مقالات
مكتبُ الرُّشديَّة في مدينة حمَاة (المدرسة الرُّشدية)
سليمان الصليعي الحراكي – التاريخ السوري المعاصر
وردتني أسئلةٌ واستفسَاراتٌ كثيرةٌ، من عدَد من البَاحثين والمهتمين، عن موقعِ ومكان مكتبِ الرُّشديَّة، أو المدرسة الرُّشديَّة في مدينة حماة، وتاريخ تأسيسيها، بل وأضافَ بعضُهم أنهم لم يسمعُوا بوجودِ هذه المدرسةِ في حماةَ قبلاً، رغم أنَّها إحدى أشهرِ مدَارس حماة، وتقع في بقعةٍ ومكانٍ يعرفُه كلُّ الحمويين مَعرفةً حقَّة، كمَا أن هذه المدرسةَ استَقبلت الطُّلاب من أنحاءِ لواءِ حماة وما يتبعها كحمص وسلميَّة والعمرانية وجبال الكلبية وغيرها، وتخرَّج منها جمعٌ من الدَّارسين من الأعيانِ والرِّجالات، كمَا قامَ على نظارتِها وخِدمتهَا جُملةٌ من أهلِ الفضلِ والعِلمِ.
تاريخُ التَّأسيس ومنهجُ التَّدريس:
تأسَّس مكتبُ الرُّشديَّة بجهودِ حكومةِ لواءِ حماة في عهد الدَّولة العثمانيَّة في مدَّة متصرِّفها عبد الهادي باشَا، بتاريخ سنة (1287 هـ / 1870 م)، وهي أوَّل مدرسةٍ حكوميَّة عُثمانيَّة تأسَّست في مدينةِ حماة، وذلكَ لتعليمِ اللُّغة التُّركيَّة العثمانية، والعلوم الدِّينيَّة، ومبادئ اللُّغتين العربيَّة والفارسيَّة، مع العلوم الطَّبيعيَّة والجغرافيَا والتَّاريخ وغيرهَا.
مكان المدرَسة وذكرها:
تقعُ المدرسة الرُّشديَّة في محلَّة باب حِمص، في القسمِ السُّفليِّ من هذا المحلَّة المسمَّاة اليوم بحيِّ الطَّوافرة، في مكانِ مسجدٍ قديمٍ مَشهورٍ في هذه المنطقة، يعرف بِمسجِد أبي العلا «العَلائِي»، قِبليَّ قصرِ العظمِ الشَّهيرِ بحماة.
ويدعى هذا المسجد اليوم بــ «المصلَّى»، وهو مسجدٌ صغيرٌ تقامُ فيه صلواتُ الجماعةِ عدا صلاة الجُمعة.
وقد نُقلَت هذه المدرسةُ بتاريخِ (1909 م) إلى الدَّار التي يَقطُنها المتصرِّف بجانب السَّراي القديمة بحماة، وأصبحت مدرسة إعدادية منذ ذلك التَّاريخ.
ذكرت في أعداد سالنامات ولاية سورية، كما ذكرها عبد العزيز عوض في كتابه «الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864-1914 م» باسم «المكتب الرشدي الشاهاني» فقال: (وكان في حماة مدارس رسمية تابعة للدولة، وهي: المكتب الرشدي الشاهاني، ومدرسة شعبة المعارف، وبلغ عدد المدارس فيها في سنة (1303 هـ/ 1885م): 22 مدرسة ابتدائية، ضمت (1250) تلميذاً، ومدرسة رشدية ضمت (40) تلميذاً).
سبب تأسيسها:
كانَ تأسيس هذه المدرسة وغيرها من مدارس حماة نهاية القرن التَّاسع عشر الميلادي يتمُّ بناءً على قرارٍ تَنظيميٍّ صادر عن الإدارة العثمانية، يقضي بإنشاءِ المدارس الرُّشديَّة من أجل تحديث مناهج التعليم، بعد صدور قانون نظام المعارف عام (1869 م) ولنشر اللُّغة التركية.
كما أن تصاعدَ إنشاءِ هذه المدارس كان ردَّاً غير مباشر على النَّشاط التبشيريِّ الذي تكثَّف في بلاد الشَّام نهاية العهد العثماني، حيث عملت البعثات التبشيريَّة الأميركيَّة، على إنشاءِ عددٍ من المدارس التَبشيريَّة، منها: «المدرسة الأميركانية» في حيِّ المدينة، والَّتي أطلقَ عليها بعض الحَمويينَ اسمَ «مكتب البُروتستانت».
يقولُ العلَّامة الشَّيخ محمَّد سعيد بن مصطفى النَّعسانيُّ الورديُّ الشافعيُّ الحنفيُّ (ت 1386 هـ/ 1967 م) مفتي حماة، والذي عمل مدرِّساً في المدرسة الرُّشديَّة بحماة في بداية حياته، مشيراً إلى اغترارِ النَّاس بمدارس التَّبشير والرَّاهبات، وغفلتهم عن مقاصِدها وأهدافها: (الأموال التي تدفع لمدرسة الرَّاهبات التي افتتحت حديثاً في بلادنا لتكفيرِ البناتِ، ولمدرسة الفرير وأمثالها التي لم تفتح إلا لتكفير الأبناء، كان الأجدرُ أن نمنعها عنهم، وبدلاً من أن نحجم عن إرسالِ أبنائنا إلى مثل هذه المدارس، نرى المسلمين يتهافتونَ على إدخالِ أبنائهم وبناتهم فيها تهافت الفراشِ على النار).
