم إلا أن تسائلوا كل مرشح من المرشحين فيما إذا كان راضياً حرمتموه من أصواتكم وإلا منحتموه إياها بعد اختبار مقدرته الذاتية.
هذه هي آخر كلمة أعرضها عليكم واستودعكم الله لأني مسافر غداً إلى بيروت وأكرر ما أوليتموني إياه من المنن التي لا أنساها إلى الأبد).
بعد إلقاء لطفي فكري كلمته ألقى الشهبندر كلمة شكر فيها فكري وأعلن انتهاء الحفل، ثم تقدم بعده فارس الخوري وألقى خطبة مطولة، ثم تلى عارف الخطيب “أحد المأمورين المعية” قصيدة أثنى فيها على لطفى فكري وذكر مواقفه في مجلس المبعوثان.
واختتمت الحفلة ببيتين للشاعر الشيخ عبد الرحمن القصار ضمنها تأريخاً للحفلة(1).
(1) السوريون في مجلس المبعوثان – الدورة التشريعية الثانية (المشروطية الثانية) 1912
(2) صحيفة المفيد- بيروت، العدد 908 الصادر يوم الأربعاء الرابع عشر من شباط عام 1912م.