شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – القوتلي يبذل “مساعيه الحميدة”؟
من مذكرات أكرم الحوراني (14 /133)
من مذكرات أكرم الحوراني – القوتلي يبذل “مساعيه الحميدة”؟
يتناول أكرم الحوراني في هذا الجزء من مذكراته زيارة الرئيس شكري القوتلي إلى المحافظات السورية في شهر آذار عام 1944 ولاسيما زيارته إلى حماة.
القوتلي يبذل “مساعيه الحميدة”؟
لما يئس القوتلي من جدوى استخدام أجهزة الدولة قرر استخدام نفوذه الشخصي وأساليبه الخاصة فقرر زيارة حماة ضمن جولة مفاجئة على المحافظات السورية ابتدأت في منتصف شهر آذار 1944، ولا شك أن القوتلي الذي رجع إلى دمشق زعيماً بعد زيارته للمحافظات السورية قبل انتخابات 1943 أراد أن يجرب حظه مرة أخرى ولاسيما بعد أن أصبح محتاجاً للتأيد في دمشق ذاتها حيث تعاظمت فيها قوى المعارضة بعد انعقاد دورات البرلمان ولا أدل على ذلك من أن مدينة دمشق تظاهرت وأضربت، وكأنها على موعد مع بداية رحلة القوتلي للمحافظات، فاضطرت مديرية المطبوعات والإذاعة أن تصدر البلاغ الرسمي التالي:
“أضربت المدينة صباح اليوم إضراباً شاملاً وخرج طلاب المدارس الثانوية والمعاهد العلمية في تظاهرة سلمية منظمة طافوا فيها شوارع المدينة الكبرى، وقابل وفد منهم دولة نصوح البخاري – وزير الدفاع وقدموا إليه عريضة بمطالبهم وأمانيهم -استلام الجيش. وقامت تظاهرات متعددة في مختلف نواحي المدينة، والحكومة منصرفة إلى معالجة الموقف بحكمة وروية” (صحيفة النصر: 19 آذار 1944).
ابتدأ القوتلي جولته بزيارة حمص والرئيس هاشم الأتاسي، فاحتقى به الأتاسيون وعلى رأسهم فيضي الأتاسي رئيس البلدية الذي أقام له الحفلات والولائم، وقد ألقى القوتلي خطاباً طويلاً ولكن زيارته لم تخل من منغصات – خلافاً لزيارته السابقة- فقد رد عليه الشيخ مصطفى السباعي.
كان قصد القوتلي حماة التي وصل إليها في 17 آذار، وكنا قد قررنا قبل مجيئه أن نشترك باستقباله بصفوف منظمة وشعارات محددة تدل بشكل قاطع على اتجاه المدينة الاجتماعي والوطني، وقد تولى شباب الحزب وضع الشعارات وكتابة اللافتات وتنظيم صفوف الجماهير، كانت الشعارات الوطنية تطالب باستلام الجيش وممارسة الاستقلال، وكانت الشعارات الاجتماعية تندد بالأوضاع الإقطاعية وتآمرها على القضية الوطنية.. وبكلمة مختصرة: انفجرت آلام الشعب بمئات اللافتات التي تحمل الشعارات الوطنية والتقدمية، وكانت المرة الأولى التي يتبلور فيها الاتجاه الشعبي بأفكار واضحة محددة يلتف حولها الشعب في مدينة حماة.
وما أن وصل القوتلي إلى حماة حتى انفجرت المدينة بمظاهرات شعبية كالبحر الهائج، تحمل الشعارات واللافتات، بشكل سحق كل أثر للدولة وللوجود الإقطاعي في المدينة، ولم يتمكن القوتلي والخوري وصحبهما من الوصول إلى فندق أبي الفداء الواقع على ساحة العاصي إلا بشق الأنفس، فألقى القوتلي كلمة صغيرة لم يصغ إليها أحد بسبب صخب الجماهير وترديد الهتافات الوطنية “فشكر الحمويين على عقيدتهم ووطنيتهم وطلب منهم أن يكونوا للوطن وحده؟ كما جاء في البلاغ الرسمي.
لا شك أن هذه المظاهرات بالشكل الذي جرت فيه، منعت القوتلي من ارتكاب كثير من الحماقات التي كان من الممكن أن يتورط بها.. وفي اليوم الثاني أقام له محافظ حماة حفلة في فندق أبي الفداء كانت ذات مغزى ودلالة سياسية، فقد ألقى فيها عبد الرحمن العظم كلمة ترحيبية، بدلاً عن غالب العظم كما ألقى الشيخ محمود الشقفة خطاباً دينياً.. ثم ألقى القوتلي خطاباً جاء فيه:
“في هذه المدينة توجد طبقة يقال لها طبقة الذوات وأنا من هذا الطبقة، أنا من الذوات وعائلتي من أقدم العائلات، وأنا من أصحاب الأملاك وأرباب الأراضي. وهنالك طبقة أخرى تقول أنها من الشعب وأنا أيضاً من الشعب. وقد أمضيت عشرات الأعوام مناضلاً في سبيل الشعب. إنني أعلم معنى الفكرة التي يعتنقها كل ذات من الذوات كما أعلم ماهية الفكرة التي يعتنقها كل رجل يقول أنه من الشعب لكن اسمحوا لي أن أضع هذه الأمور في مواضعها. إني على استعداد لأن أضحى بأولادي وبعائلتي في سبيل الوطن وهذا ما أريده من كل فرد، فالوطن أعلى منكم ومني. والوطن سلامة، وأريد أن تضحوا وأن أضحي أنا في سبيل الوطن”.
