وثائق سوريا
كلمة شكري القوتلي في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة شفائه عام 1944
كلمة شكري القوتلي في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة شفائه في سرايا الحكومة في الثاني والعشرين من حزيران عام 1944م.
نص الكلمة:
أخواني وأبناء وطني،
أرى حتماً علي قبل كل كلمة أن أتوجه بالشكر الخالص لله تبارك وتعالى القوى القادر الذي تفضل فأسبغ على نعمة العافية، والصحة، وأعادني إلى جماعة الأمة لأتمم ما عاهدتها عليه من القيام بعظيم حقها وما قلدتني إياه من جليل مهماتها.
هذه الأمة التي كنت أردد في نفسي وأنا في أشد ساعات الخطر ما يجب علي نحوها حتى أني سألت الله بخشوع واخلاص، وأنا قرير العين مطمئن القلب إذا كان في بقائي خير لهذه الأمة أن يبقيني في هذه الحياة الدنيا حتى أنجز ما نذرت نفسي له أو أن ينقلني إلى جواره في دار البقاء، ودار الجزاء. ولكن العناية الإلهية أخذت بيدي فأعود الآن لإتمام مهمتي في خدمة الله، خدمة هذا الوطن مؤملاً أن يبلغ أسمى غاياته وأشرف رغائبه.
وإني أشكر بعد ذلك هذه الأمة العزيزة علي التي امتزج حبها بدمي وأخلصت لها في سري وعلني ما عرفت من اهتمامها وعطفها في أثناء المحنة فكانت تصل إلي تلك الأماني الصادقة والدعوات الصالحة متصاعدة من أفواه الرجال والنساء والكبار والصغار ليرد الله إلي الصحة ويكتب لي السلامة ولن أنسى ما علمته في جملة ما علمت أولئك الذين كانوا يتقدمون من كل جانب ليعطوني من دمهم ما اعتاض به عن الدم الذي ذهب مني.
ان هذه المظاهر الكريمة المنطوية على شعور لا أجد في الكلام ما أصفه به عما كان من اثره البليغ عندي وليس لي إلا أن أهب نفسي وطاقتي لهذه الأمة ملكاً لها وللذود عن حقها والسعي لخيرها.
ثم أني لأبعث بجميل الشكر إلى أولئك الأطباء الذين وقفوا إلى جانبي في الليل والنهار يحطيوني باهتمامهم وعنايتهم حتى تمكنت من التغلب على المرض وأخص بالذكر أطباء الجيش البريطاني وأطباء الجامعة الأميركية والجامعة السورية وغيرهم من الأطباء الذين بذلوا قصارى جهدهم في عملهم الإنساني وأمدوني بما ادخروه من علم وتجارب.
وأذكر بمزيد التقدير والامتنان ممثلي الدول الحليفة والصديقة من مدنيين وعسكريين الذين كنت أجد من عطفهم وعنايتهم سواء في الزيارات التي كانوا يتجشمونها أو في استطلاع أنبائي التي كانوا يسعون إليه ما يطلق لساني بتقدير الصنيع وعرفان الجميل.
أما الملوك والأمراء والرؤساء في الأقطار العربية وغيرها الذين شملوني بكريم عنايتهم وسامي عطفهم فإني لا توجه إليهم جميعاً بخالص الولاء وجزيل الحمد والثناء واسأل الله أن يرعاهم جميعاً ويزيد في علو شأنهم وجلائل أقدرهم ويبقيهم في عز دائم ومجد خالد.
وأبعث في هذه المناسبة بأماني الخالصة للأمم المتحدة التي تناضل مستبسلة في سبيل الحق والعدل والسلام، وقد أخذت راياتها الخفاقة تعلو في كل مساء، يتعرفها النصر، وبتعهدها الظفر، وقلبي يشعر باطمئنان عظيم إلى أن انتصار قضية الأمم المتحدة سيكون انتصاراً للشعوب الكبيرة والصغيرة على السواء لأن في ذلك أمان العالم وسلام الأمم في ذلك فقط طمأنينة المستقبل ولن تكون عبثاً المواثيق التي ارتفعت بها الأصوات جهرة ولاسيما ميثاق الاطلنطي الذي أقرت فيه المبادئ العليا لحرية الشعوب واستقلالها وضمان مصائرها.
أخواني وأصدقائي:
لقد أوحت إلى جماعاتكم المتدفقة بصفوفكم المتراصة بوجوهكم التي طال شوقي للقائها والتحدث إليها وأمانيكم التي أتلمسها في وحي الضمائر أن انتقل إلى مخاطبتكم هنيهة بشؤونها السياسية التي لا تبرح شاغلاً للامة وباعثاً لاهتمامها لأنها غاية ما ترجوه من أوضاعها الاستقلالية ونظمها الوطنية الحرة.
