مقالات
رحلة مع تحقيق مخطوط «البَسْطِ التَّامِّ فِي الرِّحْلَةِ لِبعضِ بِلَادِ الشَّامِ»
سُليمان بن خالد الصُّليعي الحراكيُّ – التاريخ السوري المعاصر
هي من نوادِرِ الرَّحلاتِ العلميَّة في العصرِ العثمانيِّ، طُبعت محقَّقة مع تَعليقاتٍ نَفيسَةٍ، وحواشٍ ضافيةٍ عَلى نُسخةٍ فريدةٍ وَحيدَة هي مُسودَّةُ المؤلِّف، وبخطِّ يدهِ، والمخطوطُ مَحفوظٌ في مَكتبة لايبزك في جمهورية ألمانيا الاتحادية، ضمنَ مَخطوطاتِ مَكتبةِ أُسرةِ الرِّفاعِي الدِّمشقيَّة، تحتَ رَقم حِفظ جَديد [Vollers 848 – 01]، وقديمٍ برقَم [D.C. 145 – 01]، وفهرسةٍ برقم [Vollers, S. 277, I]، وقد صدرَ هذا المخطوطُ ضِمنَ دَراسةٍ قُمتُ بها، عُنيتُ بإخرَاجهِ: دَار الفَتح للدِّراساتِ والنَّشر.
ومؤلِّفها هو الرحّالةُ الرَّحلةُ، والعلّامةَ الجليلُ، والمحدِّثَ النَّبيل، أبي الفداء إسماعيلَ بنَ محمدٍ الجَرّاحي العَجلوني الدِّمشقيُّ الشَّافعيُّ (ت 1162 هـ/ 1749 م) المحدِّثُ تحتَ قبَّة النَّسرِ في الجامع الأمويِّ الكبيرِ بدمشقَ مدَّة (41) عاماً، وهو صاحبَ «كشفُ الخَفا ومُزيلُ الإلبَاس» أكثرُ كُتبهِ شُهرةً بينَ العُلماءِ والطَّلبةِ، وهو أَيضَاً مؤلِّف كتابِ «الفيضِ الجَاري بشرحِ صَحيحِ البُخاري» أَوسعُ شَرحٍ سُطِّر لصَحيحِ البُخاريِّ، إذ كُتبَ مِن مُسوداتِه مَائتينِ واثنينِ وتِسعينَ كُرَّاسةً، بما يعادلُ (12) ألف صَفحة، وما يزالُ الكِتابُ على جَلالتِهِ حَبيسَ دُورِ المَخطوطاتِ، لم تَجرِ عليهِ يَدُ التَّحقيقِ والعِنايةِ، ومؤلَّفاتهُ الماتعةُ النَّافعةُ كثيرةٌ، حصرتُها في (28) مؤلفاً في التَّفسير وعُلومِ القُرآنِ والحديثِ النَّبويِّ والتَّاريخِ والنَّحو والأَدبِ والشِّعرِ والرَّحلاتِ وغير ذلك.
ورحلة «البَسْطِ التَّامِّ» حافلةٌ بالتَّراجمِ المهمَّة، والأشعارِ الرَّائقةِ، والإجازاتِ العِلميَّةِ النَّادرةِ. بالإضافةِ إلى وصفِ ما زاره من المعالمِ الأثريَّة، محدِّثًا عن أعلامِ تلكَ المدنِ من العُلماء والأمراءِ والأعيانِ، ومجالسهِ معهم.
فقد قُدِّر لِي أنْ أعثُرَ أثناءَ تَصنيفِ كتابٍ أُعدُّهُ تحتَ عُنوان «تاريخُ حمَاة في كُتبِ الرَّحالَةِ والجُغرافيين والمُستشرِقين» على أوراقٍ عتيقَةٍ في أضْعافِ مَجموعٍ خطِّيٍّ، بخطِّ العلَّامةِ المُحدِّثِ أبي الفداء إسماعيلُ بن محمَّد جرَّاح العَجْلوني ثم الدِّمشقيِّ الشَّافعيِّ، الشَّهير بالجرَّاحِي (1087 – 1162 هـ/ 1676-1748 م)، صنَّفها -رحمه الله- تحت عُنوان «البَسطُ التَّامُ في الرِّحلةِ لبعض بِلاد الشَّام».
