وثائق سوريا
كلمة فارس الخوري بمناسبة ذكرى تقسيم فلسطين عام 1954
نص كلمة فارس الخوري رئيس مجلس الوزراء بمناسبة وعد بلفور والتي أذاعها من إذاعة دمشق مساء التاسع والعشرين من تشرين الثاني عام 1954م.
نص الكلمة:
في مثل هذا اليوم من سنة ألف وتسعمائة وسبع وأربعين اقترفت الهيئة العامة في الأمم المتحدة جريمة تبقى لطخة عار في جبين الإنسانية التي تدعي هذه المنظمة العظيمة تمثيلها في ألمع أدوارها وأظهر تاريخ البشرية اشراقاً فقد حكمت هذه الهيئة الموقرة بأكثرية الدول الممثلة فيها على جم فقير من البشر الأبرياء الأطهار بالهلاك والدمار لتمس لجرم ارتكبوه بل ليفسحوا مجالاً في دورهم وأرضهم لعصابة من الغرباء المعتمدين والغزاة الآثمين فأباحت لهؤلاء الغزاة اهلاك العباد واجتياح البلاد والاستيلاء على الأموال ظلماً وعدواناً.
كان الحاضرون في مناقشة هذا الموضوع ممثلين عن خمس وخمسين دولة أعضاء منظمة الأمم المتحدة فانحاز منهم ثلاث وثلاثون لتأييد تقسيم فلسطين إلى شطرين يعطي لليهود الشطر الأكبر منهما البالغ نحو ستين بالمائة من مساحة البلاد وامتنع أوخاف اثنتان وعشرون دولة.
ومع أن هؤلاء المؤيدين ألفوا أكثرية عديدة من الدول فهم لم يكونوا يمثلون إلا أقلية عديدة بالنسبة لسكان الدول الممثلة في تلك المنظمة وذلك لأن أكثر الدول المؤيدة كانت من الدول الصغيرة مثل ايسلندا، وسكانها نحو مئة وخمسين ألفاً ولوكسمبورغ وسكانها ثلاثمائة ألف وأكروادور وبناما ولوكوستريكا، وسكان كل منها نحو مليون أو أقل بينما سكان الدول المخالفة مثل الهند وسكانها أربعمائة مليون والصين وسكانها خمسمائة مليون كان كل من هذه وتلك ذوات صوت واحد بدون نظر إلى التفريق سبب ضخامة الدول أو صغرها.
هؤلاء الذين صوتوا إلى جانب أمريكا في مشروع التقسيم وكان بعضهم مخدوعين “لدولة الصهيونية”المعروفة بنشاطها وبعضهم مجذوبين بمالهم من المصالح الاقتصادية أو السياسية عند الدول العظمى التي تبنت هذا المشروع وأخذت على نفسها خلق دولة يهودية في فلسطين على حساب العرب، وبعضهم أذعن لضغط الرئيس ترومان وأعوانه في عواصم الدول الصغيرة، وكان من اثر هذا الضغط الإكراه المجبران.
أمرت بعض هذه السلطات وفودها أن ترجع عما كانت أعلنته من استنكارها لمشروع التقسيم ومن رؤساء هذه الوفود من أذعن على مضض وعاد فانحاز إلى الجانب الأميركي في تأييد المشروع ومنهم من امتنع بوازع الضمير فأبدلته حكومته بغيره وكثيرون من رؤساء المؤيدين كانوا يقولون لنا معتذرين قلوبنا معكم ولكن أصواتنا عليكم فنحن مجبرون على إطاعة تعليمات رؤسائنا في عواصمنا، وكانت نتيجة هذا الصراع الذي طال أمده أن صوتت دول أمريكا الشمالية والجنوبية وعددها اثنتان وعشرون ولم يصوت إلى جانبنا منها سوى دولة واحدة هي اليونان، وأما دول أسيا وافريقيا الثمانية عشرة فقط صوتت معنا منها إحدى عشرة وأيد التقسيم أو امتنع عن التصويت الباقون.
ومن الغريب أن ذينك الخمسين التنابذين أمريكا في الغرب وروسيا السوفياتية الشوعية في الشرق على مابينهما من العداء السافر فقد اتفقتا على نصرة الصهيونية المجرمة وتسخير قواهما ونفوذهما لخدمة هذه العصاية الهدامة، فكان مشروع التقسيم هذا أول قرار وآخر قرار اتفقوا فيه منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرنسيسكو إلى يومنا هذا فقد كان ومازال ديدنهم التصويت المتنافر سواء أكان الموضوع حقاً أو باطلاً.
