بدر الدين تلجبيني – التاريخ السوري المعاصر
في إحدى اماسي ربيع عام 1960 وبعد ان أذّن الحاج سليم الحياني لصلاة العشاء، وأخلد كبار السن للنوم، وقف محمود أمام المرآة يمشط شعره بعناية ويضع عليه المزيد من (البريانتين) وهو مادة زيتية ملمعة للشعر كانت شائعة في تلك الأيام، وقام وارتدى قميصه الأبيض ذو الياقة الصلبة المنشاة وبنطاله الأسود ذو (الدبل) أسفل الساق وحذاءه الأسود الجلدي الملمع ذو الأرضية (الكوسله) والذي فصله عند الحذاء (ديبو شحاده)، وتعطر بعطر (ريفدور) اشتراه من بسطة (الجلاخ) في السوق، وحمل مسبحته (الكهرمان) واتجه نحو منزل خاله في الحي الشمالي حيث شباب العائلة مجتمعون هناك.
مر محمود بدكان السمان (الحاج رحمون) بائع زيت الكاز، ثم بمضافة الشيخ عيسى المجدمي، ودكان السمان (عبدو زكور ابو عنتر) الذي كان يبيع أفضل أنواع لبن الغنم الأصلي في المدينة، ثم مر من أمام مدخل السوق الجنوبي فرأى الحارس الليلي (عبدو الجزار) يجلس على مدخل السوق يراقب الشارع.
تابع سيره من أمام دكان (الحاج زكور سعد) بائع الفواكه المناوب ليلاَ بشكل مستمر صيفاً وشتاء ،ثم وصل الى (مقهى فرح) شرقي خان (الحاج فيصل ويسي) فرأى الساهرين من رواد المقهى يلعبون الطاوله والسكمبيل ويحتسون الشاي والقهوة على ضوء لمبة الكهرباء الناعسة، ثم مر من امام السراي فرأى الحارس الليلي (أحمد الزكي) قاعداً على الباب أمام المبنى والحارس (حمد غازي) يتجول في الشارع الرئيسي جيئة وذهابا.
مر من أمام منزل مدير المنطقة والذي كان يدعى (القائم مقام) وسلم على (الشيخ حنو) حارس المنزل، ثم مر من أمام معمل كهرباء (العلوي) الذي كان محركه يهدر ليلاً ونهاراً ليؤمن الكهرباء للمدينة، ثم من امام قهوة (فينيش) وتوقف عند السمان ( العنتبلي ) على الزاوية مكان دكان (فوزي كريدي) سابقاَ واشترى بعشرة قروش فستق محمص لفه السمان بقمع ورقي ،ثم من امام
كازية العلوي في الكراج والتي كان يديرها العم (نبيه عزت) ، الى مقهى حسن هدال ثم محل الأرمني (مانيك) بائع الخمور ورأى شاباَ يخرج من عنده مترنحا يهذي بكلام غير مفهوم فأسرع الخطى ومر من أمام مبنى الجمارك ثم خزان الماء العالي فرأى مجموعة من الشباب اليافعين متجمعين تحت لمبة كهرباء الشارع يلعبون (الصومينا ) ويلعبون لعبة (قينا قينا يامن دق الحجرينا يلي سميتو لميتو ببطن أمو حطيتو يلي سميتو غزال يطلع بخفيه وينزل بخفية …) وضحكاتهم تجلجل فتمزق سكون الشارع، ووصل أخيرا دار خاله فسمع ضجيجا واصوات ضحكات صادرة من الداخل فعلم أن السهرة في أوجها، طرق الباب فردت احدى بنات خاله (تفضل محمود حاطين على راسنا).
ودخل محمود مطأطىء الرأس ونظر بطرف عينه فرأى صحن الدار مزدحما بالنساء والبنات، ودخل غرفة الضيوف فوجدها مزدحمة بالساهرين، وسلم فلم يرد عليه أحد فالكل منشغل برؤية الحاج صالح وهو يرقص في وسط الغرفة كالسعدان !! وكانت هذه عقوبة خسارته بلعبة (الخاتم والفناجين) حيث توضع عشرة فناجين فارغة مقلوبة في صينية ويقوم أحدهم بالتواري خلف ستارة وبإخفاء الخاتم تحت أحد الفناجين، ويأتي دور اكتشاف الفنجان الذي تحته الخاتم بين اثنين متباريين، فالذي يعثر على الخاتم قبل الاخر يحق له أن يطلب من الطرف الخاسر أي طلب، وغالباَ ما كان يطلب منه تقليد حركة القرد، أو حك مؤخرته بالحائط، وسط ضحكات الحضور وهتافهم (حكها وتحكوك بالحيط)!!
فجأة دخلت صينية السيالة اللذيذة المحشوه باللبه والجوز والسابحة بالقطر والسمن العربي فتوقف اللعب فكانت حلاوة صلحة وتهدئة لنفوس الخاسرين !! وتؤكل (هبشا) بالأصابع، بعدها خرج محمود من غرفة السهرة لكي لا (يستعوقه) أهله فسمع صوت احدى بنات خاله تودعه بعبارة : محمود !! سلملي على (فاطمه)، واطربه سماع صوتها الذي نضج واصبح أكثر نعومة، وخرج منتشياً بعد سهرة مرح ووجبة سيالة لذيذه (لا عالحال ولا عالبال) فوجد الشوارع غارقة في الظلام، والدكاكين والمقاهي قد أغلقت أبوابها ولم يبق في الشوارع سوى الحراس الليليون، ومر من امام دكان مانيك بائع الخمر فرأى رجلاً قابعاً أمام دكانه المغلقة يتساءل : (وينو هادا مانيك .. ليش سكر الدكان ؟!) ويبدو ان هذا الزبون لم يرتوي بعد !!،
أسرع محمود خطاه فهو يخاف من السكارى وأخيراً وصل الى البيت وفتح الباب بالمفتاح الحديدي، واندس في فراشه وهو يسترجع صوت ابنة خاله التي أرسلت سلام الى اخته فاطمة، والتي ارتدت الحجاب حديثاً وأختفت من الساحة فور بلوغها الثانية عشرة، فهو يذكرها وهي ابنة اثنتي عشرة سنة تلعب لعبة ( المملكه ) في الحارة ، لكن فجأة تحجبت واختفت من الشاشه ، فهو يتمنى ان يوافق والده على خطبتها له بدلا من ابنة عمه التي لا يحبها، ويغمض عينيه ويترك الأمر للتيسير ، ولقرار والده في الأخير ..!!
انظر:
بدر الدين تلجبيني: الزودة في قديم أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المولد النبوي الشريف في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: مقاهي أعزاز
بدر الدين تلجبيني: عيد الأضحى في أعزاز
بدر الدين تلجبيني: المصارعة الزيتية في أعزاز