وثائق سوريا
بيان خريجي الجامعات العليا إلى لجنة كتابة الدستور عام 1950
شكلت الجمعية التأسيسية في سورية لجنة لكتابة دستور جديد في سورية عام 1950م. واستقبل رئيس اللجنة في يوم الأحد الخامس من شباط عام 1950 وفداً من ما يسمى “خريجو الجامعات العليا” والذي قدم له ورقة تتضمن ملاحظاتهم وآراؤهم حول دستور الجمهورية الجديد ولاسيما في موضوع دين الدولة والرئيس.
نص البيان:
في الوقت الذي تجتمع فيه لجنة الدستور في الجمعية التأسيسية لوضع مشروع دستور للجمهورية السورية، أخذت تترد في البلاد أنباء ودعايات لوضع مادة في الدستور تنص على جعل دين الدولة الإسلام فاجتمع فريق خريجي الجامعات العليا – وكلهم مسلمون- ودرسوا هذا الأمر فوجدوا أن إقرار مثل هذه المادة تنجم عنه أخطار اجتماعية ووطنية يمكن ايرادها فيما يلي:
1- ان حركة القوميات في النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن نشأت عن وجود شعور قومي لدى جماعات تربط بينها آصرة العرق، وتقارب بين أفرادها الالام والامال الواحدة، وتجمع بينها الرغبة في العيش المشترك، فإذا تم لجماعة استكمال وحدتها القومية وتحقق استقلالها. ثم بدا من عنصر من عناصرها يختلف ديناً عن عنصرها الآخر ما يؤدي إلى أن يشعر العنصر الثاني بعدم الرغبة في المشاركة في الحياة الواحدة، والتطلع إلى المستقبل بنفس الروح وذات القوة، أدى ذلك إلى نشوء حذر بين العناصر المكونة لهذه الجماعة، والحذر يؤدي بدوره إلى حصول تراخ في نشاط المجموع، ويعود بالشلل على كافة العناصر، ويقضي على وحدة صفوف هذا الشعب.
2- ان وضع الشعوب – صغيرة كانت أم كبيرة – التي لم يمض زمن طويل على نوالها استقلالها، وعلى تكون شعورها بشخصيتها المستقلة القائمة على إدراك مميزاتها القومية، والتي يخشى على وحدتها من التفكك لفقدان تقاليد الحياة الاستقلالية التي تنشأ عادة في الدول ذات العراقة في التمتع بالحرية، ان ذلك يقضي بأن تكون جميع عناصرها – ولو اختلفت دينا- متكاتفة متراصة الصفوف، وأن يجتنب كل فريق ما قد يسيء إلى الفريق الآخر فلا يشعر بأنه يلقى في دولته معاملة تختلف عن المعاملة التي يلقاها الآخرون ، فينشأ لديه الشعور بأنه لا يتمتع بنفس الحقوق مما يؤدي إلى إيجاد حالة اضطراب نفسي واجتماعي، تعوق تقدم هذا الشعب وتؤخر سيره وتطوره.
3- ان الشعوب التي سبقتنا في ميدان الحضارة مرت من مرحلة الدين في التنظيم والحكم حين كان رجال الدين يسيرون أمور الدولة، إلى مرحلة القومية، وهذه الشعوب تنتقل منها اليوم إلى مرحلة أوسع هي مرحلة التنظيم على أساس التكتل السياسي والاقتصادي ذي الصبغة العالمية، أما نحن العرب فقد بدأ شعورنا بقوميتنا المستقلة قبيل الحرب العالمية الأولى، الا ان ذلك كان مقصوراً على فئة محدودة من الشباب المثقف، ولكن هذا الشعور بدأ يعم بعد التسويات التي فرضت على بلاد العرب بعد الحرب العالمية الأولى، حتى أنه أصبح الدافع الرئيسي لكل الثورات التحريرية التي وقعت في هذه البلاد فهل نعود اليوم – بعد زوال الحكم الأجنبي – إلى مرحلة سبقت مرحلة الوعي القومي، فنصبغ دولتنا صبغة دينية بدل ان نزيل ما خلفه تدخل الأجنبي في بلادنا من تفرقة بين المسلمين والمسيحيين، تلك التفرقة التي اتخذت شكل فتن دينية في القرن التاسع عشر، منذ بدأ تدخل الأجنبي في شؤون الدولة العثمانية.
4- لقد تم لسورية أن تكون أسبق الدول العربية إلى التحرر التام من القيد الأجنبي، وأولها في ضرب المثل في تحقيق المساواة بين أفرادها دون النظر إلى عقائدهم، فسنت قانون انتخاب تقدمي قلل من اللون الطائفي الذي كان سائداً، ورجا يومئذ كثير من الناس أن يزول التمثيل الديني زوالا تاماً في يوم من الأيام لتكون الوحدة أشد وأقوى بين عناصر الأمة كافة، فكيف يراد الآن اذن أن يعدل السوريون عن الخطوة التقدمية التي خطتها البلاد، وأن يجعل لون الدولة دينياً بحيث يكون لرجال الدين الكلمة الأولى في شؤون البلاد، مع أن وظيفتهم الروحية هي أسمى بكثير من ذلك، تقضي عليهم بالإنصراف إلى الأمور المعنوية التي خلقت لهم وخلقوا لها والابتعاد عن الأمور السياسية.
