مقالات
د. سعد طه كيّالي: الأحزاب السياسية “الفئوية” في حلب في عهد الانتداب الفرنسي
د. سعد طه كيّالي – التاريخ السوري المعاصر
نشطتْ الحياة السياسية في سورية، إبان الانتداب الفرنسي، حيث لعبت الأحزاب التي تشكّلت في تلك الحقبة من الزمن، دوراً جوهرياً في الحراك السياسي السوري، علماً أنّ الكتلة الوطنية، كانت تحتل صدارة الحدَث السياسي، من خلال الرصيد الشعبي لرجالاتها، ذوي الجذور التاريخية، والمواقف النضالية، مما كان يسفر عن فوزهم الساحق بالانتخابات التشريعية.
تكاثرت الأحزاب بشكل لافت، بدءاً من أواخر العقد الثاني وصولاً إلى العقد الثالث من القرن المنصرم، حيث أدى انتشار الفكر الإيديولوجي سواءً القومي – العروبي والسوري – القومي واليساري – الماركسي و الديني – الإسلامي، إلى تكوّن أحزاب ذات طابع فكري متخصّص، إضافةً إلى أحزاب تبنّت توجهات مختلفة، دانت بالولاء إلى عدة تيارات فكرية أو شعبوية، لا يتعدى أفرادها المئات لا بل العشرات، حيث تذكر المراجع التاريخية، العديد من تلك الأحزاب الفئوية الصغيرة التي نشطت في العاصمة دمشق، ومنها على سبيل المثال: حزب الحرس الملكي الحديدي ذو التوجهات الهاشمية، والحزب الملكي المتحالف مع حزبَي الإصلاح والاتحاد الوطني وهي أحزاب تضم رجالات من الطبقة الأرستقراطية ووجهاء الحارات والضباط المتقاعدين، وحزب الميثاقيين وحزب المجاهدين وهما حزبان يضمّان لفيفاً من رجالات الثورة، وحزب الوحدة المُناهض لحزب الشعب ( عبد الرحمن الشهبندر ) وليس ( حزب كيخيا – القدسي ) الذي تشكّل لاحقاً ويحمل ذات الاسم.
كان لمدينة حلب في تلك الفترة ( أي عشرينات وثلاثينات القرن الماضي ) نصيب وافر من تلك الأحزاب الصغيرة، التي لم يكن لها أيّ رصيد على المستوى الشعبي، وإنّما برزت نتيجة تغاضي السلطات الفرنسية عنها، بداعي ” دمقرطة ” الحياة السياسية في سورية. وقد رصدت المراجع التاريخية الأحزاب التالية:
١- حزب الترقي السوري
تؤكد المصادر أنّه تأسس سنة ١٩٢٣ إستناداً إلى افتتاحية العدد الأول من جريدة ” الترقي ” لصاحبها ( بهاء الدين الكاتب ) والصادر بتاريخ ٩ / ١١ / ١٩٢٣ بعنوان ” أماني الحزب ” وجاء فيها:
( … فصحيفتنا هذه إنما تنطق بلسان حزب الترقي السوري السياسي، الذي تشكّل حديثاً وتعمل على نشر مبادئه، ألا وهي النهوض بهذا الوطن وأبنائه إلى مستوى المجد …الغاية من تأسيسه وخلاصة برنامجه أنّ بعضاً من ذوي العقول النيَرة من أبناء هذا الوطن الطيّب، وجد أنّ بقاء الشهباء في مؤخرة البلاد غارقة في قيود الجهل، مما يجعل حياتها الأدبية والسياسية والاجتماعية في حيّز العدَم … وقد شعر هؤلاء الأفاضل بشدّة احتياجها إلى الأحزاب التي تشكّل من نخبة الطبقة المنوّرة …).
وتشير بعض المصادر إلى أنه حزب ذو ميول تركية.
٢- حزبا مار جرجس و مار الياس
ذكرت المراجع التاريخية، نقلاً عن جريدة ” الأيام ” الدمشقية إلى وجود هذين الحزبَين، بدون التنويه عن توجهاتهما وخلفيَتهما الدينية – المذهبية، وإنّما ذُكِر في عددها الصادر بتاريخ ٢٠ شباط ١٩٣٤ خبر مفاده أنّ ( الياس شهوان وجرحي إبراهيم زار وإدكار أورفللي وسواهم من المنتسبين إلى حزب مار جرجس، صادفوا عبّود جرجي فقي وهو من أعضاء حزب مار الياس، فانهالوا عليه بمِديهم وعصيّهم، حتى أثخنوه جراحاً، وقد قُبِض على الثلاثة وزجّوا بالسجن …).
ولم نحصل من خلال البحث على أيّ معلومات إضافية أخرى حول الحزبَين المذكورَين، وإنما من خلال استنتاجنا الخاص، نرجّح أنّه كان صراعاً بين بعض أفراد الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية.
٣- حزب الإنقاذ
أشار إلى هذا الحزب الباحث هاشم عثمان، استناداً إلى مقالة نُشرت في صحيفة القبس ( لسان حال حزب الكتلة الوطنية ) حيث تمّ ذكر هذا الحزب في سياق انتقادي للأحزاب المارقة التي تمتهن الدجل، بدون التطرّق إلى أيّ تفاصيل أخرى.
٤- حزب الإتحاد
لم تذكر أيّ تفاصيل عن هذا الحزب، وإنّما ( حسب رأينا ) هو امتداد لحزب الترقي، بالاستناد إلى أنّ الحزب المذكور، الذي أتينا على ذكره سابقاً، قد انتهى وأوقفت السلطات نشر صحيفته ” الترقي ” وبالتالي صدر بدلاً عنها صحيفة الاتحاد سنة ١٩٢٦ التي نوّهتْ في عددها الأول، أنها بديلة الترقي، ولذا أقول إنه ربما تشكّل حزب الإتحاد على أنقاض حزب الترفي، كما حدث للصحيفَتيُن.
٥- حزب الشارة البيضاء
انضم إلى الكتلة الوطنية في سورية، العديد من أبناء الوطن المسيحيين، كان أشهرهم على الإطلاق الرئيس فارس الخوري، المشهود له بمواقفه الوطنية في النضال من أجل الاستقلال وإعلاء مجد سورية. كما كان لحلب حصتها الغنيّة من أبنائها المسيحيين الوطنيين، أمثال ليون زمريا وإدمون حمصي وميخائيل اليان ونعيم أنطاكي وإدمون ربّاط، وفتح الله أسيون وكثيرون غيرهم …
وإنّما ظهرت إلى الساحة السياسية، في ثلاثينيات القرن المُنصرم، قلّة من المسيحيين، عبر جمعية دينية أثارت جدلاً واسعاً ضمن الأوساط السياسية، وأطلقت على حزبها اسم ” جمعية الشارة البيضاء ” كان من أهدافها الدفاع عن حقوق المسيحيين، يرأسها عبّود قنباز، الموظف السابق في الجيش الفرنسي، ودوائر الاستخبارات، حيث تؤكد المصادر التاريخية، اتصاله الدائم بدوائر المندوبية، بَيد أنّ هنالك مصادر أخرى نفت تلك التهم المَنسوبة إليه عبر أوراق مذكراته، التي عُثِر عليها بعد وفاته …
كان لأعضائها لباس موحّد مؤلّف من قميص أبيض وبنطال أزرق، أمّا رايتهم فكانت بيضاء.
أثارت الحادثة التي حصلت في ١١ تشرين الأول من عام ١٩٣٦ ضمن ” سوق الأحد ” بحلب، جدلاً واسعاً حول الحزب المذكور، وإشكالية جسيمة كادت تودي بفتنة بين المسلمين والمسيحيين، ومفادها أنّ أحد المسيحيين اعتدى بالشتم على امرأة كانت تبيع البرغل، في السوق المذكور، مما أدى إلى اشتباك مسلّح بين أفراد من المسلمين والمسيحيين، أسفر عنه سقوط قتلى من الطرفين ( اثنان من المسلمين وثلاثة من المسيحيين ) كما جُرِح خمسة وعشرون شخصاً.
ويذكر الدكتور عبد الرحمن الكيّالي في هذا السياق: ( … وعلى أثرها احتشدت جموع المسلمين وتراكضت من كلّ محلّة متسلحين، وتوجهت إلى محلات المسيحيين في الشرعسوس، وقسطل الحرامي، وأقيول، وتراكض أيضاً المسيحيون وهم مسلحون لملاقاتهم من الحميدية، والجابرية، والسليمانية، وكادت المجزرة تحدث، لولا ركبت أنا والدكتور حسن فؤاد إبراهيم باشا والشيخ عبد القادر السرميني، ومعنا بعض الأخوان في العربة )( تشير الروايات التاريخية إلى شخصيات وطنية بارزة أمثال عبدو المصري، وأبو جبرا خوّام وإدمون حمصي )
ويستطرد الكيّالي قائلاً:
( وأسرعنا إلى محل الحادثة، ووقفنا نصدّ الطرفيْن، وننادي: أجسامنا أولاً ثم هجومكم، ارجعوا ولا تزيدوا الفتنة ناراً … فرجِع الطرفان ).
إثر هذه الحادثة الأليمة، ألقت قوات الدرك والشرطة القبض على المتهمين، وأحيلوا إلى التحقيق، كما قامت تلك القوات بمداهمة مقر جمعية الشارة البيضاء، وتمّت مصادرة الأوراق والوثائق الخاصة بالحزب المذكور.
ومن الجدير بالذكر أنّ الدكتور عبد الرحمن الكيّالي ذكر في معرِض حديثه عن الواقعة، بأنه قد تم الاحتفاظ بالأوراق تحاشياً لإثارتها، وذلك من خلال عدم ذكر أسماء أركانها ومتزعّميها …
بُعيْد فترة من الزمن صدر القرار بحلّ الحزب، والعفو عن المتهمين، وانتهى بذلك حزب ” جمعية الشارة البيضاء “.
تجدر الإشارة إلى أنّ الأب فرديناند توتل اليسوعي أورد في وثائقه التاريخية، ضمن سياق أحداث سنة ١٩٣٦ بأنّ الرؤساء الروحيون للطوائف المسيحية، أصدروا بياناً نفوا من خلاله نسبة فتنة ” سوق الأحد ” إلى النعرات الدينية، وبأنّ الأحداث التي نشبت بين المسلمين والمسيحين كانت لأسباب فجائية تافهة … وإثر تلك الحادثة، قام السادة الأساقفة وأعضاء الكتلة الوطنية بتبادل الزيارات.
وانتهت بذلك حقبة تاريخية – دراماتيكية لظاهرة الأحزاب الفئوية في زمن الانتداب …
… لعلها دروس نأخذها عِبرَةً من التاريخ.
المراجع والمصادر
– الأحزاب السياسية في سورية، أ. هاشم عثمان، دار الريّس، الطبعة الأولى، ٢٠٠١
– المراحل، الدكتور عبد الرحمن الكيّالي، الجزء الرابع، مطبعة الضاد، الطبعة الأولى، ١٩٦٠
– وثائق تاريخية عن حلب، الأب فرديناند توْتل اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية / بيروت، ١٩٦٠
– مما ذكره الدكتور حسين المصري حول حادثة سوق الأحد، ضمن منشور خاص.
– الصورة تُظهر لفيفاً من الوجهاء المسيحين والمسلمين، في اجتماع لهم بدارة الشيخ عبد الحميد الجابري، بهدف استصدار بيان استنكار لحادثة ” سوق الأحد ” المشؤومة. ( صورة مطبوعة من أرشيف سيدي الوالد )
انظر:
د. سعد طه كيّالي: قصة إنشاء “الترامواي” الكهربائي في حلب
د. سعد طه كيّالي: الكهرباء في حلب .. من البداية إلى التأميم