مقالات
د. سعد طه كيّالي: “رقص السماح” بين التصوّف والتراث الشعبي
د. سعد طه كيّالي – التاريخ السوري المعاصر
على الرغم من مساهمات العديد من الزملاء الناشرين، والإصدارات الهامة، التي رُصِد من خلالها مفهوم رقص السماح، على اعتباره فصلاً هاماً من التراث الشعبي ” اللامادي ” … ولا ريْب أنّ الأقوال تضاربت حول أصول ” رقص السماح ” لذا وددت عبر هذا المنشور أن أسلط الضوء على نشأته الصوفية وتحولاته عبر التاريخ، ليُصبح على مرّ الزمن جزءاً من الثقافة الشعبية الاجتماعية، وبمعنى أدقّ رقصة شعبية حلبيّة بامتياز، انتقلت إلى دمشق ثم إلى مصر عبر أساتذته كالشيخ صالح الجذبة والأستاذ عمر البطش …
رقص السماح والتصوّف
نُلاحظ مدى الإرتباط الوثيق بين طقوسية بعض المدارس الصوفية، المُتجسّدة عبر الأذكار ( من ذكر الإله الواحد، عبر أناشيد ٍ تعبّر عن الحبّ الإلهي والوجد الربّاني: الناشر ) ورمزية الرقص التعبيري الرصين، من خلال حركات متناغمة مرتبطة بتموجات الذراعَيْن والكَفيْن والأصابع، كالتي اعتمدها السيد جلال الدين الرومي في مدرسته المُسماة ” المولوية ” والمميّزة بحركاتها الدورانية، و ” السماح ” لمؤسّسه الشيخ عقيل المنبجي، الذي أضاف إليه حركات القدَميْن.
يقول العلامة الأسدي في موسوعته ضمن مَعرض حديثه عن السماح: ( أطلقوها على رقصة جماعية قديمة ذات ألحان خاصة بها، لعلّ سبب التسمية أنّ السماح رقص إيقاعي ديني، وأدوات الإيقاع كالكوبة مسموح بها عرفاً وعادةً وشرعاً. وذكرها دوزي في تكملته، وعدّها من رقص الدراويش، واختصّت حلب دون سواها برقص السماح).
ويقول المعلم بطرس البستاني في قاموسه ” محيط المحيط ” : (ورقص السماح رقصة للمشايخ يستعملونها في العبادات) ويقصد حتماً مشايخ الصوفية.
أمّا الشاعر عبد الله يوركي حلاق فيؤكد ضمن كتابه ” حلبيات ” على أمرين، الأول بأنّه سُمّي بالسماح على اعتباره الرقص الذي سُمِح به، لبُعدِه عن الخلاعة والمجون، وفي الثاني لأنّه مشتق من السماح، أي الإذن بالقيام به.
ويستطرد شاعرنا الحلاق قائلاً: (ورقص السماح رقص إيقاعي، تُستعمل فيه النقّارات والناي …) وهي أدوات موسيقية رصينة، كانت متواجدة عبر التاريخ، وما زالت حتى يومنا هذا، مُضافاً إليها الدفوف.
نستنتج مما قيل في تأريخ رقص السماح أنّه مرتبط بالتصوف ودراويش المتصوفة بالمقام الأول، حيث أكّدت المراجع بالإجماع أنّ صاحب فكرة رقصة السماح ومبتكرها هو المتصوّف القطب الشيخ ” عقيل المَنبجي ” ( نسبةً إلى منبج من أعمال حلب) بن الشيخ شهاب الدين البطائحي بن الشيخ زين الدين عمر بن الشيخ سالم بن الشيخ زين الدين عمر بن خليفة المؤمنين الثاني عمر بن الخطاّب رضي الله عنه. لذا أقول إنّه ” عمريّ ” النسب.
يذكره ابن الحنبلي في كتابه ” درّ الحبب في تاريخ أعيان حلب ” نقلاً عن الطبقات الكبرى للشعراني: ( هو شيخ من شيوخ الشام في وقته، وتخرّج بصحبته جمع من الأكابر منهم الشيخ عديّ بن مسافر، وهو أول من دخل بالخرقة العمرية إلى الشام وأخذت عنه )، توفيّ الشيخ عقيل سنة 550 للهجرة / 1154 ميلادي.
بقي قبره مزاراً في منبّج إلى أن هدِم سنة 2014 للميلاد من قِبَل فصائل جهادية متطّرفة.
السماح و فاصل ” إسقِ العطاش “
اختلف الباحثون فيما يتعلق بالعلاقة بين ” إسقِ العطاش ” ورقص السماح، حيث يؤكد السيد مجدي العقيلي بالقول إنّ رقص السماح متفرعٌ من فاصل ” إسقِ العطاش ” ، في الوقت الذي يُعارض هذا الرأي، البعض الآخر، معتبراً أنّ فاصل إسقِ العطاش كان يتبعه رقص السماح لدى أهالي حلب، فهو تابع له وليس مشتقاً منه …
بالعودة إلى إسقِِ العطاش نُلاحظ أنها مجموعة من القصائد والأدوار تتعدد فيها النغمات والتقاسيم.
وأنا الفقير إليه تعالى أميل إلى الرأي الأول وبأنّ هنالك رابط عضوي حتميّ بينهما، لأنّ ” إسقِ العطاش ” هو ذو رمزية صوفية بالمطلق، من خلال مناجاة الخالق والتضرّع إليه، بمصاحبة حركات ذات دلالات عميقة، وأقصد به ” رقص السماح ” وبالنتيجة هي من طقوسية المتصوفة. فإذا أمعنّا في الفصل التمهيدي لإسقِ العطاش نجد عمق هذا الرابط بينهما، ومثالنا على ذلك هذه الأبيات الرائعة التي يعرفها أهالي حلب:
مولاي أجفاني جفاهنّ الكرى
والشوق لاعجهُ بقلبي خيّما
مولاي لي عمل ٌولكن موجب ٌ
لعقوبتي فاحْنُنْ عليّ تكرّما
واجل ُصدى قلبي بصفوِ محبة ٍ
يا صاحب الوردِ الذي أحيا الحمى
يا ربّ إنّي قد مددتُ يدَ الرجا
يا خيرَ مَنْ أعطى الجزاء وأنعما
يا ذا العطا يا ذا الوفا يا ذا الرضى
يا ذا السخا إسقِ العطاش تكرّما
وفي الحب الإلهي تُردّد الأبيات التالية:
ملكتمْ فؤادي بشرع الهوى وعليكم رقيبْ
فلا تقتلوني كذا عامِداً لأنّي غريبْ
وإنْ كان لا بُدّ من قتلتي ذا أمرٌ عجيب
“السماح” و زمن التحولات
خضع رقص السماح إلى عددٍ من التحولات والتغيّرات، بإدخال آلات موسيقية أكثرُ تطوراً هي العود والقانون والكمان والطبل، إضافةً إلى القصائد والموشحات التي اتسمت بصبغة الغزل العذريّ وأصبحت تميلُ إلى أن تكون أكثر انسجاماً وانصهاراً مع الحالة الاجتماعية – الشعبية لأهالي حلب، فأصبح أساتذتها يُشاركون بالأعراس والأفراح، ومناسبات أخرى، إذ كانت تُفتتح بموشح:
إنّ الهوى قضى شرْعَهُ ذلّة الأسودْ
ثم يُتبع بموشح للشيخ صالح الجذبة، يقول فيه:
جرّدَ العضْبَ المرهَفْ من مقلَتيْهْ
ظبيٌ فتّانُ ……أهيفْ روحي بيديهْ
من لمى ذاك العذْبِ سبى لي
يا ما يقاسي ..قلبي وجداً عليهْ
والموشح الشهير:
يا صاحِ الصبرُ وهي منّي وحبيب الروح نأى عنّي
وبذلك لم يعدْ رقص السماح مقتصراً على المتصوفة، لا بل أصبح جزءاً من التراث الشعبي الحلبي، فانضمت إليه كوكبة من الموسيقيين والراقصين من أخوتنا المسيحيين نذكر منهم: ( سامي بن انطون الشوّا، يعقوب غزالة، سليم غزالة، الياس فنّون …).
ويقول الشاعر عبد الله يوركي حلاق، في لباس الراقصين إنّهم: ( كانوا يرتدون الألبسة الحلبية الشعبية ( القنباز ) الحلبي، مع الصرماية الحمراء، وكان عمر البطش يرقص مع زملائه وتلاميذه بالبدلة ” المحكمجية ” أيّ الجاكيت الرمادي الطويل على صدرية مقفولة على بنطال عادي، شبيه بالسروال ومن لون الجاكيت ).
ومن أشهر راقصي السماح في حلب نذكر ( عبده بن عبده، عمر البطش، محمد طيفور، بكري الكردي …)
وكان الشيخ علي الدرويش من أهم المؤلفين الموسيقيين في تلك الحقبة، حيث بإمكاننا الإطلاق عليه لقب ” عرّاب الموسيقى الحلبية “.
الإنتقال إلى دمشق ومصر
تؤكد المراجع على أنّ الشيخ صالح الجذبة من مواليد البياضة ( 1267 للهجرة / 1858 للميلاد – 1341 هـ / 1922 م ) هو أول شخص ذهب إلى دمشق، بهدف تدريب فرقة أبي خليل القبّاني على رقص السماح، ثم تبِعَه الأستاذ عمر البطش ملحّن الموشحات وأحد أهم راقصي السماح، حيث قام القبّاني بنقلها لاحقاً إلى مصر..
ومن الجدير ذكره أنّه تمّ إشراك العنصر النسائي ضمن رقص السماح في ستينيات القرن العشرين.
وختاماً لا بدّ من التنويه حول الدور الرئيس الذي لعبه الأستاذ المطرب ” صباح فخري ” والمطرب الأستاذ صبري مدلّل، في الحفاظ على هذا الإرث الجميل. كما اسمحوا لي بالقول إنّ الواجب الوطنيّ يحتّم علينا الحفاظ على هذا الكنز الشعبي الثمين في زمن أغاني ( الهشّك بشّك ) أمثال ( بوس الواوا … وبحبّك يا حمار … وغيرها ).
المراجع والمصادر
– در الحبب في تاريخ أعيان حلب، المؤرّخ ابن الحنبلي.
– إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، الشيخ المؤرّخ راغب الطبّاخ.
– موسوعة حلب المقارنة، العلاّمة خير الدين الأسدي، تحقيق الباحث محمد كمال.
– قاموس محيط المحيط، المعلم بطرس البستاني.
– حلبيات، الشاعر عبد الله يوركي حلاّق.
– الصورة المُرفقة في المادة هي من كتاب ” حلبيات ” المذكور سابقاً، إذ لم يتم التنويه عن مصدرها، وأغلب الظن أنّها عائدة لمقتنيات الشاعر عبد الله يوركي الشخصية. ويظهر وحيداً في ” صدر ومنتصف الصورة ” الموسيقار الشيخ علي الدرويش، ووقوفاً (الأول على اليمين) الأستاذ عمر البطش.