لقد عاهدنا الله وعاهدناكم، وعاهدنا ضمائرنا كذلك على أداء الواجب كله، وبذل كل شيئ في سبيل هذا الوطن ورفعته وضمان الحرية والعدل والنظام لجميع أبنائه. وها نحن ولم تنقضي بعد علينا سنة نستطيع أن نقول بدون غرور ولا كبرياء ان البلاد تتمتع بمظاهر عظيمة من الحرية وان الحكم الدستوري القائم على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية يحقق للجميع ما يرغبون فيه ويطمحون إليه والرجال القائمون على هذا الحكم عازمون على أداء مهماتهم الملقاة على عواتقهم بحزم ومضاء لا هوادة فيها ولا مجال للذين يحاولون أن يعكروا صفو الأمة بمدعيات ليس له ما يسوغها وقد وقف رجال الحكم الوطني بالأمس عند حادثة من هذا القبيل الموقف الذي املاه عليهم شعور الواجب الصحيح وأيدتهم الأمة به فأعادوا بما عملوه الأمور إلى نصابها وأفهموا كل من تحدثه نفسه أو تقويه اطماعه بأن المسؤولين عن سياسة هذه البلاد وعن مستقبلها لا يتسامحون بإثارة الفتن مهما كانت الادعاءات التي تحاط بها فلكل حق واجب ينبغي أن لا يتجاوز حدودهما.
وإذا كان في جهاز الدولة بعض المآخذ فهو وليد أيام وأزمنة يحتاج إصلاحه ومعالجته إلى الجد والصبر حتى تنقاد الأمور على استوائها. والعمل الوطني بذاته ليس معصوماً عن الخطأ وليس بطاقة أحد أن يدعي العصمة غير اننا ندعي بكل فخر شرف الغاية وصدق النية ونبل القصد.
وفي أقل من ستة أشهر أي منذ الثاني والعشرين من كانون الأول عام 1943م، حققنا ما نريد في استلام معظم الصلاحيات والخصائص التي لم تكن في يدنا ونحن نجد في أحراز ما بقي لبلوغ ما نريده.
وهناك امران مهما لم يتم انتقالهما بعد وهما الأمن العام والجيش.
أما الأمن العام فينتظر ان يتم انتقاله قريباً وربما في هذا الأسبوع.
وأما الجيش فقد تأخر امر انتقاله إلى الآن وما ذلك إلا لأننا نحرص كل الحرص على تحقيق رغبات الأمة فيه ليكون جيشاً وطنياً سورياً في حقائقه ومظاهره ولا نريد إلا أن نتوقع أن الجانب الافرنسي يحقق بأقرب وقت وأقصر أمد ما يتفق مع رغباتنا هذه فيبت في هذا الشأن كما بت في سائر الخصائص والصلاحيات حتى يصبح استقلالنا كاملاً. وتتوفر لدينا الوسائل لحماية دمارنا وصيانة النظام في بلادنا وأعلاء رايتنا التي تخفق في صمت وجلال حاملة إلينا في ألوانها التاريخية ذكريات ماض زاهر وعز غابر وداعيه لنا لتكون فيما نقوم به من أعمال جديرين بما نقلته إلينا الأجيال والعصور من ميراث عظيم.
وإنا في الجهد الذي نبذله في سبيل هذا الوطن ليكون حراً عزيزاً مكرماً نريد كذلك خدمة الوطن الأبي العربي في أرجائه الدانية والقاصية فنوثق العرى بين أبنائه ونقيم صلاتهم وعلائقنا بهم على أسس ثابتة اقرتها ضرورات الحرب وحاجات السلم وذكريات الماضي وأماني المستقبل وكل ما ينطوي في معنى حقائق الحياة.
فيا أيتها الأمة التي تريد أن تصل بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها وتريد ان تحكم نفسها بنفسها والتي أملت علينا في مواقف كثيرة شعور العزة والاباء والكرامة.
هذه الأمة التي تريد ان تحقق استقلال البلاد وصيانته في جهد يتجدد كل يوم لا ينقطع فيه البذل ولا تنتهي التبعات، لك علينا أن لا نضن بعناء في سبيلك ولنا عليك أن تؤازرنا في مجهودنا حتى يصبح الوطن السوري كما نريد ان يكون جزءا من الوطن العربي رفيع العماد خافق اللواء عزيز المنال كريم المقال.
وفي أثناء إشارة فخامة الرئيس إلى الفتنة في خطابه أعلن أنه يعفو عن مثيريها الذين كانوا في هذه الحادثة مخدوعين قصيري النظر.
وقد وجه فخامة الرئيس شكره للصحافة السورية وسائر الصحف العربية التي كانت ابان مرضه ترجمان شعور البلاد نحوه.
وقد أضاف في ختام خطبته كلمة تتعلق بالعلم الذي ينبغي ان نصونه بدمائنا ونفوسنا.
وكانت كلمة الختام الكلمة التالية:
انني ادعوكم ان تتمسكوا جميعاً بهذا العلم وتحموه حتى يبقى خفاقاً فوق رؤوسنا نفيه بأرواحنا ونرفعه عالياً في الأجواء ونأبى أن تعلو عليه راية في هذه البلاد إلا راية واحدة هي راية الوحدة العربية.
المراجع والهوامش:
(1). صحيفة ألف باء - دمشق، العدد 6805 الصادر في يوم الجمعة الثالث والعشرين من حزيران عام 1944م