ثم قال: “أما الجيش هذا الجيش الذي يتغنى به كل فرد منا فإني أرجو أن يكون الوقت قريباً جداً حتى يكون هذا الجيش في أيديكم. هذا ما أؤمله بالنسبة لما قمنا به من أبحاث أو ما تقوم به من أبحاث حتى خلال رحلتنا هذه”.
“في هذه المناسبة أشكر رجال الأمم المتحدة (من بريطانيين وفرنسيين) الذي اشتركوا معنا اليوم وأمس في هذه الحفلات فنحن نعتبر بأننا واياهم نسير إثر غاية واحدة ونمضي في سبيل واحد هو تأمين النصر”.
وفي اليوم التالي ذهبنا برفقته إلى السلمية حيث أقامت لنا البلدية حفلة غداء فخمة في المدرسة الزراعية.. وأثناء تجوالنا في المدرسة ومشاهدة مصنع الألبان فيها حيث أخذ أحد الأساتذة يشرح لنا كيفية استخدام الآلات الحديثة في صناعة مشتقات الحليب، تناول محافظ حماة سامي البكري قرصاً كبيراً من الجبن وأنكب عليه يأكله بشراهة ونهم، فالتفت القوتلي إلى من حوله قائلاً: ان بطن سامي ستقتله.
كانت سيارة الرئيس في مقدمة الرتل، وأثناء عودتنا من السلمية إلى حماة أوقف سيارته في الطريق واستدعانا اليه، أنا والملقي، فجلسنا معه بجانب الطريق حيث راح يعظنا من أجل الصلح مع الذوات والوفاق والتفاهم معهم. وبعد أن أنهى مواعظه تابع الرتل سيره إلى حماة وعندما وصلنا المدينة وكانت سيارتنا قد تأخرت عن الرتل قليلاً أعد آل العظم بعضاً من زلمهم الذين صرخوا عند مرورنا بأول حي الحاضر “ببعض الألفاظ غير المستحبة” وهي الألفاظ ذاتها التي أطلقها الملقي في الماضي أثناء استقبال الشيخ تاج. فتابعنا طريقنا غير آبهين. ولكنني قلت للملقي: هذه أولى نتائج الموعظة التي زودنا بها فخامة الرئيس.
تابع القوتلي زيارته للمحافظات الأخرى، وألقى فيها خطابات خالية من كل معنى محدد وواضح.
دمشق لم تستقبل القوتلي:
لم يعد القوتلي هذه المرة إلى دمشق زعيماً كما عاد في المرة السابقة، مع أن رحلته هذه امتدت خمسة عشر يوماً قضاها متنقلاً في المحافظات السورية. وعندما دخل دمشق لم يجر له أي استقبال شعبي، فاضطر أن يحشد في اليوم الثاني عدداً من أنصار الحكومة في الجامع الأموي الذي أدى فيه صلاة الجمعة.
لم يتمكن القوتلي من كظم مشاعره. فقد كتبت الصحف أن وفداً من الطلبة هنأ القوتلي بسلامة العودة، “فأوضح لهؤلاء الطلاب ما كان لاضطراب الحالة في دمشق خلال أيام الرحلة من أثر سئ في نفسه”. (النصر: 2 نيسان 1944).
التندر بخطاب القوتلي
كشف القوتلي ببساطة حقيقية الفتن الدامية التي كان يرتكبها النظام في المدينة، كما أشار إلى قضية المدينة، الأمر الذي تجنبنا أثارته في المجلس وخشينا من مغبته، وكان للأسلوب الساذج الذي طرح به هذه المشكلة فائدة كبرى إذ ترك خطابه اثراً في جميع الأوساط الشعبية بسورية ولاسيما في دمشق، ولطالما سمعت الكثيرين يتندرون من قوله “أنا من الذوات”.
إعداد مرشحي انتخابات 1947:
لم يتراجع القوتلي عن أهدافه بالنسبة للحركة الشعبية في حماة بل سلك إلى تحقيقها الأسلوب السياسي بدلاً من العنف، فأصبح يهيئ منذ الآن عبد الرحمن العظم بدلاً من غالب العظم، والشيخ محمود الشقفة، وأديب نصور بديلاً لفريد مرهج. أما نجيب البرازي الموالي للحكومة فمرضي عنه. وهكذا فقد شرع في تهيئة القائمة النيابية سلفاً بالنسبة للمعركة الانتخابية القادمة بعد ثلاث سنوات.. ولم يكن الناس مخطئين في ظنونهم، فقد حصل فعلاً في انتخابات 1947 ما توقعوه سلفاً.
انظر :
من مذكرات أكرم الحوراني (132) – ما في عيش بلا جيش
من مذكرات أكرم الحوراني (131) – مصلحتا الميرة والأعاشة
من مذكرات أكرم الحوراني (130) – وزارة دفاع بلا جيش
من مذكرات أكرم الحوراني (129) – صعود نجم المعارضة
من مذكرات أكرم الحوراني (128) – قضية الجيش مرة أخرى
من مذكرات أكرم الحوراني (127) – المنطلقات المنحرفة لعهد شكري القوتلي منذ بدايته
من مذكرات أكرم الحوراني (126) – كل الصلاحيات، بلا جيش، لا تساوي بصلة
من مذكرات أكرم الحوراني (125) – أساس مفاسد النظام البرلماني الديمقراطي
من مذكرات أكرم الحوراني (124) – تشكيل لجنة العشائر (أواخر كانون الأول عام 1943)
من مذكرات أكرم الحوراني (123) – إستلام الحكومة السورية الصلاحيات عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (122) – إقدام في لبنان وتخاذل في سورية
من مذكرات أكرم الحوراني (121) – لماذا وهبت سوريا الأقضية الأربعة للبنان؟
من مذكرات أكرم الحوراني (120) – دور المجلس النيابي في قيادة الحركة الوطنية
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: