إياد محفوظ – التاريخ السوري المعاصر
لا ريب في أنّ اليهود الحلبيين كان لهم دور مهم في الأنشطة الاقتصادية المتنوعة في المدينة ومؤثر فيها، وأعتقد أنّ هذه السمة تنسحب على أغلب التجمعات اليهودية المنتشرة حول العالم منذ سالف الأزمان والعصور، كما نجد أنّ أبناء الطائفة الموسوية كان لهم حضور ملحوظ في معظم المهن والأشغال المختلفة، أسوة بأبناء الطوائف الأخرى في حلب.
ما يثير الانتباه انخراط عدد كبير من أبناء الطائفة في عالم الطرب والموسيقى، وإتقانهم لفنونها وأساليبها المتنوعة، وفئة لا بأس بها منهم اتخذتها حرفة تعتاش منها.
من جهته يذكر الدكتور محمود حريتاني في كتابه (تاريخ اليهود في حلب)(1)، في الصفحة (83)، أنّ اليهود الحلبيين كانوا من عشاق الطرب والغناء، كما أنّهم أجادوا العزف على شتّى أنواع الآلات الموسيقيّة لا سيما الشرقية منها، وذلك منذ فجر التاريخ المدون عن مدينة حلب، فقد برع آل غزالة في العزف على آلتي القانون والعود، في حين اختير موسى الحلبي واحداً من أفضل ضباط الإيقاع المتميزين في العالم العربي بأسره.
كما نال الأخوان نسيم مراد، وزكي مراد شهرة واسعة في العزف على آلة العود فضلاً عن إتقانهما الغناء، والأداء الطربي الأصيل، ولا يخفى على أحد أنّ الفنان زكي مراد هو والد الفنان منير مراد، والمطربة الكبيرة ليلى مراد التي عرفت في حلب أولاً، ثم انتقلت إلى مصر مع أسرتها، حيث حقّقت فيها حضوراً لافتاً، ونجومية باهرة في دنيا الغناء والفن والسينما.
إضافة إلى إلياهو أصلان، وثمّة من يدعوه بموشي إلياهو مطرب نادي اليهود الاجتماعي الرياضي، الذي أجاد أداء الموشحات الأندلسية، والقدود الحلبية، وقيل أنّه هاجر إلى فلسطين في الخمسينيّات من القرن الفائت، حيث استكمل مشواره الفني هناك من خلال تقديم روائع الطرب الحلبي الأصيل فوق مسارح نوادي مدينة حيفا، و”استديوهات” إذاعة الشرق الأدنى.
كما أشار الدكتور محمود حريتاني، في الصفحة نفسها من كتابه إلى أنّ الشريحة التي امتهنت حرفة الغناء، والموسيقى، والرقص بأنواعه من اليهود كانت في الأغلب تنتمي إلى الطبقة الدنيا من الطائفة.
تجدر الإشارة إلى أنّ مجموعة من الفنانين اليهود امتهنوا صنعة تدريب الأولاد والبنات وتعليمهم العزف على إحدى الآلات موسيقية عبر دروس خصوصية، اعتادوا إجراءها في منازل أهالي حي الجميليّة، أو في الأحياء المجاورة.
ومن ناحية أخرى ذكر القاضي سعد زغلول كواكبي، في كتابه (ذكريات من ماضي حلب)(2)، في الباب الثاني، القسم الثاني (الفنون)، الصفحة (151)، بعض الفنانات اليهوديات الحلبيات اللاتي نلن شهرة واسعة في الشهباء، خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، ومنهنّ، الفنانتان بهية البيبا، وأختها راشيل، وهما من أسرة (شقالو) اليهودية، وقد كانتا تجيدان الرقص والغناء، وذكر منهنّ أيضاً جميلة شاكوش التي أتقنت أداء “المنولوغ”، قبل بهية البيبا، وقد اعتادت الفنانة جميلة شاكوش الغناء مع المطربتين بديعة قطيش، وبهية السودا، في بيوت الأهالي، سواء في إحياء حفلات الاستقبال، أو المناسبات الاجتماعية الأخرى، وجاء بعدهنّ المطربتان ماري وسارينا.
كما ذكر العلامة خير الدين الأسدي في موسوعته اسم المطربة لبيبة اليهودية التي قال عنها بأنّها كانت من أشهر مغنيات حلب في بدايات القرن العشرين.
وبوسعنا الإشارة إلى عازف العود الفنان شحادة سعادة الذي رافق المطربة الكبيرة فيروز الماميش في حفلاتها وتسجيلاتها، إضافة إلى عازف القانون الفنان رزوق ورده الذي اعتاد العزف مع مطربي حلب في الأعراس والتلبيسات، لا سيما مع الفنان أبو سلمو.
وهناك في الولايات المتحدة الأمريكية ظهر حديثاً الفنان الأمريكي من أصول يهودية حلبية المغني فرج أبيض، وبرز أيضاً الفنان الأمريكي من أصول يهودية حلبية المغني ريمون شاهينو.
المطربة فيروز الماميش
تعدّ الفنانة الكبيرة فيروز الماميش من رائدات الغناء الأصيل في مدينة حلب، وهي من أهم المطربات وأشهرهنّ في النصف الأول من القرن العشرين.
والجدير ذكره أنّ فيروز الماميش هو اسمها الفني، أمّا اسمها الحقيقي فهو راشيل سموحة، وتشير أغلب المصادر إلى أنّها ولدت عام (1895) في أحد أحياء حلب القديمة، ثم انتقلت مع أسرتها للإقامة في حي الجميليّة، حيث عاشت فيه معظم سنوات حياتها، وقد تحدثنا عنها بشكل مفصل في مكان آخر من هذا الكتاب.
أقول: ظهر خلال فترة الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات في حي الجميليّة مطربتان يهوديتان، الأولى اسمها جميلة سمعان، والثانية تدعى فيروز، والأخيرة تتقن العزف على العود أيضاً، وقد نالتا شهرة لا بأس بها في عالم الفن والطرب، لا سيما في إحياء مناسبات أهالي محلة الجميليّة واستقبالاتهم (قبولاتهم)، وكثيراً ما شاركتا في إثراء “أبول” جدتي الحاجّة نهيدة فرّا الشهري، بألوان الغناء والموسيقى.
أشير إلى أنّ المعلومات تضاربت حول ديانة جميلة سمعان الأصلية، فمنهم من يؤكد أنّها مسيحية، حيث كانت تؤدي صلواتها وتحضر القداس في الكنيسة، ويرجح آخرون بأنّها تنتمي إلى الطائفة الموسويّة.
كما يُحكى أنّها انتقلت إلى بيروت لأسباب مجهولة لا تخلو من قسوة، وذلك في السبعينيّات من القرن الماضي، أسوة بكثير من اليهود الحلبيين الذين غادروا المدينة دون رغبة حقيقية منهم، وقد لزمت بيتها هناك حتى رحيلها، بينما يشير آخرون إلى أنّها لم تغادر مدينتها على الإطلاق، فقد وافتها المنية في منزلها الصغير الكائن في منطقة المنشية القديمة، حيث سكنت فيه آخر سنوات عمرها التي لم تكن مزهرة، بل كابدت فيها العوز وضنك العيش.
أمّا المغنية فيروز فتعدّ ميسورة الحال نسبياً، فقد كانت تمتلك منزلاً واسعاً من الطراز التقليدي، فيه صالون كبير يتوزع على أطرافه عدد من الأعمدة الرخامية البديعة، في حين تزخر جدرانه بصور قديمة بالأبيض والأسود توثق حفلاتها أيام صباها وتألقها، والمنزل يقع في الجهة اليمنى من الشارع المتفرع عن جادّة القدسي بعد مقر جمعية العاديات بالاتجاه الصاعد نحو ثانوية المأمون، وسكنت فيه وحيدة حتى انتقالها إلى العالم الآخر في نهاية السبعينيّات من القرن العشرين، حيث دأب الأهالي والجيران على مساعدتها وخدمتها في أيامها الأخيرة احتراماً لماضيها الفني العريق، وتقديراً لسمعتها الطيبة وحسن معشرها.
عائلة غزالة الفنية
يتربع على عرش هذه الأسرة الفنية الحلبية المتميزة عازف القانون الفنان المعروف يعقوب غزالة، وهو من أهم عازفي آلة القانون في النصف الأول من القرن العشرين وأبرزهم في مدينة حلب، مدينة الموسيقى الأولى والطرب الأصيل في العالم العربي في تلك الفترة.
أمّا ابنه سليم فقد تربى في كنفه، مما وفر له بيئة فنية جاذبة، جعلته يتقن العزف على آلتي القانون والكمان منذ نعومة أظفاره، وقد أتاحت له موهبته اللافتة مشاركة والده في العزف مع أهم الفرق الموسيقية الحلبية وأشهرها آنذاك، وهو لم يزل في عمر الشباب.
جاء ذكر يعقوب غزالة، وابنه سليم غزالة في كثير من المراجع الفنية الحلبية كعازفين بارعين من فئة النخبة، كما أنهما ظهرا في عدد من الصور النادرة لفرق طربية حلبية، ومنها الصورة التي كتب في أعلاها: رواد الطرب في بر الشام، ويعود تاريخها إلى عام (1927)، حيث كانت تلك الفرقة مؤلفة من أعلام الموسيقى وأساطنة الطرب في الشهباء، وهم الفنانون:
عمر البطش، صبحي الحريري، أحمد جنيد، محمد جنيد، عبد اللطيف النبكي على آلة الناي، رحمو بشير على آلة العود، علي الدرويش، يعقوب غزالة على آلة القانون، توفيق الصباغ، سليم غزالة على آلة الكمان، مراد فراية على الإيقاع، وهذا الأخير ينتمي إلى الطائفة الموسوية أيضاً.
كما يجدر ذكره أنّ الفنان سليم غزالة كان عضواً في أول فرقة موسيقية تأسست في إذاعة حلب إثر إنشائها عام (1949)، حيث ضمت نخبة من فناني حلب في تلك الحقبة، وهم:
رئيس الفرقة: توفيق الصباغ.
على آلة الكمان: أوريك بدروني – توفيق الصباغ – موسى غزالة – عزيز غنّام – محمد ملّاح – وانيس وارطنيان – أنطوان حكيم.
على آلة العود: نديم الدرويش – مجدي العقيلي.
على آلة القانون: سليم غزالة – محمد رجب – أمين خياط.
على الرق: أمين أنيس.
على آلة الكلارينيت: أنطوان زابيطا.
على الناي: محمد عبدو بظت.
أعتقد – حسب المعلومات المتوافرة – أنهما لم يغادرا حلب، حيث استمرا في نشاطهما الفني المتميز في المدينة حتى رحيلهما إلى العالم الآخر، في حين يعيش حالياً ألبير أيال ابن سليم غزالة في منطقة بروكلين بمدينة نيويورك.
السيدة نظلة
تعدّ السيدة نظلة واسمها الحقيقي هو (إنطوانيت دباح البقر) من بقايا الزمن الجميل، وقد نشأت في حي بندرة اليهود في المدينة القديمة، ثم انتقلت للإقامة في منطقة (القلّة)(3) المجاورة لمحلة بَحسيْتا، ومن ثَمّ استقرت في حي الجميليّة أسوة بأغلب أبناء الطائفة الموسوية، وهي واحدة من أقدم العاملات في جوقات الغناء، على أنّها اعتزلت المهنة منذ فترة إثر تقدمها في العمر، وتراجع الطلب نسبياً على الخوجات.
احترفت السيدة إنطوانيت الفن منذ مطلع شبابها حيث أتقنت العزف على آلتي العود والطبلة، وقد ساعدها جمالها الطبيعي (بشرة بيضاء وشعر أشقر)، على الانخراط في عالم الخوجات وإحياء أعراس النساء لا سيما في قهوة البرتقال، وحفلاتهنّ الخاصة التي يطلق عليها في حلب اسم (القَبول).
وقد حدثني عنها الدكتور فيصل رفاعي (عميد كلية الهندسة المدنية في جامعة حلب في فترة التسعينيّات)، حيث اشترت منه منزلاً في بناية تجارية قام بتشييدها في نهاية السبعينيّات من القرن العشرين تقع بجوار فرن الواعظ في شارع شوقي بحي الجميليّة، ونشير إلى أنّها رفضت فكرة الهجرة في فترة التسعينيّات على الرغم من صدور قرارات حكومية جديدة تتيح لأفراد الطائفة الموسوية مغادرة سورية، وأصرت على البقاء في حلب، حيث كانت تخشى عدم قدرتها على إيجاد عمل فني مناسب لها في أمريكا، إذ إنّ قلبها كان معلقاً بفنها وعودها، ثم أضافت أنّها تخاف من العبيد السود الذين يلتهمون البيض في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت ذات بشرة بيضاء وشعر أشقر كما أسلفنا، فقال لها الدكتور فيصل هذه المعلومات عن أصحاب البشرة السمراء غير صحيحة، فهم لا يلتهمون أصحاب البشرة البيضاء، في نهاية المطاف اختارت متابعة حياتها بحلب على الرغم من محاولات الطائفة المتكررة بإقناعها على قبول فكرة الرحيل إلّا أنّ جهودهم جميعها باءت بالإخفاق.
من جهة أخرى تحدث كثيرون عن شطارتها المهنية، ومهارتها في إدارة فرقتها التي كانت تنشر البهجة والرضا في أجواء أعراس النسوان في حلب، فقد دأبت على تسيير أعمالها انطلاقاً من منزلها الكائن في منطقة القلّة، حيث أقامت في حوش عربي تقليدي يضم فناءً داخليّاً وبركة ماء حجرية صغيرة في فترتي الستينيّات والسبعينيّات من القرن الفائت، وعُرفتْ الخوجة نظلة ببراعتها في عقد صفقاتها مع زبائنها، حتى أنّها لا تنسى الاتفاق معهم على موضوع (فكاك التعليق)(4)، وقد اشتهرت بجلب الراقصات المحترفات من لبنان للمشاركة مع فرقتها خصيصاً، كما تعاونت كثيراً مع المطربة فايدة عادل أهم مطربة أعراس في تلك الحقبة.
ممّا لاشك فيه أنّ نظلة هي واحدة من فئة لا يتجاوز عدد أفرادها أصابع اليد الواحدة من أبناء الطائفة الموسويّة الذين فضّلوا البقاء في حلب بعد سنة ألفين، حيث آثرت استكمال حياتها في مدينتها بين أصدقائها ومعارفها على الهجرة إلى أماكن بعيدة موحشة.
بعد مسيرة فنية ومهنية طويلة انتقلت إلى جوار ربها عام (2015) بهدوء وسكينة وقد ناهز عمرها الثمانين وربما أكثر بقليل، بينما بقي عودها وحيداً في منزلها بحي الجميليّة.
(1)كتاب تاريخ اليهود في حلب: تأليف الدكتور محمود حريتاني، صدر عام (2008)، عن دار شعاع للنشر والعلوم، في حلب.
(2)كتاب ذكريات من ماضي حلب: تأليف القاضي سعد زغلول الكواكبي، صدر عن نادي السيارات والسياحة السوري، حلب، عام (2009).
(3) القلّة: سميت بالقلّة لأنها كانت بالنسبة إلى الخندق الذي يجاورها قلّة ومرتفعاً، وتعدّ حيّاً يهودياً أسوة بحي بَحْسيتا الملاصق لها، ولها ثلاثة أبواب تغلق ليلاً، باب عند مدخل حي بَحْسيتا، وباب عند منطقة بوابة القصب، وباب أمام محل البغايا، وفيها كنيسان لليهود: بيت ناسي، ومدراش ألبومين، من عائلاتها آل شقالو وهم حاخامية، وآل كندي وهم تجار، وآل يوسف برج، وآخرون، وقد انتقل معظمهم إلى محلة الجميليّة، ثم هاجر أغلبهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأوّل أسرة مسلمة سكنت القلّة عام (1946) هي عائلة الحاج محمد قصّاص، ثم تبعها آل قناعة في العام نفسه، وآل طحّان عام (1947)، ثم توافد إليها أجناس مختلفة من أكراد وماردينيين، كما كثرت البغايا في بيوتها، وحين اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية عام (1948) هاجم الحلبيون القلّة، فقامت العائلات الإسلامية الثلاث بحماية سكانها اليهود، والقلّة كانت محلّة نظيفة تغسل أزقتها عصراً، وتجلس العائلات اليهودية كل مساء أمام أبواب دورها تحتسي القهوة.
انظر كتاب أحياء حلب وأسواقها، تأليف خير الدين الأسدي، وتحقيق عبد الفتاح رواس قلعه جي، الصفحة (317).
(4) “فكاك” التعليق: الفكاك: الفِكاك والفَكاك مصدرا فكّ، وتستخدم الفْكاك في ما يلي: فكاك الرهن، فكاك اللي انزت للرقاصة أو للخوجة، فكاك اللي انزت للطبّال في العرس، فكاك العسكرية، إلخ.
انظر موسوعة حلب (المقارنة)، تأليف خير الدين الأسدي، وتحقيق محمد كمال، المجلد السادس، الصفحة (87).