محمد كردعلي- المقتبس
عباد مصالحهم ومنافعهم كثيرون في خاصة كل أمة وكلما قلّ عددهم في بلد كان إلى السعادة أقرب، ومشت أمور الناس على سداد والعبرة في ارتقاء الأمم بخاصتها إذ تجردت نفوسهم عن أمراض الأغراض حالف الرغد سائر طبقات المجتمع وهاب تلك الأمة عدوها واغتبط بها صديقها.
انظر ملياً في تاريخ العثمانيين تحد رجالهم الأكفاء على نسبة عددهم ووسائط بلادهم ولكننا قلما رأينا قائداً من قوادهم أو وزيراً من وزرائهم أو ملكاً من ملوكهم استوفى الشروط اللازمة في الرجولية ونهوض الأمم فإنا إذا أرجعنا البصر في ترجمة فريديريك الكبير صاحب بروسيا وبطرس الأكبر محيي دولة القياصرة وواشنطن جامع شمل الولايات المتحدة الأميركية وأتينا بأحسن ملوكها أمثال سليم الأول لا نجد نسبة بين العقول ولا بين الأعمال اللهم إلا بشئ من التجوز، وهكذا إذا قسنا بلطجي بمولتكه ورشيد بريشيليو ومدحت بكافور.
وما ندري إذا كانت تربة الغرب تصلح لبذر بذور الإصلاح والنهوض أكثر من تربة هذا الشرق. وأن هؤاء الشرق يميت الهمم ويقضي من العزائم فلا يصلح جوه لبسوق الشجر وجيد التمر كما ليس لمحيطه أن ينتفع بذكاء البشر.
أو أن عقولنا غير عقولهم وفطرتنا غير فطرتهم أو أن الله اختصنا بالنبوات والرسالات واختصهم بالعزمات الصادقات ومعرفة أقدار الرجالات وتنمية إرادتهم والانتقاع بمشوراتهم.
أمامنا مثالان مجسمان من أمتين أحدهما على مقربة منا، وكانت أمس تعد في جملتنا، ونعني بها الأمة البلغارية نفضت غبار الخمول يوم نفضت يدها منا حتى سموها بابان الغرب لكثرة انتظامها وحسن أوضاعها ومرونة مدنيتها والمثال الآخر مملكة الشمس المشرقة أي يابان فإن هذه بدأت بعدنا بالاحتكاك بمدنية الغرب بأخذت بحظ أوفر منها، وظللنا نحن حتى الساعة عيالاً على الغرب في أقل حاجياتنا وأصبحت تلك الأمة الشرقية في قاصية الأرض في بضع سنين معلمة لمعلميها بعد أن كانت متعلمة تأخذ عنها وشتان بين متعلم أمس ومعلم اليوم.
قال صديقنا أحمد جودت بك من مقالة له في “إقدام” أننا قوم لا ننجب رجالاً ولا نعرف الحمية الوطنية فقد شوهد في تاريخنا أن كثيرين من المقتدرين على العمل من رجالنا لهو عن الأعمال لأنهم كانوا السبب في قطع المنافع عن أربابها. إذا قام في الآحايين أمثال هؤلاء الرجال لا يلبث أن يناصبههم العداء حزب اعتاد اقتسام المغانم، وإذا كان القصر السلطاني في ذلك العهد مصدر الأعمال كان أمثال هؤلاء الأحزاب ينسلون إليه فلم تكن معهم حقوق السلطان محفوظة وكان معهم البلاد السلطااني مغلوباً على أمره وآلة يتخذونها للعبث بها ونيل مآربهم فمثل هذه المملكة لا تقوى إلا بقوة غريبة على التغلب من مخالب اللصوص ولذلك يستحيل أن ينشأ لها في مثل ذاك المحيط رجال عظام وأن تفهم فيها الحمية الوطنية على ما يجب وها إنا نرى التاريخ العثماني ولاسيما منذ ابتداء القرون الوسطى مملوءاً بمثل هذه الوقائع فإن رشيد باشا النادر المثال في المتآخرين أرادوا أن يقتلوه وأهلكوا مدحت باشا المنقطع القرين في قوة العزم وواحد من هذه الطبقة النادرة لا يزال لعهدنا حياً يرزق، ولعله من خصائص أولي العزم من دهاة المصلحين في الأمم والمكونين للجماعات والجامعات.
هذا ما قاله الرصيف الحصيف يشير به إلى أولئك الذين سار كامل باشا شيخ سياستنا على خلاف إرادتهم لأن إرادتهم أن يتلاعبوا بقوى الأمة وأوضاعها على ما تشتهي أهواؤهم وإرادته كإرادة رشيد ومدخت وأن يستمع العثمانيون بالحرية الحقيقة ويعرفوا معنى حقوق الوطني وما ينبغي له ويجب عليه. ولا نسبة بين المانح والمانع، ومتى التأم مصلح ومفسد وتآخى جاهل وعالم.
إن الفتنة المتوثبة على الحكومة في السلطنة ارتضت منها الأمة بأن تختص وجماعتها بمرافق الدولة، ومنافعها، وأن تترك لها حرية الكلام، وحرية الإجتماع، وحرية الرأي فأبت إلا أن تسلبها يوم وضع حد لاعتدائها فكفت أيديها عن العبث بمصالح الملك والبلاد ألا وهي تريد أن تنتقم ممن استسلموا لها بأن تؤذيهم في أنفسهم تريد أن تنقم منها بإضرام ثورة في السلطنة تقضي على حياتها الاستقلالية والاستقلال أثمن ضروب الحياة.
إن من قضوا على هاشم وصميم وزكي لأنهم خالفوا آراءهم أرادوا أن يقتلوا أيضاً ثلاثين مليوناً من العثمانيين، وينزعوا منهم استقلالهم السياسي كما كادوا ينزعون ممن اجتمع حول رأيتهم عزة النفس واستقلال الفكر وجودة النظر فعلموهم التجسس والنفاق والتزوير وما استحكمت هذه الصفات في شعب إلا وكانت آخرته أن يرفع اسمه من تاريخ الأزمان ويحذف رسمه من مصورات البلدانا أو يكون عبئاً ثقيلاً على الوجوه وآفة على بني الإنسان.
القاهرة – محمدكردعي