أشهرُ نظَّار المدرسة الرُّشديَّة بحماة:
كان العلَّامة الشيخ محمَّد نوري بن أحمد الكيلاني الحموي (ت 1326 هـ/ 1908 م)، نقيبُ أشرافِ حماة، وعضو مجلسِ حكومةِ لواء حماةَ حينها، أوَّل من اختيرَ لنظارةِ المكتبِ، مما أثار حفيظةَ بعض حُسَّاده ومنافسيه، فأثقلوا عليه في الكلامَ والتَّعريض، وبلغهُ ذلك فردَّ عليهم نظماً، وقال:
لله قومٌ أعابوا البدر من حسدٍ | والبدر في تِمِّه ما شابه نقص |
فما يضرُّك يا بدري وقد لفظوا | سيماء أنفسهم مما به اختصوا |
والداء من حسد يغري بصاحبه | حتى وكل إنا قد حكاه النص |
تأريخ إنشائها عند شُعراء حماة:
نظمَ جمعٌ من أشهر شعراء وأدباءِ حماةَ القَصائد والتَّواريخ التي تشيدُ بإنشاءِ هذه المدرسةِ، وتعرِّف بقرارِ إنشائها، وهو ما يعكسُ الحاجة الملحَّة التي كانَ استشرفها الأعيانُ والنَّابهون لدعمِ النَّشاط العلميِّ والنَّهضة التعليميَّة التي توقفت عن التطور منذ نهاية العهد المملوكيِّ، حيث اعتمدت الإدارة العثمانية على أسلوب التَّعليم القديم طوال فترة حكمها.
قال الشَّاعر العلَّامة أسعد بن أحمد العظم الحمويُّ (ت 1299 هـ/ 1880 م) مؤرِّخاً إنشاء مكتبِ الرُّشديَّة بحماة، فقال بحسابِ الجمَّل مبرزاً تاريخ التَّأسيس في (1287 هـ):
من فضل ِربِّ العالمينَ الوفيَّه | بمحضِ جودِ الدَّولة العليَّه |
قلنا وفي التَّاريخ: «عبدُ الهادي | بنى بديعَ مكتبِ الرُّشديه» |
وقد نقشَت هذه الأبيات على جدارِ المسجدِ الدَّاخلية جهة الشَّرق.
وقال في التأريخ لتأسيسِ مكتب الرُّشديَّة أيضاً في (1287 هـ):
آيُ الفتوحِ لقد تبدَّت تَنجلي | أنوارُها مِن مطلعِ الإمداد |
قد تم أرِّخهُ: «بنا زَاهٍ بنا | ءُ المكتبِ الرُّشدي بعبدِ الهادي» |
قال شاعرُ حماة والشام على الإطلاق، الشَّاعر المبرز الشَّيخ محمَّد بن هِلال بن حمُّود الشهير بالهلاليِّ الحمويِّ (ت 1311 هـ/1893 م) في تأريخِ امتحاناتِ مكتب الرُّشدية، منوهاً بدور نوري باشا الكيلاني، فقال:
في مكتبِ الرُّشديَّة استرشدْ بما | يهدي ويُحيِي العلمَ بعد دُثورِ |
لحماةَ قد حُقَّ الفخارُ لأنَّها | أضحَت ببهْجتهِ عَروس خُدورِ |
فلكٌ جرت فيهِ العُلوم طَوالعاً | بالطَّالبينَ غدت سماءَ بُدورِ |
لله مُظهرُ قُطبهَا «النُّوريُّ» من | عَلَّامةٍ غَوَّاصِ لُجَّ بحورِ |
منْ مُفردٍ هُو أَوَّلٌ، ثَانٍ لهُ | ذُو الفَضلِ «عبد الله» خَيرُ شَكورِ |
عَلَّامتانِ مُعلِّمانِ كِلاهُمَا | عِلمُ الكَلامِ لديهِ عِلمُ ضَرورِي |
لمنارِ مدرسَةٍ بها الدَّاعِي دَعَا | بمحمَّدٍ شمسِ المعارِفِ «نُورِي» |
قال العَلَّامةُ والمؤرِّخُ نوري بَاشا بن أحمد الكيلانيُّ الحمويُّ (ت 1326 هـ/ 1908 م)، في ديوانه المخطوط «نديمة الخاطرِ» في أرجوزة يمتدحُ فيها السُّلطان عبد الحميد الثَّاني العثماني على إحسانه بتأسيس هذه المدرسة:
إذ أوجدَ العُلومَ والمكاتِب | وكَثَّرَ الفُنونَ والرَّغائِب |
وسهَّل التَّحصيلَ للأطفالِ | حتَّى ارتَقوا لذُروةِ الكَمالِ |
واستَحوذَ الآدابَ والمعارف | وبعدَ جهْلٍ صَار كل عَارف |
وقد حَبَانَا «مكتَبَ الرُّشديَّة» | مِن جُودِه بحمَاتَنَا المحميَّة |
شهادة المدرسة الرشدية:
يمنح مكتب الرشدية لطلابه وتلاميذه شهادة علمية عند التخرج، تشبه إجازات العلماء لطلاب العلم، تذيل هذه الشهادة بتواقيع متصرف لواء حماة، وقومندان العسكر، والمفتي، وطائفة من العلماء والمدرسين، قد يصل عددهم إلى عشرات الموقعين والمصادقين على هذه الشهادة، وقد اطلعت على بعض هذه الشهادات، وفيها أزيد من ثلاثين توقيعاً.