5- كان دستور سورية القديم ينص على جعل دين رئيس الجمهورية الأعلى دين الدولة نفسها، وكان لذلك موضع انتقاد باعتبار أنه لم يعد يساير تطور البلاد السياسي والاجتماعي، فهل من المعقول أن تأتي جمعية عام 1950 التأسيسية فتكون أقل فهما للأوضاع الدولية والمفاهيم الحقوقية من جمعية عام 1928 التأسيسية، ولا سيما أن الدولة في مفهومها الحقوقي ليست مجتمعاً مغلقاً مقصوراً على فئة معينة ذات لون خاص، بل هي شخص معنوي ينتظم عناصر كثيرة قد تختلف في الدين والجنس.
6- اذا جعلت الجمعية التأسيسية دين الجمهورية السورية الإسلام، فسيؤي ذلك إلى وقوع فتور في نفوس السوريين غير المسلمين داخل البلاد، وسيحدث تراخياً في الروابط التي تجمع ما بين الوطن الأم والمهاجرين السوريين في الخارج ولاسيما أن أكثريتهم من غير المسلمين، وهذه الروابط التي تحبب وطنهم إليهم قائمة على العاطفة والحنين إلى البلاد فقط فإذا تراخت هذه العاطفة أوتضاءلت كانت خسارة البلاد كبيرة بفقد عونهم المادي الذي يفد بكرم من جالياتنا كلما حزب الوطن أمر أو ألمت به نازلة، وفقد عونهم المعنوي الذي تبينا آثاره في الدعوة عن قضية فلسطين لدى الدول التي يقيمون على أراضيها.
7- ان انتساب سورية إلى منظمة الأمم المتحدة، ووجود مسلمين ومسيحيين في صفوف وفودها، كان أبلغ رد على الأجانب الذين كانوا دوماً يتذرعون للبقاء في بلادنا بحجة الدفاع عن حقوق الأقليات، فستكون محاولة لجنة الدستور اذن بعثاً جديداً لكل الاتهامات، ايقاظاً لكل الشكوك والمطامع التي تغذيها الدول الكبرى المتطلعة إلى هذه البلاد، كما أنها تكون فرصة نادرة يستغلها الانتهازيون المنادون بإيجاد وطن مسيحي في لبنان، فينتقل إليه مسيحيو سورية، ووطن مسلم في سورية ينتقل إليه مسلمو لبنان، وهو ما تعمل له بعض العناصر في لبنان وخارج لبنان.
8- ان منظمة الأمم المتحدة أقرت لائحة حقوق الإنسان، وسورية عضو في هذه الهيأة الدولية، وقد أراد واضعو هذه الشرعة ابطال الفوارق بين أفراد شعب واحد اذا كانت قائمة على اختلاف الدين أو العرق أو الجنس، وأنهم أرادوا أن تنظر الدول إلى رعاياها نظرة التساوي دون التمييز بين أفرادها، وأن تعتبر الناحية الإنسانية وناحية الشعور بالشخصية المعنوية للدولة هي المعول في تبعية المواطنين لدولة ما، دون الالتفات إلى عقائدهم أو ألوانهم أو اجناسهم، فيكون دستورنا الجديد اذن خروجاً عما ينتظر من دولة عضو في المنظمة، ويتألف شعبها من عناصر مختلفة الأيان مثل شعبنا.
9- ماهي الفائدة القريبة أو البعيدة من وضع مثل هذه المادة في الدستور؟ انها أما ان توضع لتطبق مع كل ما تستتبعه من تغيير في أنظمة الحكم والحكام والقوانين وهذا لا يلتئم مع أوضاعنا الاجتماعية العصرية ولا مع التطور العام في العالم، وأما الا تطبق بالفعل فتبقى شكليه، وهذا غير مرغوب فيه للمحذورات التي أوردناها ولاسيما ان وضعها للشكل فقط لن يكون من قبيل تحصيل الحاصل، فأكثرية الشعب الآن مسلمة وليس من الممكن ان تخرج البلاد عن عادات وتقاليد كان للإسلام أكبر الآثر في تكوينها.
10- لم يرد في دساتير كثير من الدول ذات الشعب الموحد الدين – كشعوب أميركا اللاتينية- ما يصبغها بالصبغة الدينية، وقد جاء دستور الهند خلوا مما تجعل هذه الدولة دينية، مع أن الهند هي أحق دول الأرض بان تجعل كيانها السياسي والإجتماعي قائماً على المظهر الديني، لأن الاختلاف في الدين كان السبب في المذابح الكبرى التي وقعت بين شعبها وشعب الباكستان، والسبب الأساسي في انقسام هذه الأمة إلى دولتين منفصلين تمام الانفصال.
لهذه الأسباب كلها، فإننا نرجو أن يلتفت نظر أعضاء لجنة الدستور إلى هذه الناحية الحيوية، آملين العدول عن هذه الفكرة، وأن تطوي هذه المادة من مشروع الدستور في حالة اقتراحها فذلك احفظ لوحدة الشعب السوري، وأدعي إلى إبقاء تماسك صفوفه، وأبعد للخطر الذي يطل على البلاد ويحيط بها من كل جانب والذي سيجد سبيلاً للنفاذ إلى مقاتلنا فيما إذا آنس أعداء البلاد تفككاً في الصفوف أو تخاذلاً في النفوس.