وقد لفتَ نَظري ما قدَّمهُ المؤلِّفُ من وصفٍ مُفصَّلٍ لمعالِمِ مدينة حماةَ ونواحيها – وهو المبحثُ الَّذي ساقَني لمعرفَةِ هذه الرِّحلة -ووصفهِ الدَّقيقِ لمزاراتِهَا وجَوامِعهَا وحمَّاماتها وقُصورِهَا وتُربهَا ونَواعيْرهَا وآثارها وعُمرانِها ومنتَزهَاتِها في منتصف القرن الثَّاني عشر الهِجري، وهو مبحثٌ لم يتطرَّق له الرَّحالة الَّذين زاروا المدينة على هذا الوجه من التَفصيْلِ والتَدقيقِ والتَّحرير.
وقد يزولُ العَجبُ إذَا عَلمنَا مِن ثنايَا هذا المَخطوطِ، أنَّ صِهرَ الحَافظِ العَجْلُونيِّ، هُو السيِّدُ الحَسيبُ النَّسيبُ عبدُ الرَّحيمِ العَقيليّ العدويُّ الحَمويّ -والذي ترجمت له في ثنايا الرحلة -، وأنَّه حلَّ في منزلِ صهرهِ عند بِنتِه حين نزل حَماة.
هذا فضلاً عن لقائِه بأهمِّ عُلمائِها وأَعيانِها وأمرائِها ورِجالاتها في ذلك الزمان، ممَّن غابَ ذِكرهُم في طُروسِ الكُتبِ والوثائِقِ، وممَّا يُلفتُ النَّظرَ أيضاً مجموعُ الإجازَاتِ الحافِلةِ والنَّادرَةِ الَّتي سَطَّرها المؤلِّفُ ضمنَ ثنايَا مخطوطِ رِحلتِهِ، مما أسبغَ عليه صفةَ «الرِّحلة العلميَّة»، التي تبرُز اهتمام الحافظِ العجلونيِّ بالأسانيدِ والإجازاتِ والمُسلسَلاتِ الحديثيَّة الَّتي صَنَّفَ فيها ثِبْتَاً سمَّاه «حِليَةُ أهلِ الفَضْلِ والكَمَالِ بِاتِّصَالِ الأَسَانِيْدِ بِكُمَّلِ الرِّجَالِ».
ثم توسَّعتُ في التَّمحيصِ والبحثِ ضمن ثنايا هذا المخطوطِ، فوجدتُ المؤلِّف قدَّمَ لكلِّ مكانٍ حلَّهُ من المدنِ الشَّامية الأُخرى ما يفيدُ تَوثيْقَاً ووصفَاً، حتى في الضِّياعِ المجهولةِ والقُرى النَّائيَةِ والأريافِ البعيدة الَّتي مرَّ بها، من أنهارٍ وعُيونٍ وينابِيع، ومدَارس وخَوانِق وزَوايَا، ومقامَات وأضرِحَة وتُرب، وتكايا وخَاناتٍ وخربَ مُندَرِسَة، وغيرها بما يشمل كافة العناصر المكانية، إضافةً إلى الطَّابعِ البحثيِّ والتَوثيقيِّ الَّذي اكتسبتُه هذه الرحلة، كون صاحبها محدِّثَ وَقتهِ، وجلَّة عَصره، بين طبقةِ العُلماءِ الفُحولِ، والمحدِّثين الثقات.
انتقلَ المحدِّث العجلونيُّ في رحلتِه من دِمشقَ، وفقَ مَرحلتينِ:
المرحلةُ الأولى: قبلَ الانطلاقِ من دمشقَ وفق التَّالي: الجامع الأموي ! حي باب تُوما ! حي باب شرقي ! حي الشَّاغور ! تربة باب الصَّغير ! تربة القُبَيْبَات ! تُربة الكثيب الأحمر ! حيِّ الصَّالحية ! مقبرة الصُّوفية غربيَّ دمشق .
ثم انتقلَ بعدهَا المؤلِّفُ لزيارة القرى الَّتي تقع ضِمن نطاق جِنوبِ غَربيِّ دِمشقَ، فانتقل من: دمشق ! قطنا ! داريَّا ! المزَّة.
المرحلة الثَّانية: بعد انطلاقِ ركب الرِّحلة من دِمشق وفق التَّالي:
- ريف دمشق: حرستا ! القصير ! الرَّيحان ! عدرا ! المعلوليَّة ! القِطَيْفِة ! قلعة القَسْطَل ! النَّبك ! قارَة ! عيونُ العَلَق.
- حمص وريفها: حِسيَّاء (حِسْيِة) ! شمسيْن ! حمص ! تلبيْسَة ! الرَّستن.
- حماة وريفها: حماة ! تيزين ! رَبيعَة ! دير الصَّليب ! مِصياف ! القَدمُوس.
- السَّاحل الشَّامي: جبلَة ! قلعة المَرْقَب ! طَرطُوس ! الِمنيَة ! طَرابُلس الشَّام.
- بعلبك وطريق العودة: بعلبك ! قرية شيت ! الكَرْك ! الزَّبداني ! دُمَّر ! دمشق.
كان ابتداءُ رحلة الحافظِ إسماعيل العَجْلونيِّ قبلَ ظُهرِ يوم السَّبت في (2 ربيع الأول 1153 هـ/ 28 مايو 1740 م)، على ما أوردَ في ابتداءِ الرِّحلةِ، أمَّا إيابه إلى دِمشقَ الشَّام فكان قبل ظُهرِ يوم الأربعاء بتاريخ (11 ربيع الثاني 1153 هـ/ 6 تموز «يوليو» 1740 م) على ما ذكر في ختامِها.
وعليه فإنَّ جملة مدَّةِ الرِّحلة أربعين يوماً كمَا ذكر الحافظُ العَجْلُونيُّ نفسه، أَمضى الحافظُ العجلونيُّ أطولَ فترةٍ من إقامَتِهِ خِلالَ هذهِ الرِّحلةِ في مدينةِ حَماة بينَ (10-21 ربيع الأوَّل/ 5-16 حُزيران «يوليو») أي أنَّهُ أقامَ بها (12) يوماً بيوم الدُّخولِ والخُروج، وهذا يبرزُ اهتمامَهُ بالتعرفِ عليها.
كما أنَّ حماة كانَت مُزدَهِرةً بعَمَارِها وحَراكِهَا السِّياسيِّ والاجتَماعِيِّ والعِلميّ، في عصرِ واليها الهُمام أسعَد بَاشا بن إسماعيل بَاشَا العَظْم (ت 1170 هـ)، الذي بنَى فِيها قَصرهُ المُنيف، وجَمَّلةُ بنفائِس الرُّخامِ والأَخشابِ النَّادرة، والمنحوتاتِ والنُّقوش والخُطوط، فأضحى زاخراً بنوادر الفُنونِ الإسلاميَّة، وكانت تمامُ بنائِه في سَنة (1153 هـ/ 1740 م)، وهي السَّنة التي دخل بها الحافظُ إسماعيل العَجلُوني لمدينةِ حَماة، أي قبلَ بناءِ قصرِ العظمِ في دمشق بأربعِ سَنوات.
وكانَت مُدَّة إقامتِهِ في طَرابُلس الشَّام (4) أيَّام، وفي بَعْلَبَكَّ (5) أيام، وفي جَبْلَةَ يَومين، وكذلك في حِمصَ، ولم تَزد مُدَّة إقامتهِ في المحطَّات الأُخرى عَن يَومٍ وَاحِد.
وقسَّمت دراسَتي لهذَا المخطوط النفيس إلى مباحث وأقسام وفق التالي:
القسم الأول: وهو القِسم الدِّراسي، وهو يتضمن ثَلاثَة مَطالب:
[1] تَرجمَةُ المؤلِّفِ: ودراسَةُ سِيرتِه وحَياتِه العِلميَّة وآثارِهِ ومؤلَّفاتِه، معَ فصْلٍ مُخصَّصٍ لدِراسَةِ نَسبِه وأَصْلِه.
[2] دراسةُ الرِّحلةِ: وتتضمَّنُ ذكرَ الغرضِ مِنها، وزمِن تأليفها، وتثبيْتِ عُنوانِها، ومَسارِ الرِّحلة، ورفقاءِ المؤلِّفِ في السَّفر، مع دراسةِ عَاداتِ وهَواجِسِ المؤلِّف أثناءَ الرِّحلة.
[3] دِراسةُ المخطوطِ: قدَّمت فيه وصفاَ للنُسْخَةِ المعتمدَةِ ومنهجِ التَحْقِيق.
القسم الثَّاني: وهو القسمُ التَحقيقيُّ، يتضمَّنُ النصَّ المُحقَقَ، مع شروحٍ طويلةٍ في الهَوامشِ، لم أستطع تجنبها، أو الاكتفاء بإشارات تُعجِم على القارئ كما هو نهج كثير من المحققين، فتحرَّيتُ شرحَ المعالمِ والمواقعِ والأَعلامِ والتَراجمِ، وغريبِ الحَديثِ ومُعجمِه، مع تعليقاتٍ وجدتُها مفيدةً في بابِها.
وفي الختامِ أقولُ: لعلِّي بِنفضِ الغُبار عَن هذهِ الرِّحلةِ العِلمِيَّةِ والتَوثِيْقيَّة، أُقدمُ لجموعِ البَاحثينَ والدَّارسِين مادَّةً عِلمية مُفيدَة ورصينة، فلا أذكرُ أني مَررتُ علَى ترجمةٍ مُبهَمَة إلَّا ونظرت في أخبَارَها، وكَشفت غُموضَها، وأثبتُ مَراجِعها المَطبوعة منها أو المخْطُوطة. ولا آبدةٍ إلا أَضأتُ جَوانِبهُا، وأبرزتُ معالمها، واستقصيتُ غَرائبهَا. ولا شاردةٍ إلا أوضحتها وبيَّنتها، ولا خبرٍ غريبٍ إلا تَتبَعتُه، وأحطْتُ بفروعه، وكأنِّي سائرٌ في رِكب هذهِ الرِّحلة. بأسلوب مبسوطِ العِبارَةِ، سَهل المَنحَى، مُسهَبِ الشَّرح، مُشبَعِ التحقيقِ، قَريبِ المنالِ، جَزيلَ المَباحثِ، دَانِي القُطوف.
ولستُ أخفِي رَغبتي الَّتي كُنتُ أُردِّدُها في نَفسِي، وأكتُمها في قلبي كُلَّما راجعتُ أسماءَ الكُتبِ أو التحقيقاتِ الَّتي أتوقُ للفراغِ مِنها، أَن أَدرسَ رِحلةً عِلمِيَّةً كَالَّتي بينَ أَيدينَا، بما يَروي الغلَّةَ ويَشفِي العِلَّة، فكانَ تحقِيقي أَقربَ لكتابَة تَاريخِ هَذهِ المُدن والقُرى والهَواجرِ والأَرياف، مُتخِيَّراً عذبَ المَوارِدِ، مُستَجْمِعَاً أَشتَاتَ الفَوائِدِ.
فما أصبتُ به من أبوابِ الخَير فهو بعونِ وفتحِ الملكِ الدَّيان، وما أخطأتُ به فهَو من تقصيري ومن الشيطان أعاذني الله I وإيَّاكم مِنهُ ومن الخذلان، راجياً من المولَى سبحانه وتعالى أن يَمْلأ هذا الكتاب فراغَاً ويَسُدَّ ثُلمةً في موضوعهِ وفترته ومنهجه، وأن يقدِّم للقارئ والمهتمِّ ما هو مفيدٌ في بابه، ويكون مَعْلَمَاً يتَّكِئُ عليه كتَّابُ التَّراجم والتَّواريخ والبلدانيَّات وفق النَّهج العلميِّ والبحثيِّ السَّليم، فريداً في طريقة البحث والضَّبطِ والتَّوثيق والعَرْضِ، وهي رغبة طالما تمنَّيتها.