You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

محمد كردعلي 1912: الحقيقة الجارحة

محمد كردعلي- المقتبس

عباد مصالحهم ومنافعهم كثيرون في خاصة كل أمة وكلما قلّ عددهم في بلد كان إلى السعادة أقرب، ومشت أمور الناس على سداد والعبرة في ارتقاء الأمم بخاصتها إذ تجردت نفوسهم عن أمراض الأغراض حالف الرغد سائر طبقات المجتمع وهاب تلك الأمة عدوها واغتبط بها صديقها.

انظر ملياً في تاريخ العثمانيين تحد رجالهم الأكفاء على نسبة عددهم ووسائط بلادهم ولكننا قلما رأينا قائداً من قوادهم أو وزيراً من وزرائهم أو ملكاً من ملوكهم استوفى الشروط اللازمة في الرجولية ونهوض الأمم فإنا إذا أرجعنا البصر في ترجمة فريديريك الكبير صاحب بروسيا وبطرس الأكبر محيي دولة القياصرة وواشنطن جامع شمل الولايات المتحدة الأميركية وأتينا بأحسن ملوكها أمثال سليم الأول لا نجد نسبة بين العقول ولا بين الأعمال اللهم إلا بشئ من التجوز، وهكذا إذا قسنا بلطجي بمولتكه ورشيد بريشيليو ومدحت بكافور.

وما ندري إذا كانت تربة الغرب تصلح لبذر بذور الإصلاح والنهوض أكثر من تربة هذا الشرق. وأن هؤاء الشرق يميت الهمم ويقضي من العزائم فلا يصلح جوه لبسوق الشجر وجيد التمر كما ليس لمحيطه أن ينتفع بذكاء البشر.

أو أن عقولنا غير عقولهم وفطرتنا غير فطرتهم أو أن الله اختصنا بالنبوات والرسالات واختصهم بالعزمات الصادقات ومعرفة أقدار الرجالات وتنمية إرادتهم والانتقاع بمشوراتهم.

أمامنا مثالان مجسمان من أمتين أحدهما على مقربة منا، وكانت أمس تعد في جملتنا، ونعني بها الأمة البلغارية نفضت غبار الخمول يوم نفضت يدها منا حتى سموها بابان الغرب لكثرة انتظامها وحسن أوضاعها ومرونة مدنيتها والمثال الآخر مملكة الشمس المشرقة أي يابان فإن هذه بدأت بعدنا بالاحتكاك بمدنية الغرب بأخذت بحظ أوفر منها، وظللنا نحن حتى الساعة عيالاً على الغرب في أقل حاجياتنا وأصبحت تلك الأمة الشرقية في قاصية الأرض في بضع سنين معلمة لمعلميها بعد أن كانت متعلمة تأخذ عنها وشتان بين متعلم أمس ومعلم اليوم.

قال صديقنا أحمد جودت بك من مقالة له في “إقدام” أننا قوم لا ننجب رجالاً ولا نعرف الحمية الوطنية فقد شوهد في تاريخنا أن كثيرين من المقتدرين على العمل من رجالنا لهو عن الأعمال لأنهم كانوا السبب في قطع المنافع عن أربابها. إذا قام في الآحايين أمثال هؤلاء الرجال لا يلبث أن يناصبههم العداء حزب اعتاد اقتسام المغانم، وإذا كان القصر السلطاني في ذلك العهد مصدر الأعمال كان أمثال هؤلاء الأحزاب ينسلون إليه فلم تكن معهم حقوق السلطان محفوظة وكان معهم البلاد السلطااني مغلوباً على أمره وآلة يتخذونها للعبث بها ونيل مآربهم فمثل هذه المملكة لا تقوى إلا بقوة غريبة على التغلب من مخالب اللصوص ولذلك يستحيل أن ينشأ لها في مثل ذاك المحيط رجال عظام وأن تفهم فيها الحمية الوطنية على ما يجب وها إنا نرى التاريخ العثماني ولاسيما منذ ابتداء القرون الوسطى مملوءاً بمثل هذه الوقائع فإن رشيد باشا النادر المثال في المتآخرين أرادوا أن يقتلوه وأهلكوا مدحت باشا المنقطع القرين في قوة العزم وواحد من هذه الطبقة النادرة لا يزال لعهدنا حياً يرزق، ولعله من خصائص أولي العزم من دهاة المصلحين في الأمم والمكونين للجماعات والجامعات.

هذا ما قاله الرصيف الحصيف يشير به إلى أولئك الذين سار كامل باشا شيخ سياستنا على خلاف إرادتهم لأن إرادتهم أن يتلاعبوا بقوى الأمة وأوضاعها على ما تشتهي أهواؤهم وإرادته كإرادة رشيد ومدخت وأن يستمع العثمانيون بالحرية الحقيقة ويعرفوا معنى حقوق الوطني وما ينبغي له ويجب عليه. ولا نسبة بين المانح والمانع، ومتى التأم مصلح ومفسد وتآخى جاهل وعالم.

إن الفتنة المتوثبة على الحكومة في السلطنة ارتضت منها الأمة بأن تختص وجماعتها بمرافق الدولة، ومنافعها، وأن تترك لها حرية الكلام، وحرية الإجتماع، وحرية الرأي فأبت إلا أن تسلبها يوم وضع حد لاعتدائها فكفت أيديها عن العبث بمصالح الملك والبلاد ألا وهي تريد أن تنتقم ممن استسلموا لها بأن تؤذيهم في أنفسهم تريد أن تنقم منها بإضرام ثورة في السلطنة تقضي على حياتها الاستقلالية والاستقلال أثمن ضروب الحياة.

إن من قضوا على هاشم وصميم وزكي لأنهم خالفوا آراءهم أرادوا أن يقتلوا أيضاً ثلاثين مليوناً من العثمانيين، وينزعوا منهم استقلالهم السياسي كما كادوا ينزعون ممن اجتمع حول رأيتهم عزة النفس واستقلال الفكر وجودة النظر فعلموهم التجسس والنفاق والتزوير وما استحكمت هذه الصفات في شعب إلا وكانت آخرته أن يرفع اسمه من تاريخ الأزمان ويحذف رسمه من مصورات البلدانا أو يكون عبئاً ثقيلاً على الوجوه وآفة على بني الإنسان.

القاهرة – محمدكردعي


المصدر
صحيفة المقتبس، العدد 1000 الصادر في التاسع والعشرين من أيلول عام 1912م.



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى