وثائق سوريا
كلمة علي عقلة عرسان في حفل تأبين موفق الشرع عام 1992
كلمة رئيس اتحاد الكتاب العرب الأستاذ علي عقلة عرسان في الحفل التأبيني لأربعين المرحوم موفق الشرع الذي أقيم في قاعة المركز الثقافي في درعا في السابع عشر من نيسان عام 1992م.
بسم الله الرحمن الرحيم
(سبع جديلات على ترب ضريح
في انبلاج الفجر تبكي وتصيح:
“يا جبيل العز ما هزك ريح”
وتشد الكون من شعر الشعاع
قل لها: يا أخت من فينا الذبيح؟!
ذلك المأثور، أم هذا الجريح
أم ترى “زغب” على شلال ريح
يذرعون الصبح في درب اليفاع؟!
إننا يا أخت قيد يستريح
في يد تصدأ من قبل الصفيح
لأتني تذوي كما يذوي الشحيح
وتهيل الحزب صاعاً صاع
في قُليب “مات” من قبل المسيح
بهتك الموت ويغلو كالفصيح:
“يكسر القلب ولا يروى اليراع
في حياة كل ما فيها ضياع..”.
إننا يا أخت أحلام تصيح
في مدى الأوهام .. مذراة وريح
ولنا في كل يومين دفاع
عن حياة ليس “يبقيها” الدفاع
إن من يمضي .. سيمضي لارتفاع
ويروح الحي يهوي في ضريح
أيها الحفل الكريم
يا أهل الفقيد العزيز وتلاميذه وأصدقاءه وأبناء بلده، تجمعنا اليوم ذكرى رجل غاب عنا، ومازال، رغم غيابه، حيوية الحضور في نفوس ومجالس. إذ لم يكن أبو يعرب، في لحظة من عمره، إلا تدفق حيوية، وتألق وعي، وتجليات قيم، وتوقد روح يناضل من أجل أهداف قومية وتحررية، وأجنحة للحرية تسعى لتحقيق انعتاق لطاقة الإنسان من قيود المجتمع ومعوقاته على دروب الحياة.
وحين نستعيد اليوم ملامح مسيرته وسيرته نتوقف عند كثير مما يستثير فينا الإعجاب به ويحرضنا على اتخاذه قدوة. وهكذا الرجال المؤثرون في مجتمعاتهم، يقدمون مثلاً في الحياة والسلوك والعمل، ويضيئون درباً، ويرفعون راية، ويدعون الآخرين إلى اللحاق بهم ومجاوزتهم، وإلى الإبداع على أنموذج ومعيار، وصولاً إلى غايات نبيلة.
مع بداية استقلال سورية، وابتداء نضالها القومي، التحريري، الوحدوي، التحرري، بدأ موفق الشرع مسيرته مع أبناء جيله، وكانت التربة الاجتماعية التي اختار أن يحرث ويزرع فيها، من أصعب وأخصب ما عرفت سورية من تربة، فحوران بيئة محافظة وفقيرة ومتخلفة، وتكاد تكون جسر الصحراء إلى المعمورة في النصف الأول من هذا القرن.
وكلنا يذكر العطش والقحط والاستغلال والاستلاب الذي عانى منه أجدادنا وآباؤنا في هذه المنطقة من أرض العرب، التي عرف تاريخها أياماً من أفضل ما شهد العرب من عز وبناء وجهاد.
وبدأ المغفور له أبو يعرب من هنا، وفي تلك الظروف مسيرة شاقة، لبناء الذات وتغيير العلاقات، مستقرات الواقع، ولإعادة الوعي للحياة من حوله. وكم تحمل وتحشم من صعاب، وكم صبر وصابر وثاب، وكم بذل من جهد وقدم من اجتهاد، حتى تمكن من إرساء قاعدة يقيم عليها بناء راسخاً، كان له، من خلاله، فضل وتأثير على أجيال من أبناء هذه المنطقة، وعلى تجمعات وهيئات رياضية – كشفية – وتعليمية – واجتماعية – وتعاونية في سورية.
لقد تجاوز مجتمعه والزمن الذي هو فيه، ودفع ثمن ذلك، وصبر بكرامة وصمت على كل ما ناله من ذلك، ولم يكن الخروج على ما تآلف عليه الاناس من عرف متخلف وتقليد بال مما يمر دون عقاب اجتماعي، بأشكال مختلفة، ولم يكن تقديم الجديد والعمل على تجسيده وغرسه في البيئة المحيطة، سواء في مجال السلوك أو التفكير او التدبير، من الأمور اليسيرة، وكان ذلك الرجل من الذين فعلوا ذلك ونجحوا في تحقيق ما رموا إلى تحقيقه.
كان رحمه الله مؤسسة تربوية، مديراً وموجهاً واستاذاً ومصلحاً وقدوة ومناضلاً، وربما كان مالقيه من متعلمين ومعلمين وموظفين منافسين، لا يقبل أذى عمل لقيه من جهلة ومحافظين. لكنه بقي صامداً مجاهداً مثابراً إلى أن تحقق له كثير مما أراد. إنه فينا اليوم يعيش ويتجدد ويبني، فنحن جيل تأثر به واستفاد منه، وتعلم على يديه، ولا أبالغ إذا قلت لكم، وأنا أحد طلاب المعهد القومي العربي في جزء من المرحلة الثانوية، أن روح الانضباط والنظام والدقة، والتزام القيمة الأخلاقية والنضالية، وتكوين المعرفة والوعي على أساس المنطق والحوار واحترام الرأي الآخر وتشجيعه، شيئ مما بثه فينا ووجدناه فيه. وربما بقي هذا الشيء واستمر تأثيره، أكثر من دروس الرياضيات والفيزياء والكيمياء وسواها، التي كان يعطينا إياها.
لقد أقام يوماً مناظرة في ندوة مفتوحة داخل المعهد خصص للفائز فيها جائزة رمزية – مجموعة من الكتب- حول موضوع تحرر المرأة وعملها في المجتمع. وكان ممن يدعون إلى تحررها وعملها، حتى لو كانت أماً مرضعاً، وكننت ممن شاركوا في تلك المناظرة- الندوة، وخالف رأيه فيها في حالة الأم المرضع، وحين منحني جائزة الفائز فيها قال: إنني رغم اختلافي مع هذا الرأي إلا أنني أقدره وأشجعه لأنني احترم الرأي الآخر. وفي هذا غرس وبناء سليمان، لا يعرف تأثرهما إلا المربون والمتعلقون بالحرية والديمقراطية وبناء الإنسان.
لقد فقدنا في أبي يعرب رجلاً مربياً ومناضلاً قومياً تقدمياً كبيراً وصلباً، ولم نقدم له ولا لذكراه ما يستحق، والمجتمعات التي تبني وترغب في استمرار البناء وازدهاره، ترفع شأن البناة عالياً، وترسخ البنيان، وتكرم القدوم وتصنعها، وتعلي شأن المثل والنماذج التي تحققها. ولعلي حين اقترح صورة الأستاذ موفق الشرع، لا أرمي إلى تحقيق ما ينفعه وينصفه قدر ما أرمي إلى تفعيل تأثيره، ترسيخ منهج وقيمة وسابقة في المجتمع، الأمر الذي يرتد إيجابياً على التقدم الاجتماعي والتربوي والمعرفي في حياتنا وحياة أجيالنا، لاسيما في هذه المحافظة، أكثر مما يرتد على المرحوم- الذي أصبح خارج دائرة ما ينفع وما يضر- وعلى ذويه. فليكن باسمه مدرسة، وليكن باسمه شارع، ولتحيا له ذكرى باقية في صورة من صور تشجيع طلب العلم وحسن التعليم، وفي التقدم الاجتماعي والتحرر الرصين المسؤول الملتزم بتراث عريق، والمتطلع لمستقبل ترسم أفقه وصوره سيرورة الحياة وصيرورتها، وتواصل الناس في عصر غدا فيه العالم قرية كبيرة، وما زلنا نحبو فيه في ظلال القديم من ظلمات القرى وظلالها القائمة.
إننا نبحث عن إبقاء الشعلة مضاءه ومرفوعة ومتقدمة، ونبحث عن استمرار الريادة، وفي وقت تهدد فيه الأمة كلها ويستحذي أمام هذا التهديد كثيرون، فلا أقل من أن ننعش ذاكرة الجيل وآماله، ونفتح دروب الأمل والعمل بأشكال ملموسة، من أضيق البيئات الاجتماعية وأدناها إلى أوسعها وأعلاها. وحين نؤكد ذلك اليوم في مناسبة قد لا تبدو هي المناسبة، فإننا إنما نحيي نضال كل أولئك الذين بنوا أجيالاً حققت ثورة البعث، وقدموا انموذج عمل ورؤية وآفاق أمل فتح باب الكفاح من أجل التحرير والوحدة، من أجل التقدم ودخول العصر، لأننا بذلك وأمثاله نساهم في التأسيس لاستمرار العطاء، والنضال وتدفق الحيوية والوعي.
أيها الكرام:
لا يملك حي أن يقاوم واهب الحياة وسالبها، كل حي يموت، ولا يبقى عليها إلا وجه خالق الخلق وباذل الرزق، وإذا كان حزننا على من فارقنا يربو في القلب، فإن العزاء يكمن فيما ترك من أثر ومن ترك من رجال وتلاميذ، وما شجع على أحيائه وبعثه من قيم وسلوك، وما رسخه من معرفة وحب للعلم والعمل.
وإذا كان المرء منا لا يستطيع أن يمنع الموت عن نفسه، فكيف به يعترض على مشيئة تطاله كما تطال سواه، في شكل تعبير أو تفكير من أي نوع؟!
اللهم إنا نرضى ما ترضاه لنا لأنك الأول والآخر، والقادر والأمر، وأنت من يحيي ويميت، لك الأمر من قبل ومن بعد، وستجدنا بمشيئتك صابرين حامدين.
الحمد لله على كل حال، وليكن خير عزاء لنا في فقيدنا العالي أبي يعرب ما ترك من عمل، وما زرع من أمل، وما يظللنا منه من ذكر طيب، وذكريات تشحذ الهمة.
نسأل الله تعالى للفقيد الرحمة، ولأهله الصبر والسلوان..
وإنا لله وإنا إليه لراجعون
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته