اختيارات المحررمقالات
د. سعد طه كيّالي : الزغاريد والهنهونات الحلبيّة في مؤلفات الأسدي
د. سعد طه كيّالي – التاريخ السوري المعاصر
يُعتبر كتاب (يا ليل) لمؤلفه العلامة الشيخ خير الدين الأسدي من أهم الأسفار التي رصدت التراث اللامادي ، في سورية عامةً وحلب بوجه الخصوص ، حيث بادر إلى دراسة نشأة كلمة (ياليلي – ياليل) من الناحية التاريخية واللغوية عبر الغَوص في الحيثيات الحضارية للأمم العربية والفارسية والتركية والكردية ، محاولاً إيجاد أصول تلك الكلمات التي صارت معياراً أساسياً للغناء لدى تلك الشعوب .
وأحسبُ أنّ الأسدي تعرّض لكثيرٍ من المعاناة في سياق جمعه وبحثه عن المصادر المشتتة والأوراق المُبعثرة ، إذ يذكر في مقدمة الكتاب ” المؤثرة ” مُخاطباً صديقه الخفيّ … دوماً :
( … ولَكَم أضناني – يا صاحبي – أنْ كانت هذه الغرائب منثورة هنا وهناك ، مُسجاة بأضاليل الترّهات ، مهشّمة الأوصال، مصدّعة الأركان ، نخِرة العظام ، يتهلّل البِلى ، أن ظفِر بها أو كاد ، وضمّها أو سيضمّها إلى أخواتها سبايا أفلاذ ” المعرفة “.
وكان لي – على ضعف حَولي وميسوري – أن انتزعتها لكَ من يدِ البِلى ، وها هي ذي- بحوْل الأسعاد العنديّ – في قبضة يدي. وهأنذا أجمع أوابدها وآذن للنور أن يُجلي معالمها وأضمّ الأوصال وأحكم الوشائج وأرأب الصدوع وأدعم العظام وأكسو العظام لحماً ثم أنفخ فيها من روحي وأنفث فيها من رُوعي ، مراسم قَول ومناسمَ خاطر …)
ليبادر من ثَمَ إلى دراسة عدة مواضيع في سياق ” يا ليل ” وليسلط الضوء على حيثية هامة في التراث الشعبي اللامادي هي :
الزغاريد والهنهونات
يتطرّق مؤرخنا الأسدي في فصل الزغاريد إلى دراستها وسردها ، بأسلوبه الرصين الظريف المُحبّب ، المُتعارف عليه من قِبَل متابعيه وقرّائه ، إذ يقول :
وتُسمى الزلاغيط : أصوات تُحدثها النساء خاصة للتعبير عن الفرح ، وكثيراً ما تُسبق بشعر عاميّ ، يُقال في الأفراح ، يُدعى بالهنهونه …
يضع النساء يُمناهن على الفم على هيئة رفّ مائل لينصبّ هدير الصوت إلى أسفل ، ولِمَ ذلك ؟ لا أعلم … ولعله في الأصل اقتصاد في ارتفاعه لئلا يسمعه الرجال ، ثم يُقلقلن لسانهن بالصوت ، فيترامى للسامع ( لي لي لي … أو … لو لو لي).
وطريف أن ننقل تفسير هذه الزغردة السائدة في نساء الشرق – وإن كنّا لا نقرّه – ( حسب الأسدي )، وكأنّ القائلة تقول : إنّ ذلك الإغراء أو التحريض أو الاستحثاث هو له أي ” للسامع ولي أنا ” .
وحدثتُ آلاتياً ( موسيقياً ) في حلب عن التفسير هذا ، فقال : لا … بل الزغردة في ( لي لي لي ) منتهية بليش ، وتفسيرها في حفلات الأعراس : هذا العريس الحلو لي أنا أو ليته يكون لي … ولمّا تيأس من أن يكون لها تختم الزغردة بليش أي ليت لي شيئاً منه أي ليته يعاشرني ليلة ( هذا ما أورده الأسدي من تفسير نقلاً عن الموسيقي ، وأكدّ عدم إقراره له).
ويوضّح الأسدي بأنّ ( لي لي لي ) هي وليدة ( يا ليلي ) حيث يستطرد قائلاً :
ومذهبنا فيها أنها من ( يا ليلي ) لأنّ هنهوناتها كالموالات البغدادية والمصرية تجري على البحر البسيط، أما (يا ليلي) فتُحذف في الهنهونات وتُبدّل بهذه الزغاريد .
ومن هذه الهنهونات :
يا نجمة الصبح فوق الدار ……..علّيتي
شمّيتي ريحة الحبايب وجيتي وضويّتي
ندراً عليّ إذا راحوا على …………. بيتي
لاشعل لهم شحم قلبي إن خلص زيتي
ثم يورد الأسدي نقلاً عن صديقه الأب جرجس شلحت مؤلف كتاب (هنهونات حلب) إذ يقول :
ومنها وقد يعبثون بوزنه
إييييها يا نهر حلب حاجه تمتلي …وتزيد
إييييها عدّوا عليك الصبايا بسلاسل بيض
إييييها خشخشتلن بالدهب، قالوا الدهب ما نريد
وعيون غيرك سبق وإنْ كنت عاشق زيد
(تنويه : قمت بتكرار حرف الياء ، ليتمكن القارئ من تمييزها ، علماً أنّ المؤرخ الأسدي أوردها على الشكل التالي ” إيها ” )
ومن الهنهونات ما وزنه مستفعلن فعلان ( فهو مشطور البسيط ) ومثاله :
غنّى حمام البان عا مايل الأغصان
لمّا تمايل فيه. عروسنا الريان
وهذا الوزن بندر …
وبهذا يختم مؤرخنا فصل الزغاريد في كتابه المذكور . وتجدر الإشارة إلى أنّ الأسدي كان قد تطرّق إلى الزلاغيط والهنهونات في موسوعته الشهيرة قائلاً :
زلْغط ويلفظون زاءها ” ظاء ” دون إخراج اللسان فيها ، أو زغلط تحريف زغرد البعير : هدَر مردداً هديره في حلقه، استعاروها إلى تصويت النساء في الأفراح تصويتاً خاصاً.
ولفت انتباهي ما أورده الأسدي عن الزلغوطه في حماة السوريّة ، التي تختلف عن الحلبيّة ، وهي أنّ نساء حلب عندما يزغردن يدعمن فمهن بيدهن اليمنى بأن تنصب إبهامها كخط عامودي على زاوية الفم اليمنى ، ويُتخذ من سائر أصابعها شبه بوق ثم يُرسلن المغردات الجماعية ، بطريقة ( لي لي لي لي ).
أمّا في حماة فيجعلن من السبابة والإبهام طوقاً للشفتين ويطلقن الزلغوطه بطريقة ( لو لو لو لو ) أي بضمّ اللالات .
وأقتبس مما ذكر الأسدي عن الهنهونة ، في موسوعته : … أطلقوها على رباعية في لهجتهم ، تقولها امرأة في مناسبة فرح كالعروس والطهور والنشيدة والحجّ ، وسائر النساء يزغردن . وبُنيت من ( هنّأ ) بالعربية ، أو ( هنانيا ) السريانية بمعنى التهنئة الصغيرة ، أما جمعها فهي الهنهونات والهناهين …
وأختم مقالتي بهنهونه أوردها الأسدي في موسوعته ضمن سياق كلمة ” زار – زاره – يزوره ” :
يا عريسنا بوجّك ……….نور
والخضْر ألَك …………ناطور
شقد ما ردتْ في الدنيا تدور
متل عروستَكْ ……..ما بتزور
المصادر :
– كتاب ( يا ليل)، م. خير الدين الأسدي ، مطبعة الضاد، حلب 1957
– موسوعة حلب المقارنة، م. خير الدين الأسدي ، تحقيق محمد كمال، جامعة حلب.
– اللوحة من مجموعتي الخاصة، وهي تمثّل أحد الأعراس في دار حلبية، بتقنية المنمنمات الشعبية القديمة، بريشة الفنان محمد قباوة.