حكموا بهذا التقسيم فلم يقنع اليهود بنصيبهم عنه وكان حصة الأسد، وتذرعوا بانتهاء موعد الهدنة الأولى، واغتنموا فرصة تردد العرب لقبول تمديدها بضعة أيام وأغاروا على أقسام واسعة من فلسطين خارج ما خص بهم فاحتلوها بدون حرب وشردوا سكانها البالغين أكثر من ثلث مليون من النفوس.رضا
ومازالوا يستعدون ويتهيأون للوثوب على أقسام أخرى واحتلال مساحات من الأراضي العامرة ليستقبلوا فيها رفاقهم المتطلعين إلى اللحاق بهم في كل زاوية من زوايا الدنيا وقد أطمعهم تراخي منظمة الأمم المتحدة فدفعهم ذلك إلى الدلال وحسبان العاقبة لهم مهم كانت السبل التي طرقوها للوصول إلى غاياتهم المجرمة.
هاتيك الدول التي أوجدتهم تنظر إليهم بعين الرضا والصمت العميق وهم يتمردون عليها ويزدرون بقراراتها ويمتنعون عن احترام أحكامها وقبول توصياتها ويتدللون عليها تدلل الابن الوحيد على أبيه المشغوف بينما العرب المعتدى عليهم يلجأون إلى الاحتجاج ويرفعون أصواتهم بالشكوى بدون مجيب.
في الثاني من هذا الشهر سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر كتب وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور كتاباً إلى الثري اليهودي المشهور روتشيلد ضمنه وعده المشئوم بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وبعد الحرب العامة أقيمت بريطانيا منتدبة على فلسطين لسنة ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين فتحت في أثنائه الباب على مصرعيه لقبول المهاجرين اليهود من أين ماكان مخرجهم في زوايا الأرض وكان عددهم قبل الانتداب البريطاني لا يتجاوز خمسين ألفاً، وفي ظل الانتداب البريطاني تملك اليهود شطراً عظيماً من أرض فلسطين إما شراء من بعض سكانها العرب وإما انتهاباً من أملاك الدولة التي أقطعهم اياها رجال الانتداب.
وفي ظل الانتداب تسلح اليهود بأحدث الأسلحة وأقاموا المعاقل والحصون على مقياس واسع تحت سمع الدولة المنتدبة وبصرها واستولوا على ثروة البلاد المعدنية والصناعية حتى ظهروا عند نهاية الانتداب وإعلان تأسيس دولتهم التي سموها إسرائيل.
في الخامس عشر من أيار عام 1948 أصاب جيش مدرب ومجهز بأحدث الأسلحة فكانت لهم الجولة الأولى مع العرب وكانت نتيجة هذه الجولة لهم وهم يتأهبون ويتحفزون للجولة الثانية يوسعون بها البقعة التي احتلوها من الأرض على حساب جيرانهم العرب فالكارثة قد وقعت ونشرت أظفارها وامتدت جذورها واحتل اليهود وسكنوا الدور وشيدوا القصور وأقاموا الحصون والمعاقل واستولوا على كل ما تركه الانتداب أو ملكه المليون العربي من سكان فلسطين وهم الآن يعدون العدة للنضال والصراع دائبين على التهيئ لجولة ثانية، ومازال السلام بعيداً عنهم وعنا معهم فهم غير مكتفين بالرقعة الواسعة التي اغتصبوها والتي أوجدها لهم حماتهم من دول الشرق والغرب ويحسبون أن شطراً كبيراً من حقهم المزعوم يسندونه إلى ربهم بما يدعون أنه وعد به إبراهيم من منحه الأرض لنسله فيما بين الفرات والنيل كما وضعوه في تاريخ نشأتهم الواردة في توراة موسى.
فمالنا والشكوى الخاسرة وهي سلاح العاجز وإلى من الشكوى إلى أنصار الخصوم وأصدقاء الأعداء. بل هي شكوى الجريح إلى الرخم والغرباء فلا جدوى من الاحتجاجات المكررة ونحن نرى اليهود وفي جوارنا يتحفزون للوثوب علينا ويهيئون أنفسهم لتكرار العدوان وتوسيع الرقعة التي يحتلوها على حسابنا، فلا يجدر أن نستعد ليس للعدوان والإعتداء بل للدفاع عن النفس، وهم في كل يوم يعطونه فرصة جديدة بمشروعية هذا الدفاع، فإذا كانت أميركا وهي على ما هي عليه من القوة والشدة تفتش عن حلفاء وتعد أقصى ما تستطيع من القوة والسلاح بحجة الدفاع ضد عدو وهمي، أفلا يجدر بنا وعدونا ماثل على عتبة بابنا يشهر سلاحه ويباشر أعمال العداء كل يوم أن يكون بذلك عبرة زاجرة على الخلود إلى السكينة والاستنامة في ظل طمأنينة موهومة.
هاهم دائبون على تحويل مجرى الأردن ليهلكوا العرب العائشين على ضفافه فحطاً وظمأ، هاهم يهاجمون القرى المتاخمة على الحدود لترويع سكانها وحملهم على الهروب بأرواحهم وأعراضهم وأموالهم ليحتلوا قراهم ويحلوا محلهم في امتيازها.
مر على اليهود ما يرقب من ألفي سنة منذ شردهم القيصر تيتوس الروماني بعيد الميلاد ومنع هو من بعده قياصر الروم وحلفاء العرب أن يستوطن اليهود مدينة القدس كما وضعوا استيطانهم لفلسطين تحت قيود وضوابط ضيقة حتى بقى عددهم محدوداً جداً في هذا القطر الذي يهيمون به ويربون أولادهم منذ نشأتهم على الشوق اليه والاستعداد لاحتلاله واسترداد مغصوباتهم القديمة إلى أن توفرت لهم العصابة الصهيونية التي قامت بهذا المشروع الضخم ونجحت فيما حشدته من الأموال وصرفته من الدهاء فجمعت لها كثرة من الدول الصغيرة والكبيرة حتى عاد مشردوا اليهود إلى هذه البقعة من فلسطين وأخذوا يعيدون ما فعله أسلافهم من عهد موسى ويشوع وأخلافهم من افناء السكان وابادة كل حي من البشر ليخلوا لهم الجو ويزدردوها لقمة سائغة هذا ديدنهم منذ القديم، وهم يعيدون تاريخهم في القرن العشرين قبل المسيح في هذا القرن العشرين بعده. فالتاريخ الآن يعيد نفسه وبينهما الأربعة آلاف سنة.
ليس لنا ان ننتظر من الدول العظمى أو الصغرى في منظمة الأمم المتحدة انصافاً فالدول الصغيرة مقطورة على عجلات الدول الكبيرة والدول مذعنة للنفوذ الصهيوني، أفلا ترى أن الدول العظمى الثلاث روسيا وأمريكا وبريطانيا أقدمت حديثاً على إيفاد سفرائها لتقديم أوراق اعتمادهم للرئيس الإسرائيلي في مدينة القدس وهذه الدول الثلاث أبرمت مشروع التقسيم الذي ضمنه فصل خاص بتدويل القدس وإخراجها من نطاق الدولة اليهودية التي خلقوها باسم إسرائيل فكأنهم بهذه الفعلة الأخيرة يوافقون ضمناً بجعل ذلك الشطر من مدينة القدس عاصمة لإسرائيل كما أن الدول الثلاث الغربية تعهدت بتصريحاتها الأخيرة سنة 1950 بمحافظة الأوضاع السياسية والإقليمية في هذه البقعة من الأرض على حالها بدون أن يعتبروها تغيير وتبديل مهما كان نوعه، فأقدام أمريكا وبريطانيا على هذه الفعلة يشير إلى نقضهم بأنفسهم لهذا العهد الذي قطعوه عليها، إذ أن إقامة رئيس إسرائيل في مدينة القدس يشعر باتخاذها عاصمة لبلاده وتقديم أوراق الاعتماد للسفراء يكون في العاصمة فقط، فماذا تنتظر والحالة هذه من هذه الدول العظمى وهذه أفعالها وميولها ظاهرة في كل حركة من حركاتها فليس لنا إلا الاعتماد على أنفسنا.
واختم كلمتي بتكرار ما قلته منذ بدء قضية فلسطين أن هذه المشكلة لا تحل إلا في سهول فلسطين وعلى أكامها، والسلام على من اتبع الهدى وخشي عاقبة الردى.